الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق 29 مارس 2024 م
توظيف خطبة الجمعة في معالجة الاختلالات الفكرية خطاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنموذجاً (5)
الخميس 5 رجب 1439 هـ الموافق 22 مارس 2018 م
عدد الزيارات : 1270
توظيف خطبة الجمعة في معالجة الاختلالات الفكرية خطاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنموذجاً (5)
مقدمة:
نتابع في هذا المقال النموذج الخامس من نماذج من الاختلالات الفكرية:
المبحث الخامس: اختلال أسس الحوار والجدال بالباطل: 
الخلاف بين الناس أمر طبيعيٌ مشهورٌ، وحلّ هذا الخلاف عادةً ما يكون بالحوار، وهذا الحوار أحيانًا يكون أقوى من الأسلحة العسكرية كلها؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية الذاتية، بل ربما أفلح الحوار فيما لا تفلح فيه الحروب الطاحنة. انظر سلمان العودة، أدب الحوار، ص10
وهذا السبب هو الذي جعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام  يكثرون الحوار مع أقوامهم بغية هدايتهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة. 
يقول الله تعالى: {لَقَدْ أَرسَلْنا رُسُلَنا بالبيناتِ وأَنزلنا معهُمُ الكِتابَ والميزانَ بالقسطِ وأَنزلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ ومنافعُ للناسِ ولِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بالغيبِ إنَّ اللهَ قويٌّ عزيزٌ} [الحديد:25]. 
فهذا رسول الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم يسلك طريق الحوار مع قومه سنواتٍ قبل أن يحمل السيف، ونبي الله نوحٌ عليه السلام الذي آتاه الله نفَساً طويلاً في جدال الكافرين، لإقناعهم بالحق الذي جاء به من عند الله، حتى ضاق قومه ذرعاً بقوة حجته وطول نفَسه في الجدال، {قالوا يا نوحُ قَدْ جَادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنا فَأْتِنا بما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصادقين} [هود:32]. انظر عبد الرحمن الميداني، ضوابط المعرفة، ص363
إنّ كلمة الحوار تدل على التفاهم بين بني البشر، وقد ذكر القرآن الكريم أمثلةً ونماذج كثيرةً للحوارات على مستوياتٍ شتى؛ منها ما بين الله عز وجل وملائكته، وبين الله ورسله، وبين الله وإبليس، ومنها حوارات الأنبياء والرسل مع أقوامهم، وبين الأنبياء والملائكة، وبين الملائكة والبشر، وبين البشر بعضهم بعضاً في الدنيا والآخرة. 
لا شكّ أنّ الهدف الأساسيَّ من الحوار هو الوصول إلى الحق، لذلك هو عملٌ محمودٌ، وقد يكون واجباً كالقتال في سبيل الله. 
ويندرج الحوار تحت نوعٍ من أنواع الجهاد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاهدُوا المشركينَ بأموالِكم وأنفسِكم وألسنتِكم) رواه أحمد في مسند أنس (12/272) (12246)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو (3/18)، (2504)، والنسائي في كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، ص477، (3096) قال محققه الألباني: صحيح  
فهو جهادٌ باللسان لأنه وسيلةٌ من وسائل الدعوة. 
أما الجدال انتصاراً للنفس، ورغبةً بالاستعلاء والغلبة فهو عملٌ مذمومٌ، وقد يكون حراماً إذا كان فيه طمسٌ للحقّ، أو تضليلٌ للمُناظِر. انظر عبد الرحمن الميداني، ضوابط المعرفة، ص363
إذاً المراء المذموم شرعاً هو الذي يُراد منه الغلبة على الخصم بأي طريقٍ، دون التزامٍ بمنطقٍ ولا خضوعٍ لميزانٍ حاكمٍ بين الطرفين، {وَمِنَ النَّاس مَنْ يُجَادِلُ في اللهِ بِغَيرِ عِلْمٍ ولا هُدىً ولا كِتابٍ مُنيرٍ} [الحج:8]. 
وقد بيّن الله لنا عاقبة الذين يجادلون في سبيل الباطل: {وَكَذَلكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ على الذينَ كَفَروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّار} [غافر:5]. 
وحدثنا القرآن عن طبيعة الإنسان, وكيف أنه يحب الجدل والمراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القرآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]. انظر د.محمد أحمد خلف الله, مفاهيم قرآنية, ص120, سلسلة عالم المعرفة(79), 1984م
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبِضِ الجنّةِ لمنْ تَرَكَ المِراءَ وإنْ كانَ مُحقّاً). رواه أبو داود في الأدب (4800) وحسنه في صحيح الجامع الصغير (1464)، الربض أسفل
ويقول أيضاً: (ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدىً كانُوا عليهِ إلا أُوتُوا الجدلَ) ثمّ تلا هذه الآية: {وَقَالوا ءَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوه لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمونَ}. رواه أحمد في مسند أبي أمامة، مسند أبي أمامة، قال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن بشواهده وطرقه، (36/493) (22164)، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/76-77) (48) وضعفه محققه بشار عواد معروف، والترمذي كتاب تفسير القرآن، باب" ومن سورة الزخرف"(5/378) (3253)، وقال: حسن صحيح
وقد أمرنا الله تعالى بإحسان الجدال الحوار والجدال والمناظرة كلها ألفاظ متقاربة لمعنى واحد، وإن كان أكثر ما جاء من لفظ الجدال في القرآن الكريم يطلق على الجدال المذموم، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ على الذينَ كَفَروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} حتى مع أهل الكتاب: {وَلَا تُجَدِلُوا أَهْلَ الكِتابِ إِلَّا بِالتي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الذينَ ظَلموا مِنْهُمْ وقُولوا آمَنَّا بالذي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وإِلَهُنا وإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمونَ} [العنكبوت:46].
أي إن سلك مجادلوكم مسالك غير مهذبة القول، فتقيدوا أنتم بالقول المهذب، واسلكوا الطريقة الأحسن والأفضل. 
وقوله: {إِلَّا بِالتي هِيَ أَحْسَنُ} تشمل بعمومها الأساليب الفكرية والقولية، وبهذا يتبيّن لنا أنّ المطلوب من المسلم أن يكون في مجادلته على حالةٍ أرقى وأحسن باستمرارٍ من الحالة التي يكون عليها من يجادله، أدباً وتهذيباً، أو قولاً وفكراً. انظر عبد الرحمن الميداني، ضوابط المعرفة، ص362
ويمكن للخطيب أو الداعية أن يعالج ذوي الفكر المتطرّف والغلو بالحوار معهم، واستخدام سلاح الحجة والبرهان والإقناع، سواءٌ كان هذا الآخر مغايراً في السياسة أو الفكر أو الدين. 
والحوار مع هؤلاء أثمر في حالاتٍ عديدةٍ؛ إذ فنّ الحوار يفتح أمامهم آفاقاً جديدةً لم يكن مسموحاً لهم داخل جماعاتهم، ويعينهم على استخدام ملكة العقل، وخاصةً إذا علم هذا المحاوِر كيف يجتث من عقولهم وقلوبهم بذرة التعصب التي أكبر عوائق الحوار، ومن المعروف أنّ "المتعصب جامدٌ عند أفكاره، ورافضٌ لكل فكرٍ نقيضٍ". انظر عبد القادر الشيخلي، أخلاقيات الحوار، ص46
قواعد الحوار:
ولا بدّ للدعاة والخطباء والمربين من أن يكونوا على درايةٍ بقواعد الحوار وآدابه وآفاته كي يكونوا أقدر على التعامل مع المخالفين بكل أصنافهم ومستوياتهم العلمية والفكرية، وفيما يلي سردٌ موجزٌ لبعض قواعد الحوار وآدابه تلزم كلّ مسلمٍ:
1- تحديد موضوع الحوار: ينبغي أن يدور الحوار حول مسألةٍ محددةٍ، بحيث يتم التركيز عليها، ولا يتعداها الحوار حتى يُنْـتَهى منها، فإنّ كثيرًا من الحوارات تكون جدلاً عقيمًا، ليس لها نقطةٌ محددةٌ تنتهي إليها. انظر سلمان العودة، أدب الحوار، ص27
وهذا ما نراه في مجالس العامة، حيث يشعّبون موضوع الحوار الأصلي، ويطرحون نقاطاً هامشيةً دون أن ينتهي بهم المطاف إلى نتيجةٍ مرضيةٍ تتعلق بواحدةٍ من تلك المسائل المطروحة. 
2- مناقشة الأصل قبل الفرع: مناقشة الفرع مع كون الأصل غير متفق عليه تعتبر نوعًا من الجدل العقيم إلا في حالاتٍ معينةٍ. 
فقضية الجهاد أو حجاب المرأة المسلمة -مثلاً- هي من أكثر القضايا التي يثير حولها الغربيون شبهاتهم لإثارة الفتنة بين المسلمين. 
فالأولى هنا الإحالة إلى الأصل، فبدلاً من أن نناقش هذه النقاط الفرعية ينبغي أن نرجع للأصل، وهو الإسلام، فنتجادل فيه، فإذا اقتنع الخصم بالإسلام، فحينئذٍ -من باب أولى- أن يقتنع بهذه الأمور، ولا حاجة إلى الجدال فيها بعد ذلك، وإذا لم يقتنع بالإسلام، فالنقاش في هذه الجزئية يعتبر نوعًا من العبث الذي لا طائل تحته. انظر المرجع السابق، ص27-28
وعليه فلا ينبغي الخوض مع الفرق المنحرفة أو الجماعات الضالة في نقاشٍ حول فساد بعض الفروع دون ربطه بالأصول؛ ونحن نعلم أن هذا الفساد متفرعٌ عن فساد أصولهم، فإن هم صححوا أصولهم وأخلصوها لله وأسسوها على تقوى من الله ورضوان؛ سهل الحديث معهم في تلك الفروع وكان في ذلك مظنة تقويمها وتصحيحها. انظر أبو محمد المقدسي، فساد الفروع نتيجة حتمية لفساد الأصول، ص2-3
3- الاتفاق على أصلٍ يرجع إليه: يجب الاتفاق على أصلٍ يرجع إليه المتحاورون إذا وُجد الخلاف، واحتدم النقاش، وذلك كالاتفاق على الرجوع عند الاختلاف إلى القرآن الكريم، وإلى صحيح السنة، وإلى القواعد الثابتة المستقرة. انظر سلمان العودة، آداب الحوار، ص33
4- التزام الطرق المنطقية السليمة لدى المناظرة والحوار: ومن أشهر قواعد المناظرة (إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل)، والحجة إما أن تكون عقليّةً قاطعةً، أو نقليّةً صحيحةً، فعلى المدعي الدليل، وعلى الناقل الصحة، {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجنَّةَ إِلَّا مَنْ كان هُوداً أَوْ نَصَارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. انظر عبد الرحمن الميداني، ضوابط المعرفة، ص365
آداب الحوار:
1- التزام كلٍّ من الفريقين المتحاورين بالقول المهذب: البعيد عن كل طعنٍ أو تجريحٍ، أو هزءٍ أو سخريةٍ، أو احتقارٍ لوجهة النظر التي يدعيها أو يدافع عنها من يحاوره، فلا تتعرض لشخصه ونسبه وحسبه وأخلاقه. فالرسول صلى الله عليه وسلم في حواره لم يكن فظاً، يقول سبحانه: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليسَ المؤمنُ بالطعّانِ ولا اللعّانِ ولا الفاحشِ ولا البذيءِ). رواه أحمد من مسند عبد الله بن مسعود: (6/390، رقم (3839) وصححه شعيب الأرناؤوط، والترمذي (3/520)، رقم (1977) كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، وقال: حسن غريب، وقال محققه بشار عواد: صحيح
وليعلمِ الإنسان أن الحجة ليست برفع الصوت: {وَاقِصِدْ في مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إنَّ أَنْكَرَ الأَصْواتِ لَصَوْتُ الحَميرِ} [لقمان:19]. 
ولا يجوز اتهام المخالف، ولا التشنيع عليه، ولا ذكره من أجل مخالفته، ولا تبديعه، ولا تفسيقه. 
2- الإخلاص والتجرد: أن يكون الحوار لله، ابتغاء مرضاته وطلباً لثوابه، وأن يكون قصدنا هو الحق، سواء جاء على لسانك، أو على لسان خصمك، وسواء كان قائل الحق صغيراً أو كبيراً، عظيماً أو حقيراً، امرأةً أو طفلاً، يقول الشافعي رحمه الله تعالى: "ما ناظرت أحداً قطُّ إلا أحببت أن يُوفق ويُسدد ويُعان، ويكون عليه رعايةٌ من الله وحفظ، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبالِ بيّن الله الحقّ على لساني أو لسانه". انظر أبو نعيم، حلية الأولياء، (9/118)
3- حسن الإنصات: يعد حسن الاستماع من أهم شروط التواصل الناجح مع الآخرين، وهذا أدبٌ رفيعٌ يحتاج إليه الداعية، وهو من احترام المحاوَر، فتسمع منه وأنت منشرح الصدر قبل أن تردّ، وتصغي بهدف الفهم والاستيعاب، وليس بهدف المناقضة والرد.  
فلا تظهر أيّ علامةٍ على الرفض والاستياء، ولا تُبدي أيّ انفعالٍ يمنع استمرارية الحوار. 
إنّ القرآن الكريم مع جلال الله وعظمة قدره يخاطب البشر بأسلوب الحوار، ويعرض آراءهم وعقائدهم كما هي، مع أنّه قادرٌ على الإرشاد الفوقي. انظر طارق سويدان وفيصل عمر باشراحيل، صناعة النجاح، ص164
كثيراً ما يسعى أصحاب الفكر المنحرف إلى إثارة الجدل بما يطرحونه من مسائل خلافيةٍ جدليةٍ لم يستقرّ عليها رأيٌ، فتتسع دائرة الخلاف، وتضيق دائرة الاتفاق بين الأفراد والجماعات، ومن هنا يجب على المشتغلين بالدعوة أن يبيّنوا للناس أنّ مسائل الدين ليست على درجةٍ واحدةٍ من حيث قبول الخلاف فيها؛ إذ إنّ هناك مسائل لا مجال للخلاف فيها بين المسلمين، ومن ذلك أصول الدين والعقائد التي ثبتت بأدلةٍ قطعيّةٍ ودلالةٍ قطعيّةٍ، مثل فرضية الصلاة والصيام، ووجود الجنة والنار والملائكة. 
وبالمقابل ثمّة مسائلُ لا حرج في الخلاف فيها بين المسلمين، ومن ذلك بعض فروع العقيدة والفقه التي ثبتت بأدلةٍ ظنيّةٍ أو دلالةٍ ظنيّةٍ، مثل الخلاف في إثبات رؤية النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلة المعراج، والخلاف في وجوب ترتيب أعضاء الوضوء، وحكم قراءة الفاتحة للمأموم وغيرها.
ومن قواعد ديننا المتفقّ عليها في باب إنكار المنكر أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد التي يختلف فيها العلماء، حيث يدور أمر المجتهد بين أجرٍ وأجرين. انظر إسماعيل المجذوب، الاختلاف أسسه-آدابه، ص23
ومن المعلوم أنّ ثمة قضايا لا يمكن اجتماع الأمة فيها على قولٍ واحدٍ. ومن الأخطاء الشائعة أن يقطع الإنسان برأيه في الأمور التي فيها مجالٌ للاجتهاد والاختلاف، بينما السلف الصالح، وكبار العلماء في كلّ العصور يبحثون الأمور بحثاً متأنياً، بعد أن تكاملت عندهم مقومات البحث العلمي، ومع ذلك تراهم بعيدين عن القطع والجزم بصحة ما ذهبوا إليه من أمور الاجتهاد. انظر المرجع السابق، ص30-31
يقول ابن تيمية رحمه الله: "إنّ مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحدٍ أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يُتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبيّن له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه". ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (30/79)
وما أروع ما نقله يونس الصدفي عن الإمام الشافعي رحمه الله بقوله: "ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يوماً في مسألةٍ ثمّ افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثمّ قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألةٍ". الذهبي، سير أعلام النبلاء، (10/16)
وهذا الجدل الذي يحصل اليوم بيننا في المسائل الفرعية لا يزيدنا إلا قسوةً في قلوبنا، وتفرقاً في صفوفنا، وضعفاً في قوتنا، ويحولنا إلى أعداء متدابرين، بدل أن نكون إخوةً متحابّين. وفوق هذا كله، هذه النزاعات هي من جنس الجدل البيزنطي الذي حذّر منه أهل العلم، وخاصّةً في وقتنا هذا. 
يقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: "احذر الجدل البيزنطي، أي الجدل العقيم؛ فقد كان البيزنطيون يتحاورون في جنس الملائكة، والعدو على أبواب بلدتهم حتى دهمهم". انظر كتابه حلية طالب العلم، ص202
لذلك كان لزاماً على أهل العلم من الخطباء وغيرهم أن يبيّنوا للناس نتائج هذه الخلافات على مجتمعنا الإسلامي، وألّا تُطرح قضايا من هذا القبيل على المنابر والدروس العامة، وذلك لأنّ بقاء المسلمين إخوةً في الدين مع اختلافهم في المسائل الاجتهادية خيرٌ من تفرقهم وتمزقهم وبقائهم على خلافاتهم، لذلك لا بدّ من التعاون في الأمور المتفق عليها، وتفعيل خلق الإعذار في الأمور التي لا يضر الاختلاف فيها لضرورة الائتلاف وتوحيد الأمة تُجاه ما يُكاد لها ويُمكر بها من قبل أمم الكفر في الشرق والغرب.
ومن المصائب الكبرى التي مُني بها عددٌ من شباب الإسلام اشتغالهم ببعض مسائل العقيدة المشكِلة كمسألة الصفات الخبرية وغيرها، وإقحامهم العوام في المناهج الكلامية والأدلة المنطقية والعقلية، وللأسف فقد رأينا وسمعنا من بعض الخطباء من يطرح هذه المسائل في خطب الجمعة. أذكر أنّ أحدهم خصّص خطبةً كاملةً لمناقشة مسألة الصفات الخبرية وخلق القرآن، وخلاف ابن تيمية والأشاعرة، وأدلة كلّ فريقٍ، والرد، والترجيح، ومتحدّثٌ آخر دوّخ الحاضرين في مناسبة زواجٍ بمصطلحاتٍ عقديّةٍ وأدلةٍ كلاميّةٍ وقضايا فلسفيةٍ، لم يخرج منها الحاضرون بفائدةٍ تُذكر
ويغفلون عن منهج القرآن في غرس العقيدة الصحيحة في قلوب العباد وعقولهم بأيسر السبل، يقول علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّبَ الله ورسوله". رواه البخاري في كتاب العلم، باب من خصَّ بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا، انظر فتح الباري (1/225) (127)  
ومن المعروف أنّ المستند الذي يجب أن يُبنى به إيمان العوام هو أدلة القرآن وما يجري مجراه مما يحرّك القلب إلى التصديق، ولا ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن وما في معناه. انظر الغزالي، إلجام العوام، ضمن كتاب مجموع رسائل الإمام الغزالي، ص353
أمّا الأدلة الكلامية والمنطقية فهي بمنزلة الدواء للمريض؛ فلا يُلجأ إليها إلا عند الحاجة، يقول الغزالي: "وما يُعالج به المريض بحكم الضرورة يجب أن يُوقّى عنه الصحيح، والفطرة الصحيحة الأصلية معدّةٌ لقبول الإيمان دون المجادلة وتحرير حقائق الأدلة". انظر الغزالي، إلجام العوام، ضمن كتاب مجموع رسائل الإمام الغزالي، ص355
ومما يعتصر له قلب المؤمن أسىً وحسرةً ما يحصل أحياناً من ضعف بعض المحاورين وهم يحاولون الدفاع عن قضيةٍ إسلاميةٍ عادلةٍ، فيسيئون من حيث يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً، وما ذاك إلا بسبب قلة ثقافتهم الدينية. 
وهذا ما رأيناه في ثورة الشام المباركة حين نشاهد في شاشات التلفاز مناظراتٍ ينتصر فيها أعداء هذا الدين. 
وما علم هؤلاء الذين أرادوا الدفاع عن دينهم الإسلامي أنّ الدين أُتيَ من قبلهم من حيث لا يدرون. 
لذلك يجب على أهل العلم والناشطين في الثورة من إعلاميين وغيرهم أن يمتلكوا ثقافةً فكريةً وسياسيةً عامةً، منفتحةً على كل قضايا وشؤون الإنسان في الحياة، كي يكونوا على صلةٍ بواقع الحوار وبطبيعة اتجاهاته. 
ومما ينفع في هذا المجال أن يعوّد الخطباء والدعاة أنفسهم على استخدام اللغة الجدلية حتى في خطب الجمعة والدروس العامة وذلك لاستثارة عقول المخاطبين عن طريق استخدام عباراتٍ، من مثل: "وإذا ما سأل سائلٌ"، أو "وقد يعترض معترضٌ على هذا الكلام، فنقول له"، أو "والرد على هؤلاء هو"، أو "وإذا ما طلب أحدٌ الدليل على هذا الكلام فنقول له كذا وكذا".   
 
1 - انظر سلمان العودة، أدب الحوار، ص10
2 - انظر عبد الرحمن الميداني، ضوابط المعرفة، ص363
3 - رواه أحمد في مسند أنس (12/272) (12246)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو (3/18)، (2504)، والنسائي في كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، ص477، (3096) قال محققه الألباني: صحيح
4 - انظر عبد الرحمن الميداني، ضوابط المعرفة، ص363
5 - انظر د.محمد أحمد خلف الله, مفاهيم قرآنية, ص120, سلسلة عالم المعرفة(79), 1984م
6 - رواه أبو داود في الأدب (4800) وحسنه في صحيح الجامع الصغير (1464)، الربض أسفل
7 - رواه أحمد في مسند أبي أمامة، مسند أبي أمامة، قال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن بشواهده وطرقه، (36/493) (22164)، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/76-77) (48) وضعفه محققه بشار عواد معروف، والترمذي كتاب تفسير القرآن، باب" ومن سورة الزخرف"(5/378) (3253)، وقال: حسن صحيح
8 - الحوار والجدال والمناظرة كلها ألفاظ متقاربة لمعنى واحد، وإن كان أكثر ما جاء من لفظ الجدال في القرآن الكريم يطلق على الجدال المذموم، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ على الذينَ كَفَروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}
9 - انظر عبد الرحمن الميداني، ضوابط المعرفة، ص362
10 - انظر عبد القادر الشيخلي، أخلاقيات الحوار، ص46
11 - انظر سلمان العودة، أدب الحوار، ص27
12 - انظر المرجع السابق، ص27-28
13 - انظر أبو محمد المقدسي، فساد الفروع نتيجة حتمية لفساد الأصول، ص2-3
14 - انظر سلمان العودة، آداب الحوار، ص33
15 - انظر عبد الرحمن الميداني، ضوابط المعرفة، ص365
16 - رواه أحمد من مسند عبد الله بن مسعود: (6/390، رقم (3839) وصححه شعيب الأرناؤوط، والترمذي (3/520)، رقم (1977) كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، وقال: حسن غريب، وقال محققه بشار عواد: صحيح
17 - انظر أبو نعيم، حلية الأولياء، (9/118)
18 - انظر طارق سويدان وفيصل عمر باشراحيل، صناعة النجاح، ص164
19 - انظر إسماعيل المجذوب، الاختلاف أسسه-آدابه، ص23
20 - انظر المرجع السابق، ص30-31
21 - ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (30/79)
22 - الذهبي، سير أعلام النبلاء، (10/16)
23 - انظر كتابه حلية طالب العلم، ص202
24 - أذكر أنّ أحدهم خصّص خطبةً كاملةً لمناقشة مسألة الصفات الخبرية وخلق القرآن، وخلاف ابن تيمية والأشاعرة، وأدلة كلّ فريقٍ، والرد، والترجيح، ومتحدّثٌ آخر دوّخ الحاضرين في مناسبة زواجٍ بمصطلحاتٍ عقديّةٍ وأدلةٍ كلاميّةٍ وقضايا فلسفيةٍ، لم يخرج منها الحاضرون بفائدةٍ تُذكر
25 - رواه البخاري في كتاب العلم، باب من خصَّ بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا، انظر فتح الباري (1/225) (127)
26 - انظر الغزالي، إلجام العوام، ضمن كتاب مجموع رسائل الإمام الغزالي، ص353
27 - انظر الغزالي، إلجام العوام، ضمن كتاب مجموع رسائل الإمام الغزالي، ص355
دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 114) 80%
غير فعال (صوتأ 27) 19%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 143