1- خطَرٌ كبيرٌ
2- مداخل الشَّيطان
مقدمة:
الكلمة في الإسلام ليست مجرّد صوتٍ ينطلق في الفضاء، بل هي فعلٌ له وزنٌ في ميزان الشّرع، وقد تكون سببًا في النّجاة أو الهلاك، فالله عز وجل خلق الكون كلّه بكلمةٍ واحدةٍ، كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].
وقال أيضًا: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
فبكلمة {كُنْ} وُجدت السّماوات والأرض، وخُلق آدم وعيسى عليهم السلام، كما في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
وإذا كانت الكلمة بهذه العظمة، فإنّ على الإنسان أن يزن كلماته، ولا يُطلق لسانه بما يهدم دِينه أو يفسد عقيدته.
ومِن أعظم نِعم الله على الإنسان نعمة اللّسان، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8-10].
وباللّسان يُوحَّد الله، ويُتلى القرآن، وتُعقد العقود، ويُدعى إلى الخير أو يُنشر الشّر.
لكنّ هذه النعمة قد تنقلب نقمةً إذا أُسيء استخدامها، وأكثر ما يخافه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأمّة هو اللّسان، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: (قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: (هَذَا).
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ).
1- خطَرٌ كبيرٌ
مَن سبّ الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كفر كفرًا أكبر مخرجًا مِن الملّة، سواءٌ كان جادًا أو مازحًا، أمّا مَن تلفّظ بهذه الألفاظ دُون قصدٍ أو عن غضبٍ شديدٍ -بحيث غاب عقله تمامًا فلم يعد يفرّق بين السّماء والأرض- فشأنه أخفّ، لكن عليه الاستغفار وتجديد الإيمان، قال تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التّوبة: 65- 66].
فالتّلفّظ بالكفر يُفقد الإنسان نِعمة الإسلام، الّتي هي مفتاح دخول الجنّة، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
مَن فقد الإسلام فقد الجنّة، ومَن تلفظ بالكفر فإنّه يُعرّض نفسه لعذاب الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ).
وإذا تلفّظ أحد الزّوجين بالكفر عن قصدٍ، فإنّ عقد الزّواج لا يستمرّ بين مؤمنٍ وكافرٍ مرتدٍّ، ولا يجوز الاستمرار إلّا بعد تجديد الإسلام، كما أنّ هذه الألفاظ تُضعف القدوة الدّينيّة داخل البيت، وتُحدِث اضطرابًا نفسيًّا لدى الأبناء، وتُعرّض الأسرة للنّبذ الاجتماعيّ، وقد يُرفع الخير والبركة عن البيت بسبب هذه الطّامّات.
نحن مأمورون بالقول السّديد، فهل ترون الكفر سدادًا؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70].
ونحن مأمورون بقول الخير، فهل ترون الكفر خيرًا؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ).
الكلمة مسؤوليٌّة عظيمةٌ، وقد تكون سببًا في رضا الله أو في سخطه، والتّلفّظ بالكفر أو سبّ الدّين ليس مجرّد زلةٍ، بل خطرٌ يهدّد الإيمان والأسرة والمجتمع، ويفوّت على الإنسان أعظم نعمةٍ؛ وهي الإسلام، ويُغلق عليه باب الجنّة، ويعرّضه لعذاب النّار، فليحرص المسلم على لسانه، وليجعل كلامه طاعةً لا معصيةً، وذِكرًا لا سخريةً، وقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مِن حدّ المسلم ألّا يؤذي بلسانه مسلمًا، فهل يكون مسلمًا مَن آذى ربّه بلسانه؟ عن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ).
2- مداخل الشَّيطان
خلق الله الإنسان وركّبه مِن عقلٍ وعاطفةٍ، وجعل له قلبًا ينبض ومشاعر تتحرّك، وابتلاه بالغضب ليختبر ضبطه لنفسه، فالغضب خلقٌ فطريٌّ، لكنّه إذا تجاوز حدّه صار داءً مهلكًا، ومصدرًا للشّرور، ومفتاحًا للنّدم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ).
فالشّجاعة الحقيقيّة ليست في القوّة الجسديّة، بل في ضبط النّفس عند الانفعال، والغضب هو غليان دم القلب طلبًا لدفع الأذى أو الانتقام، ومِن علاماته حُمرة الوجه وانتفاخ الأوداج واضطراب الأعصاب والتّصرف الأحمق، والغضب إذا لم يُضبَط، يُصبح شُعبةً مِن شُعب الجنون، ويقود إلى ما لا يُحمد، فمِن نتائج الغضب التّلفظ بما يُغضب الله، كَسَبّ الدِّين أو سبّ الذّات الإلهيّة، ممّا يُخرج الإنسان مِن الإسلام.
ربّنا يأمرنا إذا غضبنا أن نغفر، لا أن نشتم الذّات الإلهيّة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشّورى: 37].
وربّنا يأمرنا إذا غضبنا أن نكظم، لا أن نشتم، فقال سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وللغضب في دِيننا الحنيف علاجاتٌ، منها: الاستعاذة بالله مِن الشّيطان {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
ومنها: تغيير الوضع الجسديّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَنَا: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ).
ومنها: الوضوء، عَنْ عَطِيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ).
ومنها: الدّعاء والاستعانة بالله سبحانه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ).
الغضب إذا تُرك بلا ضابطٍ، صار بابًا للشّرور، والمسلم مأمورٌ بكظم الغيظ، والعفو، وضبط النّفس، فليكن غضبك لله، لا على الله؛ بأن نشتمه وتسبّه -والعياذ بالله- فتبوء بخسارةٍ ما بعدها خسارةٌ، وتنحدر إلى دركٍ ما بعده دركٌ، وهل أخطر وأخوف مِن النّار الموقدة مصيرًا؟
خاتمةٌ:
عند الغضب يضعف الإنسان، وقد يتلفّظ بما لا يرضي الله، وربّما يسبّ الدِّين أو الذّات الإلهيّة، فيستعدي الله ويخسر عونه، لكنّ الإسلام علّمنا أنّ الغضب يُعالَج بالطّرق المشروعة، لا بالانفعال.
الغضب ضعفٌ، لكنّ الدّعاء قوّةٌ، فحين يشتدّ البلاء لا تسبّ ولا تعترض، بل استعن بالقويّ العزيز، وكن على يقينٍ أنّ الله لا يردّ مَن دعاه بإخلاصٍ.
ولساننا أداةٌ عظيمةٌ، لكنّه سلاحٌ ذو حدّين، مَن ضبطه نجا، ومَن أطلقه في الباطل هلك، فلنحرص على أن يكون لساننا سببًا في رضا الله، لا في سخطه، ولنشغله بالذِّكر والدّعاء، لا باللّغو والسّباب، فإنّ الكلمة تُكتب، وتُعرض يوم القيامة، ويُحاسب عليها العبد، فليقل خيرًا أو ليصمت {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ).
كيف يجرؤ القلب على سبّ مَن خلقه؟ كيف يجرؤ اللّسان على النّيل مِن الّذي لا يزال يرزقنا، ونحن نعصيه؟ أيّ جفاءٍ هذا، أن يُجحد مَن يعطي، ويُسَبّ مَن يحبّ؟ الله الّذي وسعت رحمته كلّ شيءٍ، الّذي يفتح لنا أبواب التّوبة كلّما أغلقناها، الّذي يُعدّ لنا جنّةً لا رأت عينٌ ولا سمعت أذنٌ ولا خطر على قلب بشرٍ؛ إن نحن فقط أطعناه.
يا مَن تسبّ ربّك، هل فكّرت يومًا أن هذا الرّبّ العظيم، القدير، الرّحيم، هو الّذي منحك الحياة، وأمهلك، وأكرمك؟
كيف يسبّ المرء مَن يحبّه ومَن يربّيه ومَن يربّه
ربٌّ عظيمٌ خالقٌ مقتدرٌ إن لم تسبّحه فلا تسبّه