مقدمة:
هو الحافظ الحجة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الأموي من مواليد المدينة المنورة وبها نشأ، حفظ القرآن وتعلم السنة حتى بلغ درجة الاجتهاد، وكان كثير من أهل العلم يعده من فقهاء المدينة يوم كان بها، جمع من آداب العرب وشعرهم ونثرهم الشيء الكثير، وكان رجاء ابن حيوة كبير التابعين يقول: "أتينا إلى عمر فظننا أنه يحتاج إلينا فإذا نحن عنده تلاميذه".
وكان ناصحاً للخلفاء قبله، وعمل لهم على بعض الأعمال، وكان شديد التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلموكان يخطب النَّاس فيقول: "أَيهَا النَّاس إِنَّه لَيْسَ بعد نَبِيكُم نَبِي وَلَيْسَ بعد الْكتاب الَّذِي أنزل عَلَيْكُم كتاب فَمَا أحل الله على لِسَان نبيه فَهُوَ حَلَال إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمَا حرم الله على لِسَان نبيه فَهُوَ حرَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أَلا إِنِّي لست بقاض وَإِنَّمَا أَنا منفذ لله وَلست بِمُبْتَدعٍ وَلَكِنِّي مُتبع أَلا إِنَّه لَيْسَ لأحد أَن يطاع فِي مَعْصِيّة الله عز وَجل لست بِخَيْرِكُمْ وَإِنَّمَا أَنا رجل مِنْكُم أَلا وَإِنِّي أثقلكم حملا يَا أَيهَا النَّاس إِن أفضل الْعِبَادَة أَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم أَقُول قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر الله الْعَظِيم لي وَلكم". سيرة عمر بن عبد العزيز ص: (40) عبد الله بن عبد الحكم أبو محمد المصري (ت: 214هـ) نشر: عالم الكتب/ لبنان - بيروت/ الطبعة: السادسة/ سنة: (1404) هـ (1984) م
ولما حضرت سليمان بن عبد الملك الوفاة، أشار عليه رجاء أن يولي الخلافة من بعده عمر، فكتب سليمان بذلك كتاباً وأخفاه رجاء عن الناس حتى مات سليمان فأظهره.
تولى الخلافة وقد ناءت الأرض بالظلم، وثقلت البقاع بالجور، فعدل الله به موازين الخليقة، فأزهرت الأرض بنور النبوة من جديد، وأحيا للأمة دينها، ولم يكن بعده مثله رضي الله عنه، وكان له خطب غيرت كثيراً من المفاهيم والموازين، وعدلت كثيراً من القيم، أذكر منها:
خطبة له يوم ولي أمر الناس:
روي أنه لما دفن سليمان بن عبد الملك، وخرج عمرُ من قبره، سمع للأرض رجة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين، قربت إليك لتركبها، فقال: ما لي ولها؟ نحوُّها عني، قربوا إلي بغلتي، فقربت إليه، فركبها، وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحَّ عني، ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين، فسار، وسار معه الناس، حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس فقال:
"أيها الناس: إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم".
فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فَلِ أمرنا باليمن والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي به الناس جميعاً، حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلموقال: "أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَفٌ، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أمر دنياه وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكرَ الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم عليه السلامأبًا حيًّا لمعرق في الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلا، ولا أمنع أحدًا حقًّا، إني لست بخازن، ولكني أضع حيث أمرت.
أيها الناس: إنه قد كان قبلي ولاة تجترون مودتهم، بأن تدفعوا بذلك ظلمهم عنكم، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم". سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه ص: (66) لعبد الله بن عبد الحكم بن أعين أبو محمد المصري (ت: 214هـ) نشر: عالم الكتب/ لبنان - بيروت/ الطبعة: السادسة/ سنة: (1404) هـ (1984) م، وجمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة ص: (2/203) لأحمد زكي صفوت/ نشر: المكتبة العلمية/ لبنان - بيروت/ الطبعة الأولى / سنة: (1352) هـ (1933) م
خطبة أخرى في الزهد والحث على الصدقة:
وحدث شبيب بن شيبة، عن أبي عبد الملك قال: كنت من حرس الخلفاء قبل عمر، فكنا نقوم لهم، ونبدؤهم بالسلام، فخرج علينا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهفي يوم عيد، وعليه قميص كتان، وعمامة على قلنسوة لاطئة، فمثلنا بين يديه، وسلمنا عليه، فقال: "مه أنتم جماعة وأنا واحد، السلام علي، والرد عليكم"، وسَلَّمَ فرددْنا، وقربت له دابته فأعرض عنها، ومشى ومشينا، حتى صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا، فردوا على فقرائهم، حتى نستوي نحن بهم، وأكون أنا أولهم"، ثم قال: "ما لي وللدنيا؟ أم ما لي ولها؟"، وتكلم فأرق، حتى بكى الناس جميعًا، يمينًا وشمالا، ثم قطع كلامه ونزل، فدنا منه رجاء بن حيوة، فقال له: يا أمير المؤمنين، كلمت الناس بما أرق قلوبهم وأبكاهم، ثم قطعته أحوج ما كانوا إليه، فقال: "يا رجاء إني أكره المباهاة". العقد الفريد ص: (4/181) لأبي عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي (ت: 328هـ) نشر: دار الكتب العلمية/ لبنان - بيروت/ الطبعة: الأولى/ سنة: (1404) هـ
فالخطبة الأولى خالف فيها معهود الخلفاء قبله، من الإسراف في المظاهر والإطناب في المفاخر، ودعوتهم في خطبهم للطاعة والسمع، وأحقيتهم بالولاية للاستخلاف الذي لهم، أما هو فأعلنها أنهم حل من بيعته، لأنهم لم يختاروه، فلما أصروا زهد في الدنيا وبين مشروعه نحو الارتقاء به إلى ما يوصلهم إلى خير الدنيا والآخرة، كل هذا بعد أن رد الأموال إلى بيت المال وأبى إلا بغلته.
كما بين أن سبب كل خلاف هو لدنيا وزخرفها، لذلك فلن يعطي أحداً فوق حقه، ولن يبخس أحداً حقه، فالمال مال الله، ولن يضعه إلى في مكانه الذي أراده الله، كما أن الظلم والجور الذي سلكه الولاة دفع الناس إلى المداراة والمراءاة توقياً من هذا الظلم، وهو لن يقبل من أحد رياءً، ولن يكلفه بمعصية.
ويظهر من خطبته الثانية مقدار تأثر الناس بها والدليل كلام رجاء معه، وطلبه إطالة الخطبة وقد عمر ابن عبد العزيز في الخلافة حوالي سنتين، فكانت للأرض كلها خيراً من قرنين، رحمه الله رحمة واسعة ورضي عنه.