دور المنبر في نهضة المجتمع المسلم:
مقدمة:
إنَّ الدَّعوة إلى الله تعالى وإيصال خلقه إليه من أجلِّ ما تُفنى به الأعمار، وتُسخَّر له الجهود والأفكار، كيف لا والله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصِّلت: 33].
وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه قبيل خيبر: (ثمَّ ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لك حمْر النَّعم).
ولا شكَّ أن وسائل الدَّعوة والإصلاح كثيرةٌ متنوِّعةٌ، ومن أنفعها وأنجعها منبر الخطبة، ولذلك فقد اعتنى به الإسلام، وأفرد له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جزءاً واسعاً من الحرص والتَّنظيم والتّركيز.
ونلحظ ذلك من خلال:
لقد كرّم الله تعالى أمَّة الإسلام بيوم الجمعة، وجعل فيها شعيرةً من أجلِّ الشَّعائر، وعبادةً من أعظم العبادات، إنها صلاة الجمعة، تلكم العبادة التي أُمِر المسلمون بالسَّعي لها دون انشغال، والتبكير إليها دون تأخير، فقال تعالى في سورةٍ سمِّيت باسم هذا اليوم المبارك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
إنَّهاعبادةٌ توعَّد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من تركها وفرَّط فيها من غير عذرٍ أو ضرورةٍ فقال صلى الله عليه وسلم: (من ترك ثلاثَ جمعٍ تهاوناً بها طَبَعَ الله على قلبه).
قال الإمام المناويُّ في (فيض القدير): "طبع الله على قلبه أي: ختم عليه وغشَّاه ومنعه ألطافه، وجعل فيه الجهل والجفاء والقسوة، أو صيّر قلبه قلب منافق".
وحريٌّ بالمؤمن العاقل ألَّا تشغله عن هذه العبادة مشغلة، ولا يلهيه عنها متاعٌ زائلٌ ولا ربحٌ عاجلٌ، فقد روى الترمذيُّ من حديث أوس بن أوس الثَّقفي رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة وغسَّل، وبكّر وابتكر، ودنا واستمع وأنصت، كان له بكلِّ خطوةٍ يخطوها أجرُ سنةٍ صيامُها وقيامُها).
ولعلَّ من أهم الأشياء التي تضفي على هذه العبادة الجمال والجلال ما يسبقها من ارتقاء الخطباء المنابر وإلقاء الخطب، واستماع الناس إلى التوجيه والتَّذكير والنصيحة، في جوٍّ من السَّكينة والهيبة والحضور والإنصات.
وإذا أردنا إدراك أهمِّيَّة هذا الأمر فلنتأمَّل في هذه الأرقام الإحصائيَّة البسيطة:
• يحضر المسلم في كلِّ سنةٍ خمسين خطبةً توجِّه فكره وتقوِّم مساره.
• بلغ عدد المساجد في العالم في آخر إحصائيَّةٍ رسميَّةٍ 3،6 مليون مسجد.
روى ابن اسحاق أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزع ثنيَّتي سهيل بن عمرو، فقال: يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا أمثّل فيمثّل الله بي)، ثمَّ قال: (لعلَّه أن يقف موقفاً يسرُّك)، وفي روايةٍ: (لا تذمُّه عليه).
وقد صدقت نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقف سهيل حاجزاً دون ردة قريش بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكم ورد في السُّنَّة والسيرة عند كلِّ مشكلةٍ أو أزمةٍ: "فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه".
لقد كان المنبر في يومٍ من الأيَّام أداةً ووسيلةً لنهضة الأمَّة وتفوُّقها، وحريٌّ بالمنبر في واقعنا المأزوم اليوم أن يفعل الأعاجيب في حياة المسلمين، فيفتح عقولهم على الحقِّ، ويحرِّر أنفسهم من الذُّلِّ، ويسمو بأرواحهم إلى الآفاق العليا.
ولكنّ الملاحظ أنَّ المنبر لا يؤدِّي رسالته ولا يحقِّق غايته.
ويتساءل المرء منا يا سادة: ماذا لو عادت رسالة المنابر إلى تأثيرها المعهود وعمقها المفقود؟
ماذا لو عاد المنبر موجِّهاً لعقول النَّاس ومغذِّياً لقلوبهم؟
إنَّ من رسالة المنبر أن يكون وسيلةً إلى تعميق الفكر، وزرع الوعي الإسلاميِّ، وبناء المواطن الصَّالح، وهو ليس مكاناً للتَّهريج ولا للخرافة ولا للصُّراخ ولا للسُّباب ولا للشَّتائم.
إنَّه الصَّوت الذي يعيد المسلمين إلى خالقهم ويذكِّرهم برسالتهم.
إنَّ من رسالة المنبر أن يكون صوتاً لهموم النَّاس ومشاكلهم، وينبغي أن يرى النَّاس واقعهم ويبصروا حال أمَّتهم في كلام الخطيب، لا أن يكونوا في وادٍ وكلام خطيبهم في وادٍ آخر.
دخلت منذ أيَّام لحضور خطبةٍ فوجدت الخطيب يتحدَّث عن تاريخ الأوس والخزرج ووجدت قسماً من المصلين يعيشون مع واقع وسائل التَّواصل على الجوَّال.
مشهدٌ يبعث الأسى والحسرة في القلوب، كيف فرَّطنا بمنبرٍ، ولو امتلكه أعداؤنا لصنعوا منه الأعاجيب.
المنبر يعلِّم جاهلاً... المنبر يردُّ شارداً... المنبر يزرع أملاً... المنبر يوقظ همَّةً... المنبر يقوِّي عزيمةً.. المنبر يُطفئ فتنةً.
إنَّ الخطبة التي أنساها على باب المسجد لا أحتاجها، والخطبة التي لا ترافقني طوال أسبوعٍ كاملٍ في أسرتي ووظيفتي.. في مدرستي وجامعتي.. في خلوتي وجلوتي.. في عمل دنياي وآخرتي لتكون منهج عملٍ وتغيير في حياتي نحو الأمام هي خطبةٌ لا تعنيني.
إنَّ من رسالة المنبر أن يكون موحِّداً للمسلمين لا مفرِّقاً، ومجمِّعاً لا مشتِّتاً، ومن المؤسف يا سادة أن يكون حظُّ فريقٍ منَّا من خطب الجمعة البحث عن سقطات الخطيب، أو عن جماعته ومدرسته الفكريَّة.
رسالة المنبر هي قوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 87].
إن بطولتك تكمن في أن لا تسمح لأحدٍ أن يضيف إلى كلمة مسلمٍ أيَّ وصفٍ آخر.
وثقوا تماماً لن نكون شهداء على النَّاس ونحن متفرِّقون كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون.
إنَّ من رسالة المنبر أن يخاطب النَّاس على تنوُّع مستوياتهم وطبقاتهم، فهناك الغنيُّ وهناك الفقير، وهناك المتعلِّم وهناك الأمِّي، وهناك المستقيم وهناك العاصي، وينبغي أن أحترم فكرهم جميعاً.
وهذا العاصي ينبغي أن يسمع منَّا، وينبغي أن يجلس معنا، وله حقٌّ علينا، ومن يدري فربما يصبح أفضل حالاً وأقربَ منزلةً إلى الله منَّا.
وأخيراً: فإنَّ المنبر يقوى بقوَّة خطيبه، ويضعف بضعفه، وإذا أردنا أن نختصر الكلام فإنَّنا نقول: إنَّ المنبر لا يصعد عليه إلَّا ذو ثلاث صفاتٍ: العلم، والتَّقوى، والموهبة الخطابيَّة.