الباحث:
مقدمة:
وهو قاضي الجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ، خطيبٌ بَلِيْغٌ مِصْقَعٌ ، لَمْ يَكُنْ بِالأَنْدَلُسِ أَخطبَ مِنْهُ، مَعَ العِلْمِ البَارعِ وَالمعرفَةِ الكَامِلَةِ وَاليَقِينِ فِي العلومِ وَالدِّينِ وَالوَرَعِ، وَكَثْرَةِ الصِّيَامِ وَالتَّهجُّدِ، وَالصَّدْعِ بِالْحَقِّ.
وكان شديداً في دينه لا يأخذه في الله لوم لائم، وكانت له مقامات بين يدي الخليفة الناصر يتناوله فيها بالعظات والزواجر غير هيّاب ولا محتشم.
وله خطب مشهودة، منها ما قرع مسامع الحكام وألجمهم عن الخوض في الحرام، فانتهر فيها وزجر ووعظ فأبلغ في الوعظ، وأرشد فنصح في الإرشاد، فتغير المنكر بخطبته معروفاً، وتبدل الشر خيراً، وانقلب السوء حسناً، وله من ذلك ما لا يجوز لخطيب أن يغفله، من بداعة الأسلوب وجرأة الكلمة وحسن التدبير وفصاحة اللفظ وجمع المعنى بأوجز وأبلغ صورة، وأذكر من خطبه:
ما يذكر أن الْخَلِيفَة الأندلسي النَّاصِر لدين الله كان كلفاً بعمارة الأَرْض وَإِقَامَة معالمها، وتخليد الْآثَار الدَّالَّة على قُوَّة الْملك وَعز السُّلْطَان، فأقضى بِهِ الإغراق فِي ذَلِك إِلَى أَن ابتنى مَدِينَة الزهراء، الْبناء الَّذِي شاع ذكره، فاستفرغ وَسعه فِي تنميقها، وإتقان قُصُورهَا، وزخرفة مصانعها، فانهمك فِي ذَلِك حَتَّى عطل شُهُود الْجُمُعَة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع الَّذِي اتَّخذهُ ثَلَاث جمع مُتَوَالِيَة، فَأَرَادَ القَاضِي مُنْذر أَن يغض مِنْهُ بِمَا تنَاوله من الموعظة بِفضل الْخطاب وَالْحكمَة والتذكرة بالإنابة وَالرَّجْعَة؛ فَأدْخل فِي خطبَته فصلاً مبتدئاً بقوله سبحانه وتعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 128-135].
وَلَا تَقولُوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء: 136].
{مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]، وَهِي دَار الْقَرار، وَمَكَان الْجَزَاء! وَوصل ذَلِك بِكَلَام جزل، وَقَول فصل، وَمضى فِي ذمّ تشييد الْبُنيان، والاستغراق فِي زخرفته، والإسراف فِي الْإِنْفَاق عَلَيْهِ؛ فَجرى طلقاً؛ وانتزع فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109].
وأتى بِمَا يشاكل الْمَعْنى من التخويف بِالْمَوْتِ، والتحذير من فَجَاءَتْهُ، وَالدُّعَاء إِلَى الزّهْد فِي هَذِه الدَّار الفانية، والحض على اعتزالها، والرفض لَهَا، وَالنَّدْب إِلَى الْإِعْرَاض مِنْهَا؛ والإقصار عَن طلب اللَّذَّات، وَنهى النُّفُوس عَن اتِّبَاع هَواهَا، فأسهب فِي ذَلِك كُله، وأضاف إِلَيْهِ من آي الْقُرْآن مَا يطابقه، وجلب من الحَدِيث والْآثَار مَا يشاكله، حَتَّى اذكر من حَضَره النَّاس وخشعوا، ورقوا، واعترفوا، وَبكوا، وضجوا، ودعوا، وأعلنوا فِي التضرع إِلَى الله فِي التَّوْبَة، والابتهال فِي الْمَغْفِرَة، وَأخذ خليفتهم من ذَلِك بأوفر حَظّ، وَقد علم أَنه الْمَقْصُود بِهِ؛ فَبكى، وَنَدم على مَا سلف لَهُ، واستعاذ بِاللَّه من سخطه.
إِلَّا أَنه -أي الخليفة- وجد على مُنْذر بن سعيد لغلظ مَا تقرعه بِهِ؛ فَشَكا ذَلِك لوَلَده الْأَمِير الحكم بعد انْصِرَافه، وَقَالَ: "وَالله لقد تعمدني مُنْذر بخطبته، وَمَا عَنى بهَا غَيْرِي فأسرف عَليّ وأفرط فِي تقريعي، وَلم يحسن السياسة فِي وعظي، فزعزع قلبِي، وَكَاد بعصاه يقرعني"، واستشاط غيظاً عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ابنه الحكم: فَمَا الَّذِي يمنعك من عزل مُنْذر عَن الصَّلَاة بك، والاستبدال مِنْهُ إِذْ كرهته؟ فزجره وانتهره، وَقَالَ لَهُ: "أمثل مُنْذر بن سعيد فِي فَضله وَعَمله وخيره؟ لَا أمر لَك يعْزل لإرضاء نفس ناكبة عَن الْحق هَذَا مِمَّا لَا يكون وَإِنِّي لأَسْتَحي من الله أَن لَا أجعَل بيني وَبَينه فِي صَلَاة الْجُمُعَة شَفِيعًا مثل مُنْذر فِي ورعه وَصدقه وَلَكنه أحرجني، فأقسمت، ولوددت أَنِّي أجد سَبِيلا إِلَى كَفَّارَة يَمِيني، بل يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَيَاته وحياتنا، إِن شَاءَ الله".
ومن بديع خطب المنذر:
ما نقله المالقي فقال: َمن أَخْبَاره المحفوظة مَعَ الْخَلِيفَة عبد الرَّحْمَن، فِي إِنْكَاره عَلَيْهِ الْإِسْرَاف فِي الْبناء، أَن النَّاصِر كَانَ قد اتخذ، لسقف القبيبة المصغرة الِاسْم للخصوصية الَّتِي كَانَت مماثلة على الصرح الممرد الْمَشْهُور شَأْنه بقصر الزهراء، قراميد مغشاة ذَهَبا وَفِضة، أنْفق عَلَيْهَا مَالا جسيماً، وقرمد سقفها بهَا، تشَتت الْأَبْصَار بأشعة أنوارها، وَجلسَ فِيهَا يَوْمًا، اثر تَمامهَا، لأهل مَمْلَكَته، فَقَالَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُم من الوزراء وَأهل الْخدمَة، مفتخراً بِمَا صنعه من ذَلِك: "هَل رَأَيْتُمْ أَو سَمِعْتُمْ ملكا كَانَ قبلي فعل مثل فعلي هَذَا أَو قدر عَلَيْهِ؟"، فَقَالُوا: لَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإنَّك لوَاحِد فِي شَأْنك كُله، وَمَا سَبَقَك إِلَى مبتدعاتك هَذِه ملك رَأَيْنَاهُ، وَلَا انْتهى إِلَيْنَا خَبره! فابهجه المرقبة العليا فيمن قوْلهم وسره.
وبينما هُوَ كَذَلِك، إِذْ دخل عَلَيْهِ القَاضِي مُنْذر بن سعيد، واجماً ناكس الرَّأْس؛ فَلَمَّا أَخذ مَجْلِسه، قَالَ لَهُ كَالَّذي قَالَ لوزرائه من ذكر السّقف الْمَذْهَب، واقتداره على إبداعه؛ فَأَقْبَلت دموع القَاضِي تنحدر على لحيته، وَقَالَ لَهُ: "وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا ظَنَنْت أَن الشَّيْطَان لَعنه الله يبلغ مِنْك هَذَا الْمبلغ، وَلَا أَن تمكنه من قبلك هَذَا التَّمْكِين، مَعَ مَا آتاك الله من فَضله وَنعمته، وفضلك بِهِ على الْعَالمين، حَتَّى ينزلك منَازِل الْكَافرين"، قَالَ: فانفعل عبد الرَّحْمَن لقَوْله، وَقَالَ لَهُ: انْظُر مَا تَقول وَكَيف أنزلتني مَنْزِلَتهمْ؟ فَقَالَ لَهُ: "نعم أَلَيْسَ الله تَعَالَى يَقُول: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]، فَوَجَمَ الْخَلِيفَة، وأطرق مَلِيًّا، ودموعه تتساقط خشوعاً لله سُبْحَانَهُ، ثمَّ أقبل على مُنْذر وَقَالَ لَهُ: "جَزَاك الله، يَا قَاضِي عَنَّا وَعَن نَفسك خيرا وَعَن الدّين وَالْمُسْلِمين أجل جَزَائِهِ وَكثر فِي النَّاس أمثالك فَالَّذِي قلت هُوَ الْحق"، وَقَامَ عَن مَجْلِسه ذَلِك، وَأمر بِنَقْض سقف الْقبَّة، وَأعَاد قرمودها تُرَابا على صفة غَيرهَا.
خطبة أخرى:
قَالَ الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ: قَحطَ النَّاسُ فِي بَعْضِ السِّنينَ آخِرَ مُدَّةِ النَّاصِرِ، فَأَمرَ القَاضِيَ منذرَ بنَ سَعِيْدٍ بِالبُرُوزِ إِلَى الاسْتِسْقَاءِ بِالنَّاسِ، فصَامَ أَيَّاماً وتأهَّب، وَاجتمعَ الخلقُ فِي مصلَّى الرَّبَضِ، وَصعِدَ النَّاصِرُ فِي أَعْلَى قَصرِهِ لِيشَاهِدَ الجمعَ، فَأَبطأَ مُنذرٌ، ثُمَّ خَرَجَ رَاجِلاً متخَشِّعًا، وَقَامَ لِيَخْطُبَ، فلمَّا رَأَى الحَالَ بَكَى وَنَشَجَ، وَافتَتَحَ خُطْبَتَهُ بِأَنْ قَالَ: "سلاَمٌ عليكُمٌ"، ثُمَّ سَكَتَ شبهَ الحَسِيرِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ، فَنَظَرَ النَّاسُ بعضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، لاَ يَدْرُوْنَ مَا عَرَاهُ، ثُمَّ انْدَفَعَ فَقَالَ: "{سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأَنْعَام: 54]، اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، وتقرَّبوا بِالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ لَدَيْهِ"، فضجَّ النَّاسُ بِالبُكَاءِ، وَجَأَرُوا بِالدُّعَاءِ وَالتَّضرُّعِ، وَخَطَبَ فَأَبْلَغَ، فَلَمْ يَنْفَضّ القَوْمُ حَتَّى نَزَلَ غَيثٌ عَظِيْمٌ.
خطبة أخرى:
واسْتَسْقَى مرةً، فَقَالَ يَهْتِفُ بِالخلقِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّه}، فهيِّج الخلقَ عَلَى البُكَاءِ، ويٌذكر أَنَّ رَسُوْلَ النَّاصِرِ جَاءهُ للاسْتِسْقَاءِ، فَقَالَ لِلرَّسُوْلِ: "هَا أَنَا سَائِرٌ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي يَصْنَعُهُ الخَلِيْفَةُ فِي يَوْمنَا هَذَا"، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ أَخْشَعَ مِنْهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا، إِنَّهُ مُنفردٌ بِنَفْسِهِ، لاَبسٌ أَخشنَ الثِّيَابِ، مُفترشٌ التُّرَابَ، قَدْ عَلاَ نَحِيْبُهُ وَاعْتَرَافُهُ بذنوبه، يَقُوْلُ: "ربِّ هَذِهِ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، أَتُرَاكَ تُعذِّبُ الرَّعِيَّةَ وَأَنْتَ أَحكمُ الحَاكمِينَ وَأَعدلُهُمْ، أَنْ يَفُوتَكَ مِنِّي شَيْءٌ"، فَتَهَلَّلَ مُنذرُ بنُ سَعِيْدٍ وَقَالَ: "يَا غُلاَمُ احملِ المِمْطَرَةَ مَعَكَ، إِذَا خَشَعَ جَبَّارُ الأَرضِ رَحِمَ جَبَّارُ السَّمَاء".