توظيف خطبة الجمعة في معالجة الاختلالات الفكرية خطاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنموذجاً (3)
مقدمة:
نتابع في هذا المقال النموذج الثالث من نماذج من الاختلالات الفكرية:
المبحث الثالث: الموازين البشرية الفاسدة:
نقصد بهذا الخلل ما يعتري العقول البشرية من أخطاءٍ وانحرافاتٍ ناتجةٍ عن القياسات والموازين العقلية الفاسدة. وهذا النقص لا يكاد يسلم منه بشرٌ إطلاقاً لأنّ المسألة عبارةٌ عن أخطاءٍ تفرضها محدودية العقل البشري، وهي سمةٌ عامةٌ لدى جميع البشر، مهما علا كعبهم في العلوم والمعارف، وهذا ما يميّز الله تعالى عن غيره من المخلوقات.
لا أحد ينكر ما للقياس من أهميّةٍ في علوم الشريعة؛ إذ إنه المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامي.
لكنّ هذا لا يعني أنّ لأيّ إنسانٍ أن يقيس الأمور برأيه ليقرر ما شاء بعقله وهواه في دين الله تعالى، كما نلاحظ من بعضهم في محدثاتٍ أحدثوها في الدين لا أصل لها تحت عنوان: "زيادة الخير خير"، وشعار: "السنّة الحسنة"، وهم لا يعرفون الفرق بين السنة والبدعة، إنما يحكّمون عاداتهم، ويُعملون عقولهم فيقيسون أقيسةً فاسدةً مخالفةً لأصول القياس الشرعي الصحيح، فيقعون في أخطاءٍ ومخالفاتٍ فاحشةٍ.
وإذا كان للقياس تلك المكانة في علوم الشريعة الإسلامية، فإنّ هذه المكانة لا تقلّ في العلوم الكونية الدنيوية الأخرى، النظرية منها والتطبيقية على حدٍّ سواءٍ، وتبدو هذه الأهمية واضحةً "من الدور الكبير الذي لعبه في تطور العلوم، فكثيرٌ من التصورات التي اهتدت بها النظريات العلمية كانت في الأصل أقيسةً متنوعةً من أشياء مألوفةٍ".
غير أنّ الذي يهمّنا في بحثنا هنا هو دور الأقيسة والموازين الفاسدة في الاختلالات الفكرية والعقلية.
إنّ المنحرف غالباً ما يعالج الأمور والأشياء بنظرةٍ غير متوازنةٍ؛ بموازين شيطانيةٍ وأقيسةٍ منطقيةٍ فاسدةٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن شرع الله تعالى، وكثيراً ما يتمّ الحكم على الأشخاص والأحوال من منظار الدنيا، وما فيها من مؤثراتٍ، كالهوى والعادات والتقاليد وما استحدثه الناس من موازين أخرى، بينما يكون الأمر عند الله تعالى مختلفاً تمام الاختلاف، ومن هنا كان لزاماً على الدعاة والخطباء أن يعملوا على تقويم موازين الناس حتى ينظروا للأمور من خلال منظار الشرع لا غيره.
وهذا الأمر يعدّ من علامات الساعة، فقد أخبرنا رسولنا الكريم محمدٌ صلى الله عليه وسلم عن أمورٍ كثيرةٍ ستتبدل فيها القيم مما يدل على فساد الأحوال، ومن ذلك إسناد الأمر إلى غير الأكفاء، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ)، قَاْلَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَاْلَ: (إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ).
وما أكثر هذا المرض في زماننا؛ إذ يحكمُ من لا يستحقّ، ومن ليس أهلاً للولاية، مثل تولي الفسقة والظلمة والصبيان من غير ذوي الرشد والأحلام، فضيّعوا الأمانة، وقادوا الناس إلى خراب دنياهم وآخرتهم.
ومن ذلك أيضاً سيطرة الأشرار، وارتفاع الأسافل على الأخيار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسُ محمّدٍ بيدِهِ لا تقومُ السّاعةُ حتّى يظهرَ الفحشُ والبخلُ، ويُخوّنُ الأمينُ، ويُؤتمنُ الخائنُ، ويهلكَ الوعولُ، ويظهرَ التحوتُ)، قالوا: يا رسولَ اللهِ: وما الوعولُ وما التحوتُ؟ قالَ: (الوعولُ وجوهُ النّاسِ وأشرافُهم، والتحوتُ الذينَ كانُوا تحتَ أقدامِ النّاسِ لا يُعلمُ بِهم).
إننا في زمنٍ صُدِّق فيه الكاذبون، وكُذِّب الصادقون، وتقدَّم الخائنون، وأُخِّر الأمينون، وتكلم أسافل الناس في قضايا المسلمين الصغيرة والكبيرة، كما أخبرنا الصادق المصدوق: (يأتي على الناسِ سنواتٌ خَدَّاعاتٌ، يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائنُ، ويُخوَّنُ فيها الأمينُ، ويَنطِقُ فيها الرُّويبِضَةُ)، قيل: وما الرُّويبِضَةُ؟، قال: (الرَّجلُ التَّافهُ، يتكلَّمُ في أمرِ العامَّةِ).
وعن حذيفة رضي الله عنه فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قبض الأمانة، قال: (حتى يُقالَ للرَّجُلِ: ما أجْلَدَهُ! ما أظْرَفَهُ! ما أعْقلَهُ! وما في قلبِهِ مثقالُ حبّةٍ منْ خردلٍ منْ إيمانٍ).
وهذا هو الواقع بين المسلمين في هذا العصر، يقولون للرجل: ما أعقله! ما أحسن خلقه! ويصفونه بأبلغ الأوصاف الحسنة التي ربما لم يوصف بها بعض الصحابة، وهو من أفسق الناس، وأقلِّهم ديناً وأمانةً، بل قد يكون عدواً للإسلام والمسلمين، ويعمل على هدم الدين ليلَ نهارَ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وإذا ما فتّش الإنسان في المجتمع حوله فإنّه سيبصر هذا الحديث واقعاً؛ فأراذل الناس وأشرارهم قد تولوا أمور العباد والبلاد.
ولو نظرنا حولنا في ثورة الشام المباركة لرأينا مصداق هذه الأحاديث، فنرى كثيراً من زعماء الفصائل المجاهدة وقاداتها ومن يتكلمون باسمها من أقلِّ الناس علماً وخبرةً، وإذا نظرت إلى أخلاقهم وسلوكاتهم، لوجدتهم من أفسق الناس وأنزلهم خلقاً ومعاملةً، بل ربما لو فتشت أكثر وأكثر لرأيت منهم من يفعل الموبقات، وكم سبّب هؤلاء من فتنٍ أزهقت فيه نفوسٌ بريئةٌ، وانتهكت فيها أعراضٌ شريفةٌ!
لكنّ الأعجب من هذا أنك تلتقي بطلبة علمٍ شرعيٍّ يرون من قياداتهم كلّ هذه الموبقات والطامّات، والمكفّرات أحياناً، فلا يأمرون بمعروفٍ، ولا ينهون عن منكرٍ، بل إنهم يزيدون على هذا فيبررون لهؤلاء الفسقة والظلمة كلّ جرائمهم تحت ذريعة المصلحة العامة للمسلمين، والحكمة، وارتكاب أخفّ الضررين، وما إلى ذلك من أعذارٍ وتسويغاتٍ غير مقبولةٍ.
وفي السياق نفسه، نجد أنّ أهل العلم الثقات لا يُعرفون، وإذا عُرفوا لا يوقّرون، أمّا القصّاص والمخرّفون فيُشار إليهم بالبنان، ويُلتمس العلم عندهم دون غيرهم، وهذا ما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقوعه آخر الزمان في قوله عن أبي أمية اللخمي رضي الله عنه: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلَاثَةً: إِحْدَاهُنَّ أَنْ يَلْتَمِسَ الْعِلْمَ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ).
فمن أشراط الساعة أن الناس يتركون العلماء والكبراء الذين يدعونهم إلى كتاب الله وسنة رسوله، ويطلبون العلم عند الجهلة، الذين يحكّمون العقل والهوى في دين الله تعالى فيَضلّون ويُضلّون.
وفي الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما أتاهمُ العلمُ منْ قبلِ أصحابِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وأكابرِهم، فإذا أتاهمُ العلمُ منْ قبلِ أصاغرِهم فذلك حين".
لذلك لا نرى في زماننا إلا قلّةً قليلةً من أهل العلم الثقات، والغالبية العظمى ممن يُحسبون على ذوي العلم الشرعي هم من الجهّال، وهو عين ما أخبرنا به رسولنا الكريم محمدٌ عليه الصلاة والسلام: (إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتزِاعاً يَنتزِعُهُ من العِبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العِلمَ بقَبض العُلماءِ، حتى إِذا لم يُبقِ عالماً اتخذَ الناسُ رُؤُوساً جُهَّالاً فسُئلوا فأفْتَوا بغير علمِ فضلُّوا وأضَلُّوا).
وإننا لنجد الرجل عظيماً ذا جاهٍ وسلطانٍ يُخفض له وُيرفع، وهو في حقيقة الأمر فاجرٌ كافرٌ لا يزن عند الله جناح بعوضةٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّهُ لَيأتي الرَّجلُ العظيمُ السَّمينُ يومَ القِيامةِ لا يزِنُ عندَ اللهِ جناحِ بَعوضَةٍ وقال: اقرءوا {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟) قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: (مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟) قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا).
كثيرٌ من بني البشر ينظرون للحياة الدنيا وزينتها على أنّها الغاية والمنتهى، لذلك كل تخطيطهم وجهدهم إنّما هو في سبيل هذه الحياة، ولا تشغل الآخرة من حيّز تفكيرهم شيئاً ذا بالٍ، ذلك لأنّهم يقيسون الأشياء بمتعها ومنافعها الحاضرة، دون مآلها في الدنيا أو في الآخرة، يقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
هذا ميزان البشر للدنيا، أما الميزان عند الله فإنه يختلف تماماً؛ عَنْ سهل بن سعدٍ رضي الله عنه، قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ).
لو كانت الدنيا تساوي عند الله شيئاً ما أعطى الكافر منها شيئاً، كلّ هذه الدنيا وزخارفها وبريقها لا تساوي في ميزان الله جناح بعوضةٍ، وعندنا كم تساوي؟!
ولا بدّ أن نعلِّم الناس أنّ الخير والشر البادي لنا لا يعبر بالضرورة عن حقيقة الحال، فكثيرٌ ممن نرى عليهم أشدّ مظاهر البؤس والفقر ربما تكون أفئدتهم نابضةً دائماً بفرحٍ عجيبٍ قد لا يشعر به ولا يتذوقه أولئك الذين تظهر عليهم مظاهر البهجة والسرور، وهم في حقيقة الأمر ممن يحملون صدوراً مليئةً بالهموم والأحزان تمنعهم نوم الليل ومتعة النهار، فالعبرة بما تشعر به النفس، وليس بما يظهر لنا.
هذه الموازين الفاسدة هي التي جعلت طوائف من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يصدون عن سبيل الله ويحاربون دين الله تعالى؛ فقد أنِفَ فريقٌ من ذوي الوجاهة والمكانة من الكفار أن يجلسوا مع رسل الله عليهم الصلاة والسلام لاستماع ما عندهم، وذلك بسبب وجود عبيدٍ وفقراء ومساكين من المسلمين يجلسون معهم ويلازمون مجامع الخير والعلم والذكر، لذلك كان من أولى مطالب هؤلاء المتكبرّين أن يطردَ من هم أدنى منهم منزلةً من هذه المجالس، أو تُخصص لهم مجالسُ لا يختلطون فيها مع غيرهم، فتكون لهم مزيتهم الطبقية بين الناس.
وهذه آفةٌ قديمةٌ قدم البشرية؛ فهذا نوح عليه السلام يعترض عليه قومه بأنّ الذين اتبعوه هم ضعاف الناس وفقراؤهم، وعددهم قليلٌ، قال تعالى حكايةً عن قوم نوحٍ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ} (الأعراف:75-76].
فما منع هؤلاء المتكبّرين من اتباع صالحٍ عليه السلام إلّا أنّ الذين آمنوا به هم من أسافل الناس بزعمهم.
وكأنّ هذا دليلٌ من هؤلاء المستكبرين على بطلان دعوته، ونحن نسأل هنا: ما العلاقة بين الحق، وبين حال من يمثلّه من حيث القوة والضعف؟ إنه لا علاقة مطلقاً إلا في عقول أهل الأهواء والجهل والتعصب.
بل على العكس من ذلك، هو دليلٌ على صدق النبوة؛ فمما جاء في أسئلة هرقل لأبي سفيان "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: فقلت: بل ضعفاؤهم، ثم قال هرقل: وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم، فذكرت أنّ ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل".
ومن أمراض الثورة الشامية التي نعاني منها انعزال كثيرٍ من طلاب العلم الشرعي وغيرهم من حملة الشهادات العلمية عن القيام بدورهم في هذه الأحداث، وحجتهم في ذلك، أنّ الذين قاموا في الثورة في بداية الأمر هم عوامّ الناس وبسطاؤهم ممن لا علاقة لهم بالعلم والثقافة، وممن لا علاقة لهم بالالتزام الديني. والحقيقة أنّ هذا ليس عذراً لهم عند الله تعالى؛ فـمن أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كلِّ برٍّ وفاجرٍ، "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برهم وفاجرهم، لا يبطلهما شيءٌ ولا ينقضهما".
ومعلومٌ أنّ المنافقين، وهم أخطر على الإسلام والمسلمين من الكافرين والمشركين، كانوا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم نسمع أنّ أحداً من صحابة الرسول ترك الجهاد بحجة أنّ الجيش فيه منافقون.
ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ تقصير عددٍ من المقاتلين في بلاد الشام في علاقتهم بربهم سبحانه وتعالى هو محفِّزٌ أكبر للقاعدين من طلاب العلم، فمن الغريب أنهم يحتجون بهذا الأمر على عدم لحاقهم بركب الثورة إلى الآن.
ومن الاغترار بالمظاهر ما لمسناه عند عديدٍ من الشباب السوري المجاهد في ثقتهم المطلقة العمياء ببعض مَن نصّبوا أنفسهم أو نصّبهم غيرهم أوصياءَ وأمناءَ على الثورة الشامية المباركة، فلا يفرِّقون بين شجاعة المجاهد وإقدامه في القتال، وبين قلة بضاعته العلمية، فيقدّمون آراء هؤلاء المقاتلين على كلام كبار أهل العلم الثقات، ويسيرون وفق هواهم، والسبب في ذلك هو أنّ هؤلاء الناس اغتروا بمظاهر هؤلاء المجاهدين، فظنّوهم من أهل العلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم حذّر أمته من الخوارج تحذيراً شديداً لما عليه حالهم في الظاهر من كمال الصلاح والتقوى، حيث وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (يَحْقِرُ أحدُكُمْ صَلاتَهُ معَ صَلَاتِهِمْ وَصَيَامَهُ معَ صَيامِهُمْ).
في ثورتنا السورية المباركة، كثيراً ما يتكلم الناس عن قوة النظام المجرم في سوريا، فيقولون إنّ لدى النظام جيشاً نظامياً مدرباً، ومعه قوى الكفر العالمية التي بيدها المال الوفير والسلاح المتطوّر، والعالم كله يقف معه، ونحن لا نملك من المال والسلاح إلا الشيء القليل، ويذكرون المثل الشائع: العين لا تقاوم المخرز، فكيف سننتصر؟ وكأنّ هؤلاء قد غاب عن ذاكرتهم انتصارات المسلمين في غزواتٍ كثيرةٍ، قديمةٍ وحديثةٍ، وكانوا في أكثر هذه الغزوات أقلّ عدةً وعدداً، وحال المسلم تجاه هذا الكلام ينطلق من قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
إنّهم يحصرون النصر في القويّ والأكثر عدةً وعدداً، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
ومن المعروف لغةً أنّ من أقوى أساليب الحصر النفي (ما) المتبوع بالاستثناء(إلا)، وهو هنا يفيد حصر النصر في الله وحده لا شريك له، لا بعددٍ ولا عدةٍ إلا أن يشاء الله. وفي الآية ردٌّ على أولئك الآيسين والمثبّطين والمخذّلين الذين فقدوا ثقتهم بالله تعالى وتعلقت أفئدتهم بالمادة وأسبابها.
إنّ الذين أفزعتهم جنود الكافرين وجيوشهم، نسوا قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 7].
وإنّ الذين أفزعتهم أموال الكافرين وسيطرتهم نسوا قول الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7].
وإنّ الذين أفزعتهم حصون الكافرين وآلاتهم المانعة نسوا قول الله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر:2].
وإنّ الذين أفزعتهم استخبارات الكافرين نسوا قول الله تعالى: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} [البروج:20].
لقد قصّ الله تعالى علينا في كتابه قصة ثبات داوود عليه الصلاة والسلام وقوته مع القلة: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
ولما تقدّم المؤمنون المتوكلون على الله مع طالوت لقتال جالوت وجنوده، دعوا الله ورجوه أن ينزل عليهم الصبر على الشدّة، وأن يثبّت أقدامهم عند لقاء أعدائهم، وأن يجنبهم العجز والفرار، وأن يمنّ عليهم بالنصر على القوم الكافرين، وقالوا عند تخاذل بعض من كان معهم: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250].
ومن مظاهر اختلال موازين الناس الهزيمة النفسية التي مُني بها بعضهم، والتي جعلتهم يتأسّفون على الشباب الذين قضوا في هذه الثورة المباركة، فقد ضيّعوا شبابهم، ورمّلوا نساءهم، ويتّموا أولادهم دون فائدةٍ كما يزعمون، والله تعالى يردّ على هؤلاء بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156]
والغريب فعلاً أنّ الكفرة من النصيرية والمجوس يتغنّون بقتلاهم أنّهم شهداء، وأنهم قضوا في سبيل الله والقائد والوطن، وهم يعلمون أنّهم على باطلٍ. وبعض المسلمين يعترضون على قضاء الله وقدره، وكأنّهم ما طرق سمعهم ما أعدّ الله تعالى لمن قُتل في سبيله من ثوابٍ عظيمٍ ودرجاتٍ في أعلى الجنان.
ويتحدثون كثيراً عن خراب البنيان، وضياع الأموال والتجارات، وفقدان الأبناء والآباء، وفراق الأحبة والعشيرة، ويقولون: هذا ما جنيناه من الثورة، وكأنهم لم يقرأوا قول الله تعالى في كتابه الكريم: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
ويزيدون على ما سبق أنّ أعداداً كبيرةً من الناس ما زالوا مؤيدين لهذا النظام الفاجر، وهذا استدلالٌ باطلٌ شرعاً وعقلاً؛ فالكثرة لم تكن في حالٍ من الأحوال دليلاً على صحة المنهج أو بطلانه، بل على العكس من هذا، فإنّ القرآن الكريم ذمّ الكثرة ومسلكها في أكثر من آيةٍ، منها قوله تعالى: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100].
وقوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116].
إنّ الأذى مهما علا وطغى فإنه لن يهزم دعوةً أبداً، ولن يحيد المؤمنون عن الحق والدعوة، ولن يصل الطغاة إلى قلب مؤمنٍ مهما فعلوا، فغياهب السجون ومقاصل التعذيب لم تزد المجاهدين إلا قوةً وثباتاً وصبراً على دفع الباطل.
ومهما طال أمد الظلم والطغيان، واشتدت موجة المآسي والكروب، وعصفت رياح الحيرة والاضطراب، فإنه من المحال دوام الحال.
إننا لا نستعجل الزمن، فالسنون عشراتها ومئاتها ليست بذات قيمةٍ في عمر الدعوات والأمم، وإنّ من الثابت يقيناً أنّ السيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة ستكون لمن باع نفسه واشترى ما عند الله، إنه العلو في الحياة والممات، وما على الناس إلا أن يقفوا عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
ومن الناس من ينظر إلى توافه الأمور نظرةً جديّةً فيهوّلها، ويرى عظائم الأحداث بسطحيةٍ وتسفيهٍ، ومن أشهر الأمثلة على هذا ما حدث مع ابن عمر رضي الله عنهما عندما جاءه رجلٌ يسأله عن دم البعوض، فقال له ابن عمر: ممّن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: ها، انظروا إلى هذا، يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هما ريحانتيَّ منَ الدُّنْيَا).
ومن عجائب ما سمعناه من بعض المغالين في تسويغهم قتال الجماعات المجاهدة في أرض الشام قولُهم: إنّ هؤلاء مرتدون، أما أولئك النصيرية والمجوس فإنّهم كفّارٌ، وقتال المرتدين أولى في شرعنا الإسلاميّ من قتال الكفرة!
فوا عجباً لقومٍ يدّعون أنّهم مجاهدون، وهم يقتلون مجاهدي أهل السنة، إنّه لخسرانٌ مبينٌ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًاالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104].
وممّا يعزّز نظرتنا أنّ هؤلاء المغالين خوارج ما اتصف به قدماء الخوارج من الغلظة والشدة على المسلمين إلى درجة استحلال دمائهم، وتقديم قتالهم على قتال الكفار، وهذه إحدى صفات الخوارج الرئيسة التي حدّثنا عنها رسولنا الكريم محمّدٌ صلى الله عليه وسلم بقوله: (يقتُلُونَ أهْلَ الِإسْلامِ، ويدَعُونَ أهْلَ الأوْثَانِ).
وكتاب ربنا يعلمنا أنّ حقيقة الأشياء وجوهرها دون مظاهرها هو المعتبر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
ويقول: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التّوبة:55].
ويقول أيضاً: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ).
هذا هو الميزان الرباني (قلوبِكمْ وأعمالِكمْ)، إذاً ليس الأمر بالمظاهر والملابس والهيئة على الرغم من أهميتها.
وهكذا نرى أنّ انقلاب الموازين واختلال القيم مرضٌ فكريٌّ خطيرٌ، فقد رأينا آنفاً ما سبّبه هذا الخلل من آثارٍ سلبيةٍ تتعلق بالتصورات والحسابات، ومن ثم الأحكام والعمل والسلوك.
لذلك يجب على المسلم أن يغيّر المنظار الذي ينظر إلى الناس والأشياء والأفكار من خلاله، وأن يعمل الدعاة والخطباء على هذا من خلال ترسيخ الموازين الفكرية السليمة المستنبطة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام العلماء الربانيين.