توظيف خطبة الجمعة في معالجة الاختلالات الفكرية خطاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنموذجاً (4)
مقدمة:
نتابع في هذا المقال النموذج الرابع من نماذج من الاختلالات الفكرية:
المبحث الرابع: التعميم والتهويل والمبالغة:
يعد التعميم المتسرع مغالطةً من أخطر أنواع المغالطات المنطقية الشائعة في المجتمعات الشرقية والغربية على حدٍّ سواء، ويمكن اعتبارها آفة العقل الأولى.
المصاب بهذه الآفة يرى ارتباط الحدث الذي يحكم عليه بالاعتقاد أكثر من ارتباطه بالواقع أو الحقيقة، وحقيقة الأمر أنّ هذه الآفة منبعها نفسيٌّ لا عقليٌّ؛ إذ إنّ حدثاً ما أو خبراً أو موقفاً معيناً يؤثر في نفسية هذا الشخص الذي يضخِّم هذا الحدث أو الخبر بصورةٍ مبالغٍ فيها، وذلك بسبب ميلٍ لا شعوريٍّ تُجاه اعتقادٍ سابقٍ للحدث بحيث يندرج الحدث ويفسر في إطار ذلك الاعتقاد، مثال من يقول: "لا يوجد صداقةٌ حقيقيّةٌ في هذا العالم، وذلك لأنّ أحد أعزّ الأصدقاء عندي خان الثقة والأمانة وغدر بي".
ويأخذ التعميم أشكالاً متعددةً، فقد يكون على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة. يكون التعميم المتسرع على مستوى الفرد عندما نصف أحدهم قائلين: فلان سيء الخلق، بسبب موقفٍ واحدٍ، ربما كان في هذا الموقف الواحد فظاً أو غليظاً، فنقع في خطأ التعميم، ونقول أحياناً: فلانٌ قليل دينٍ أو فاسقٌ، على الرغم من أنّ هذا الموصوف بالفسق أو قلة الدين قد تاب وحسنت توبته، لكنّ كثيرين منا يعممون مرحلةً مرّ بها شخصٌ ما كانت علاقته فيها بربه بعيدةً عن التقوى، من حيث الإسراف في المعاصي، لكنه بعد توبته ورجوعه لا يقبل كثيرٌ من الناس توبته.
أما على مستوى الجماعة فقد صار من المألوف القول: أبناء القبيلة الفلانية بخلاء، وأهل البلد الفلاني كسالى، وأبناء القطر الفلاني محتالون أو لصوص أو متفلتون وهكذا، وغالباً ما يتمّ هذا الإطلاق للأحكام التعميمية الكبيرة دون أي خبرةٍ، ودون أي وازعٍ داخليٍّ.
قد يلجأ بعض الناس إلى هذا التعميم من أجل تسويغ الفظائع التي يرتكبها، فإذا أراد أحد الناس تسويغ قتل قبيلةٍ أو جماعةٍ، أو أخذ أموالها وممتلكاتها قال: هذه القبيلة أو الجماعة كلها مجرمةٌ، أو كلها معاديةٌ، ويكون في ذلك عادةً الكثير من المجازفة والظلم والبغي.
من أكثر الصراعات الحاضرة في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم ما نشاهده من تنافرٍ بين أكبر تيارين فكريين يشغلان الساحة الإسلامية؛ هما الصوفية والسلفية، فمن الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها أفراد هذين التيارين تعميم الحكم السلبي على كل أفراد التيار الآخر.
وهذه التعميمات السلبية قد تصل أحياناً إلى حد وصف الجماعة الأخرى بالكافرة أو المارقة أو المبتدعة وما إلى ذلك من أوصافٍ وأحكامٍ جائرةٍ لا يقرها الشرع الحنيف أبداً.
والواقع يشهد أنّ في أبناء الجماعتين من الصوفية والسلفية من هم على خيرٍ عظيمٍ، وبالمقابل من هو على ضلالٍ مبينٍ بدرجاتٍ متفاوتةٍ.
وفي السياق نفسه نجد هذه الآفة جليةً واضحةً في حال الجماعات المجاهدة في بلاد الشام، فإذا ما أخطأ مجاهدٌ فإنّ خطأه هذا سرعان ما يعمم على باقي أفراد جماعته، ليكون هذا الخطأ بعد ذلك هو المقياس الذي تعرف به هذه الجماعة من غيرها، ومن ذلك وصف أفراد الجيش الحر جميعاً بالكفر والردة، والسبب في هذا الحكم أنّ أحد مسؤولي الجيش الحر صرّح في لقاءٍ أو حوارٍ ما أنه يؤيد قيام دولةٍ ديمقراطيةٍ أو مدنيةٍ، فتجد أنّ كثيراً من أفراد بعض الكتائب الإسلامية المعروفة بغلوها يتلقفون هذا الكلام ليكون دليلاً لهم على تكفير آلاف المقاتلين.
ومن ذلك أيضاً اتهام كلّ من في الخارج أنه فارٌّ من الزحف، وأنه خائنٌ للثورة، وعميلٌ للنظام السوري المجرم، وأنّه السبب الرئيس لكل مآسي الثورة، العسكرية والاجتماعية والاقتصادية. وكم سمعت هذا الكلام من أناسٍ في الداخل السوري، يُحسبون في الداخل والخارج أنهم من كبار منظري الثورة السورية، وممن لهم مؤلفاتٌ في هذا الشأن.
جرائم كثيرةٌ قامت بها تنظيماتٌ معروفةٌ بغلوها بحقّ الفصائل المقاتلة في أرض الشام بحججٍ واهيةٍ لا رصيد لها على أرض الواقع، وذلك من خلال تعميم خطأ الفرد على جماعته كلها، ليحلّ لهم من بعد ذلك مداهمة المقرات، واعتقال من فيها ومحاكمتهم، ومن ثم إعدامهم ومصادرة سلاحهم وذخيرتهم، وكل هذا يحصل باسم تطبيق شرع الله، وحناجرهم تصدح بتكبيراتٍ فرحين بنشوة النصر على المرتدين والصحوات.
في الحقيقة لا توجد وصفةٌ سحريةٌ للتخلص من آفة التعميم، ولكن يمكن التخفيف من آثارها من خلال دراسة الواقعة أو الموقف أو الخبر بمعزلٍ عما نحمله من معتقداتٍ أو أفكارٍ سابقةٍ، لأن رؤية الحقيقة -كما هي- تسمح باتخاذ الموقف المناسب حيالها، وتحليل الموقف أو الحدث وفقاً للأصول العلمية ولطرق التحليل العلمي، لأن بالعلم وحده تعرف الأشياء كما هي وليس بالمعتقد، وأن تكون لدينا الجرأة الكافية والشجاعة لإعلان الحقيقة المثبتة علمياً وواقعياً حتى لو اختلفت أو تعارضت مع ما نحمله من معتقداتٍ، وأن يحل العقل الحر محل المعتقد الشخصي باكتشافه الحقائق ودراستها وتحليلها واستنباط القواعد المناسبة منها.
بناءً على ما سبق، يَحسُنُ بالخطباء والدعاة أن يحذّروا الناس من خطورة هذا المرض، وذلك بأن يعلِّموهم استخدام الألفاظ التالية: غالب، وكثير، وأكثر، وقليل، وأقل، بدلاً من: جميع، وكل، وعامة، لأنّ الأولى تترك مجالاً للاستثناء، والأخيرة وسّعت دائرة الحكم والملاحظة. وأن يبيّنوا للناس أنّ هذه الأحكام التعميمية قد تصل إلى حدّ الكبيرة، وهذا ما نفهمه من الحديث الشريف الذي ورد فيه التحذير الشديد من تعميم الشتم أو الهجاء بسبب عداوةٍ ضيقةٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ أعظمَ النّاسِ فريةً اثنان: شاعرٌ يهجو القبيلةَ بأسرِها، ورجلٌ انتفى منْ أبيه).
إنّ الإنسان بطبيعته عجولٌ في أحكامه {وَيَدْعُ الإنسانُ بالشرِّ دعاءَهُ بالخيرِ وكان الإنسانُ عَجُولاً} [الإسراء:11].
وهذه العجلة من شأنها أن تقود إلى مخاطرَ عديدةٍ نتيجة تعميم الأحكام دون توفر البيانات الكافية والحجج المنطقية مما يؤدي في أحيانٍ كثيرةٍ إلى تبني آراءٍ ووجهات نظرٍ منحرفةٍ عن منهج التفكير السليم.
من ذلك الظلم في القول، في حين أنّ الله تعالى يأمرنا بالعدل: {وإذا قُلتُمْ فاعدِلوا ولو كان ذا قُربى وبعهدِ الله أوفُوا ذَلِكُم وصَّاكُم به لعلّكم تَذَكَّرونَ} [الأنعام:152].
ومنها كذلك تشويه الحقائق.
إنّ صاحب التفكير العقلاني المستقيم هو الذي لا يصدر أحكاماً، أو يبدي رأياً دون أن تكون لديه البيانات الكافية والمعلومات الضرورية المتعلقة بالموضوع الذي يفكر فيه. حيث إن تجمع البراهين والأدلة والمعلومات الوافية من شأنها أن تدعم رأيه، وتؤيد صحة ما يصل إليه من نتيجةٍ.
ولذا فإنّ العلماء والحكماء من الناس وأصحاب الرأي والفطنة السليمة يتحرجون أشد الحرج من إبداء رأيٍ أو إصدار حكمٍ دون أن تكون لديهم الأدلة الواضحة البينة التي يستندون إليها فيما يصدرون من آراء أو أحكام.
في زمن الهزيمة النفسية كثيراً ما نسمع من الناس أحكاماً تعميميةً جائرةً من قبيل: فسد الناس، المجتمع كله فاسد، وغير ذلك، ولا يدري من أطلق هذه العبارات أنه أفسد الناس بنص كلام الصادق المصدوق محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين قال: (منْ قالَ هَلَكَ النّاسُ فهوَ أهلكُهم).
تجدر الإشارة في ختام هذا البحث إلى أنّ التعميم قد يكون في بعض الأحيان متعمداً بهدف استمالة واجترار عطف الجمهور والرأي العام الداخلي والخارجي، ومن أجل استغلال أي حادثةٍ فرديةٍ لتصوير المشهد العام بأنه استهدافٌ شاملٌ ضد طائفةٍ أو ملّةٍ أو نحلةٍ.
وهذا هو أساس النظرة السلبية لديننا الإسلامي من قبل الغرب، فالمسؤولون والقادة هناك يقدمون الإسلام لشعوبهم من خلال عرض حالاتٍ فرديةٍ على أنها تمثل الدين كله.
إنّ من قوانين ديننا الحنيف التي يجب على أهل العلم تبيانها مرةً بعد مرةٍ في الخطب والدروس قوله تعالى: {مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
إنه قانونٌ إلهيٌّ يحكم حياة المسلم بغيره من بني البشر، والمعنى أنه لا يحمل إنسانٌ ذنبَ إنسانٍ آخر، إنما يتحمل ذنب نفسه فقط، أما الحكم على طائفةٍ أو ملّةٍ من خلال أعمالٍ فرديةٍ فهو ظلمٌ نهانا عنه شرع ربنا.
وإنّ الانسياق وراء الظنون والأوهام والشبهات في أحكامنا دون استقراءٍ تامٍّ لموضوعٍ ما هو أسلوبٌ خاطئٌ في التفكير، ومنهجٌ غير مأمون العواقب، ولا يضمن الوصول إلى الحقيقة، إضافةً إلى أنه منزلقٌ نحو التفكير المنحرف.
ومما يرتبط ببحثنا هذا ذلك التهويل الذي نالته بعض البرامج التي تتعلق بالتنمية البشرية، وتطوير الذات والإمكانات، كالبرمجة اللغوية العصبية، وعلم الطاقة، و(الريكي)، و(المايكروبيوتيك)، وخطوط الزمن، وغير ذلك من تيّاراتٍ ثقافيةٍ وافدةٍ مشبوهةٍ.
وعند التدقيق في أصول هذه البرامج نجد أنّ بعضها قائمٌ على عقائدَ وثنيةٍ وفلسفاتٍ شرقيةٍ إلحاديةٍ قديمةٍ.
ومع ذلك، تشهد بلادنا الإسلامية إقبالاً ملحوظاً عليها من الشباب، وكأنّ لسان حالهم يقول: هذا هو الحلّ الجذريّ والدواء الناجع لكلّ ما نعانيه من أمراضٍ اجتماعيةٍ أو اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ، أو حتى الأمراض الدينية حلها في دورةٍ سريعةٍ لأحد هذه البرامج السابقة.
إنّ تدريب الشباب وتدريسهم هذه المهارات أصبحت عمل مَن لا عمل له، فهي من أسهل الوسائل لجمع المال وتحقيق الشهرة، وكلٌّ يدّعي أنّ في كتابه أو برنامجه النجاح والسعادة والتفوق والقوة، وأنّ هذا الكتاب الذي لا تحتاج إلى ثاني له لتحقيق ما تريد.
وما زاد سبب الإقبال عليها ضياع الذات وفقدان الهوية والشخصية الإسلامية، وعدم الرضا عن الواقع، والبعد عن المنهج الرباني. وما علم شبابنا أنّه غزوٌ ثقافيٌّ أُلبِسَ لباس العلم، وأنّه استعمارٌ فكريٌّ جديدٌ يرفض كلّ الموروثات الثقافية الدينية وغير الدينية بحجة أنها فكرٌ بالٍ عفا عليه الزمن.
وللتخلص من أضرار هذه الوافدات يجب على الدعاة والخطباء ربط الناس بالكتاب والسنة.
ولكن ماذا نفعل، إذا علمنا أنّ بعض الخطباء قد حوّلوا المنابر إلى وسيلة دعوةٍ لبرامجهم ودوراتهم التي يعلّمون فيها الناس الاعتماد على النفس، ولا تذكرهم بالدعاء والتوكل على الله تعالى، ويروون لهم ماذا قال فلانٌ وفلانٌ الغربيون، ومنهم ملحدون وكفرة، من أساتذة البرمجة وغيرها، ولا يبلغونهم ماذا قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام؟!.