الخطابة النبوية: من أجل خطابة أكثر تأثيراً.
المحور الأول: الخطابة وعلاقتها بالفطرة والاكتساب:
تعريف الخطابة: فن مشافهة الجمهور للتأثير عليه وتوجيهه من قِبَل متكلِّم.
إذن فالخطابة تقوم على خطيب متكلم يخاطب جمهوراً مستمعاً بقصد التأثير عليه وتوجيهه.
من أجل تحقيق التأثير المطلوب لا بد للخطيب من مخاطبة: عواطف الجمهور وعقولهم.
باستقراء الخطب النبوية: يتضح الاهتمام بالإثارة العاطفية والإقناع العقلي معا في الخطابة النبوية؛ خلافا لاتجاه مشهور في تعريف الخطابة يهتم بكيف تقول وليس بماذا تقول.
لما نزلت الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي بُطُونَ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَقَالَ: (أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)، قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).
في أول خطبة في الإسلام يتجلى الجمع بين العقل والعاطفة للتأثير في الناس وإقناعهم بالدين الجديد.
فنّ التأثير في الآخرين أصله فطريّ لكن يمكن تطويره بالاكتساب: القدرة على الخطابة لها علاقة بالفروق الفردية فمن لا يجد في نفسه ميلا إليها فلا يتقحمها وليبحث عن مهارة أخرى لها بذور في نفسه ويصقلها بالتدريب.
المحور الثاني: أنواع الخطابة النبوية ومصادرها وأهميتها:
أنواع الخطابة النبوية:
راتبة: كخطب الجمع والأعياد.
عارضة: تكون عند الحاجة لها كالخطبة التي في حديث هدايا العمال، وحديث المخزومية التي سرقت، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ)، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (اللهُمَّ، هَلْ بَلَّغْتُ؟) مَرَّتَيْنِ.
يلاحظ هنا: حسن استثمار الموقف العارض باجتراح خطبة يجمع لها الناس ويلقيها على المنبر اهتماما بشأنها مع الجمع بين الإقناع العقلي والتأثير العاطفي مع عدم التشهير بالمخطئ.
سَرَقَتْ امْرَأَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الفَتْحِ، فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ، قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا، تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ)، قَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ العَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ خَطِيبًا، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا).
مسألة محاربة الفساد في الجهاز القضائي تحتاج إلى حسم لا يحتمل التأخير لذلك اجترح النبي صلى الله عليه وسلم خطبة مؤثرة ليجتث هذا المرض من جذوره بالاستعانة بأقوى أنواع التأثير العاطفي، وهو عدم التساهل مع أحد يدينه القضاء حتى لو كانت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم.
مصادر الخطب النبوية: أسندت كتب الحديث النبوي كثيرا من الخطب النبوية أحيانا كان الصحابة رضي الله عنهم يشيرون إلى أنهم سمعوها على المنبر وأحيانا لم يكونوا يشيرون إلى هذا وأحيانا كانوا يسردون الخطبة وكثيرا ما كانوا يذكرونها مفرقة في عدة أحاديث حسب الحاجة.
أهمية الخطابة الراتبة والعارضة: أهمية الخطابة الراتبة إعادة توجيه بوصلة الحياة لتشير إلى الآخرة وغسل الران الذي يتراكم على القلوب بسبب الشهوات والشبهات فهي محطات تزود بالوقود على مسافات منتظمة في طريق الرحلة إلى الله.
أهمية الخطابة العارضة استثمار حدث لتصحيح خطأ أو ترسيخ مبدأ.
المحور الثالث: الهدي النبوي في اختيار موضوع الخطبة:
موضوعات الخطب العارضة تفرضها الظروف التي استدعتها والحدث الذي يتطلب معالجة سريعة كما سبق بيانه.
موضوعات الخطب الراتبة كل الموضوعات التي تضمنتها الخطابة النبوية كانت تعالج في سياق ربط المسلم بالله تعالى ففيها بيان لطريق الاستقامة على منهج الله تعالى وحث له على التزامه في شؤونه كلها طلباً لرضى الله في الدنيا وجنته في الآخرة.
وهذا المنهج يتوافق مع منهج القرآن في عرض موضوعاته حيث نجده يربط الدنيا بالآخرة في كل تشريعاته ولا يعرف الفصل بين الديني والدنيوي.
المحور الرابع: الهدي النبوي في أسلوب الخطبة:
البلاغة: (بعثت بجوامع الكلم).
الإيجاز والإطناب والتكرار: كان يحدِّث حديثاً: لو عدَّه العادُّ لأحصاه.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم.
قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (إن الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَيُّ شَهْرٍ هَذَا)، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ ذُو الحِجَّةِ)، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا)، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ البَلْدَةَ)، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا)، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ)، قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَسَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ)، ثُمَّ قَالَ: (أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ) مَرَّتَيْنِ.
الحرص على التفاعل مع الجمهور.
قصر الخطبة: كانت صلاة رسول الله صلى لله عليه وسلم قصداً وخطبته قصداً.
وفي زيادة: یقرأ آیات من القرآن ویذكّر الناس.
(إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة).
لغة الجسم ونغمات الصوت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب: احمرت عیناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جیش، یقول: صبّحكم ومسّاكم.
عدم التشهير بالمخطئ: كما ورد في قصة ابن اللتبية، وشفاعة أسامة للغامدية؛ وقد اشتهر أنه كان يقول في خطبه: ما بال أقوام...
الجمع بين البرهان العقلي والإثارة العاطفية.
ختاماً: الخطابة تشبه الحكمة، من حيث أنها قول ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي في المكان الذي ينبغي للجمهور الذي ينبغي.