1- الجماعة نجاةٌ
2- الفرقة هلَكةٌ
مقدمة:
لقد شرّفنا الله تعالى بالانتساب لهذا الدِّين الحنيف، وأرشدنا فيه إلى ما يحقّق لنا السّعادة في الدّنيا، والفوز في الآخرة، وكان مِن أوّل ما دعانا إليه: أن نتآخى ونتآلف، وأن نتعاون ونتكاتف، فنكون يدًا واحدةً في الحقّ، نحفظ وطننا، ونُعزّ دِيننا، ونصون عرضنا ومالنا، وأخبرنا أنّ رابطة أخوّة الدّين رابطةٌ قويّةٌ، تجمع المؤمنين وتوحّدهم، وهي أقوى مِن كلّ الرّوابط الأخرى؛ كرابطة النّسب ونحوها {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
وبيّن ربّنا عز وجل أنّنا أمّةٌ واحدةٌ، ربّها واحدٌ، وكتابها واحدٌ، فقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
وشبّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأمّة الإسلاميّة بالجسد الواحد، المتماسك القويّ المتين، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
ووصف تعاضد المؤمن مع المؤمن بالجدار المتماسك العمران، المتراصّ البنيان، فلا تزعزعه العواصف، ولا تهدمه الزّلازل، ومِن ثَمّ حثّنا صلى الله عليه وسلم على سلك السّبل الّتي تقوّي عوامل المحبّة والألفة، وتقتلع جذور الشّحناء والبغضاء، والتّفرّق والتّشرذم، فأمرنا بإفشاء السّلام، عَنِ نَافِعٍ رضي الله عنه، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ).
وبذا يتماسك المجتمع، وتقوى بنيته، ويُنصَر المظلوم، ويُقهَر الظّالم، وتضعف شوكته، ويأخذ كلّ ذي حقٍّ حقّه، كما حذّر الله عز وجل مِن التّناحر والتّدابر، فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وأخبرنا أنّ الفرقة تسبّب تزعزع الأمّة، وانتشار الجرائم والفوضى و الفساد.
يا مَن جعلتم رسول الله قدوتكم هذا هو المجد فامتازوا عن الأممِ
سوّوا الصّفوف وصونوا سرّ نهضتكم واستجمعوا الأمر قبل اللّوم والنّدمِ
1- الجماعة نجاةٌ
إنّ مِن أهمّ القواعد والأسس الّتي تقوم عليها المجتمعات، وتُبنى عليها الأوطان: الوحدة والتّآلف، فهما سبيلٌ إلى القوّة والنّصر، كما أنّ التّفرّق والاختلاف طريقٌ إلى الضّعف والهزيمة، ولقد تنوّعت أساليب القرآن والسّنّة في الدّلالة على وجوب الوحدة بين المسلمين، فتارةً يأمرنا بالوحدة أمرًا صريحًا، ويخبرنا أنّ الجماعة نجاةٌ، والفرقة هلكةٌ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
وتارةً يبيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الاعتصام بحبل الله سبيل رضى الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَاّهُ اللهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ).
وتارةً تحذّر الشّريعة مِن مفارقة الجماعة، وتبين أنّ ذلك مِن الشّيطان، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا فَقَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ).
وما ارتفعت أمّةٌ مِن الأمم وعلت رايتها إلّا بالتّلاحم بين أفرادها، والتّاريخ أعظم شاهدٍ على ذلك، فلقد وضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم أسس دولة الإسلام بالعقيدة الصّحيحة، والأخلاق الفاضلة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فوجد المهاجرون عظيم الحفاوة، وشدّة الرّعاية، وخالص الحبّ؛ مِن إخوانهم الأنصار، فكان لذلك الأثر الحسن في سلوكهم، وعلموا جميعًا أنّ الحفاظ على وحدة المسلمين فرضٌ شرعيٌّ، وواجبٌ حتميٌّ، لا يجوز التّفريط فيه بحالٍ مِن الأحوال، لتبقى الأمّة قويّةً متماسكةً، يُحفظ كيانها، ويُهزم أعدائها، وإنّ مِن أقوى الرّوابط وأوثق العرى أن يرعى المسلم حقوق الأخوّة الإسلاميّة، ويرسّخ معناها في قلبه وعقله وسلوكه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التّوبة: 71].
فبهذه المعاني تؤدّي أمّة الإسلام دورها في الحياة، وينتشر الحبّ بين أبنائها، وتزدهر حضارتها، وتغدو قلعةً شامخةً في وجوه الأعداء والطّغاة.
2- الفرقة هلَكةٌ
لقد جعل الشّيطان أعظم حظّه مِن هذه الأمّة أن يفرّق بين أبنائها، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ).
فإنّ الفرقة والاختلاف داءان خطيران، يُقعدان الأمّة عن الإصلاح والبناء، ويمكّنان للفساد والتّخريب، ويسبّبان قسوة القلوب، وفساد الجوارح، والظّلم للنّاس، وقد يؤدّيان إلى الاقتتال، وما أصيب بنو إسرائيل بالنّقص والخذلان، وحاق بهم الذّلّ والهوان، إلّا بسبب اختلافهم على أنبيائهم، واتّباع أهوائهم، فقد قال سبحانه في شأن اليهود: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64).
وقال في شأن النّصارى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14].
ولقد قصّ الله جل جلاله علينا ما وقعت فيه بنو إسرائيل من الفرقة؛ لئلّا نسير سيرهم {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [يونس: 93].
فقد بلغ بهم اختلافهم مبلغ الشّقاق والعناد {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
ولذا نهانا أن نضلّ كما ضلّوا {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
وأمرنا بسلوك الطّريق المستقيم، ونهانا عن الطّرق الأخرى الّتي ينتج عنها التّفرّق {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
ولكن بسبب اتّباع الهوى، والغرور بالدّنيا، اختلف النّاس وتفرّقوا، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَهَلَكَتْ سَبْعُونَ فِرْقَةً، وَخَلَصَتْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، تَهْلِكُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، وَتَخْلُصُ فِرْقَةٌ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: مَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: (الْجَمَاعَةُ الْجَمَاعَةُ).
خاتمةٌ:
أجمِلْ بأن يشعر أبناء الأمّة الإسلاميّة بوجوب الوحدة والألفة واجتماع القلوب، والبعد عن الخلاف والفرقة، وكلّ ما يمزّق الأمّة ويضعفها، ويؤدّي إلى فساد ذات البين، فيتوحّدوا وينبذوا الخلافات جانبًا، وحريٌّ بكلّ غيورٍ على دِينه أن يسعى في كلّ طريقٍ صحيحٍ لجمع كلمة المسلمين، ويجتنب كلّ طريقٍ يؤدّي إلى العداوة والفرقة، وبذلك تتقارب القلوب المتباعدة، ويزول كثيرٌ مِن الشّقاق والاختلاف، كما علينا أن نعلم أنّ الشّريعة الإسلاميّة الغرّاء قد عُنيت بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وما ذاك إلّا لأهمّيّتها وحساسيّتها، وأمرت بطاعة ولاة الأمر في غير معصيةٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النّساء: 59].
وحثّت على السّمع والطّاعة لتبقى الأمّة مجتمعةً، بعيدةً عن الخلاف الّذي يسبّب فساد أحوالها في دِينها ودنياها، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً).
كما أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى نصح ولاة الأمر سرًّا لئلّا يفتح باب الفتنة، فجميلٌ بنا أن نعرف عِظم نعمة الأمن والوحدة واجتماع الكلمة، ونشكر ربّنا عز وجل عليها، ونكون يدًا واحدةً مع أهل الحقّ، عَنْ عَرْفَجَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ).
ولا يخفى علينا مكر الكائدين والحاقدين مِن أصحاب الاتّجاهات المنحرفة، وشرّ المفسدين والمنافقين الّذين يسعون في الأرض فسادًا، وربّما تظاهروا بالإصلاح، وأبطنوا الشّرّ لهذا البلد، فلنكن على يقظةٍ وحذرٍ مِن مكرهم وكيدهم، مستعينين بالله القويّ العزيز، فهو نِعم المولى ونِعم النّصير.