إضاءات دعوية لخطيب الجمعة من خلال مناهج الأنبياء (النموذج الأول: محمد صلى الله عليه وسلم)
مقدمة:
على الرغم من إنعام الله تعالى على خلقه بالعقل والفطرة إلا أنه لم يكلهم إليها، فأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل عليهم الكتب ليقيم الحجة على عباده، ويرعى مصالحهم في المعاش والمعاد فضلاً منه ورحمةً، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
هؤلاء الرسل هم صفوة الله وخيرته من عباده الصالحين، وهم المثل الأعلى للبشرية كلها، انتقلوا بأقوامهم من الظلمات إلى النور، وأخرجوهم من الضلالة إلى الهدى، وطهّروا مجتمعاتهم من أدران التحلل والفساد، والفوضى والاضطراب.
وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام أفضل الخلق لما اتصفوا به من الأخلاق الحميدة والخصال الجميلة، فإنّ على كل مسلمٍ أن يدرس سيرتهم، ويجعلهم قدوةً له، وخاصةً الدعاةَ ومن يتصدون للعمل الإسلامي في شتى مجالاته، {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام89-90].
ففي قصصهم العبرة والموعظة، وفيها كذلك الخبر: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف111].
إنّ دراسة دعوات الأنبياء والرسل تكشف عن السنن الإلهية الثابتة التي تحكم الكون، مما يثبت قلوب الدعاة، فيمضون في طريقهم، صابرين على ما أصابهم، مطمئنين أنّ العاقبة للمتقين {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود120].
كيف لا؟ وهذا سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى له: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].
وقال أيضا: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
من مزايا دعوة الأنبياء البساطة وعدم التعقيد والتكلف، وهي مزيةٌ واضحةٌ في دعوة جميع الأنبياء، فإنهم يسيرون مع الفطرة، ويخاطبون الناس على قدر عقولهم، ولا يتكلفون في دعوتهم كما يفعل بعض الزعماء والمصلحين، ولا يعقّدون الأمور أو يخاطبون الناس بما لا يفهمون أو يدركون، بل يسلكون طريق الحكمة في الدعوة والتبليغ.
وهذا رسول الله محمّدٌ صلى الله عليه وسلم يقول القرآن على لسانه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
كما يأمره ربه بالدعوة إلى الله بالحكمة فيقول عزّ من قائلٍ: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].
ولهذا نجد أنّ أنجع طريقٍ للدعوة هو الأسلوب الفطري الذي يخاطب الفطرة التي خلق الله عباده عليها.
وسنعرض فيمايلي أمثلةً حيةً لمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في معالجة بعض الانحرافات الفكرية لدى أقوامهم، ليكونوا قدواتٍ لدعاة عصرنا.
وسنختار من الأنبياء بعضاً منهم، ومن سيرهم سنختار بعض المواقف مما له علاقةٌ بموضوع بحثنا، ونبدأ بخير الرسل وأفضلهم؛ رسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلم:
أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فجمع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بين قوة البيان، ووضوح الحجة، ولين الجانب، واتسمت دعوته بالرفق وحسن معالجة الأمور، ومقابلة السيئة بالإحسان، فقد كان خلقه القرآن الذي أمره بخفض الجناح لأتباعه المؤمنين: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215].
بدأ دعوته بالتوحيد والنهي عن الشرك كسلفه من الأنبياء جميعاً، فقال المستكبرون: {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 4-7].
لقد طاشت ألباب زعماء قريشٍ وضاقت ذرعاً بهجوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أوثانها، سواءٌ فيما أنزل عليه من القرآن، أو في دعوته السرية والعلنية لأنّ هذا الأمر لا هوادة فيه، ومن أشهر اعتراضاتهم اتباع الضعفاء للرسول محمّدٍ وجلوسهم معه.
وهذه آفةٌ قديمةٌ قدم البشرية؛ فهذا نوح عليه السلام يعترض عليه قومه بأنّ الذين اتبعوه هم ضعاف الناس وفقراؤهم، وعددهم قليلٌ، قال تعالى حكايةً عن قوم نوحٍ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111].
وقال أيضاً: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:29].
وقال عن قوم صالحٍ عليه السلام: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:75-76].
ولقد نهى الله تبارك وتعالى نبيه محمّداً صلى الله عليه وسلم عن تلبية مطالب هؤلاء المستكبرين عدم مجالسة مساكين المسلمين وفقرائهم، أمثال خبّاب وعمّار بن ياسر وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي رضي الله عنهم، وأنزل عليه في ذلك: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
فالأمر صريحٌ من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع فقراء المؤمنين وضعفائهم، وذلك بألا ينصرف عنهم كراهيةً لمجالستهم بسبب حالتهم الاجتماعية، وينهاه عن أن يصرف نظره عنهم إلى غيرهم مريداً لزينة الحياة الدنيا، وفي هذا إلزامٌ له بأن يكون متواضعاً لهم، مؤانساً، مجالساً، معلماً، أباً رحيماً، حانياً عليهم، رؤوفاً بهم، خافضاً جناحه لهم، غير مستكبرٍ عليهم.
وعن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفرٍ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا وكنت أنا وابن مسعودٍ ورجلٌ من هذيل، وبلالٌ ورجلان لستُ أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
ولا يظنّن ظانٌّ أنّ هذا المرض قد عُوفي منه البشر في زماننا؛ فما زلنا إلى الآن نرى هذه النماذج المستكبرة في كلّ مجتمعٍ أو تجمعٍ، ممن لا يرضون لأنفسهم أن يكونوا بين جموع المصلين في بيت الله تعالى فيؤثرون الصلاة في البيوت صيانةً لجنابهم العزيز من أن يُخدش بالاختلاط مع أسافل الناس –بزعمهم-، وربما ترك الصلاة والعبادة كليةً كونها من سمات بسطاء الناس، وقد رأينا من هؤلاء ممن لا يرضى لابنته البالغة أن ترتدي غطاء الرأس أو الحجاب الشرعي كونها تدرس في الجامعة.
هؤلاء المستكبرون هم الذين يسميهم كتاب الله تعالى الملأ، وهم أهل الحلّ والعقد في كل مجتمعٍ. وهؤلاء غالباً ما يكونون معادين للدعوة، يقفون في وجهها، ويفترون على حملتها، ويثيرون الشبهات حولها، ومن أسباب عداوتهم للدعوة الكبر وحب الرياسة والجاه والجهل بالدين.
ولا بد للمشتغلين بالدعوة من الحكمة في دعوتهم، ومن ذلك الاعتراف بما لهم من كرامةٍ بين قومهم، والوعد بالخير لهم إن استجابوا واتبعوا دين الله تعالى، وعدم تجريحهم، فالنفوس مجبولةٌ على حبّ من أحسن إليها، وكره من أساء إليها.
وقد علّمنا كتاب ربنا أنّ لكل قوم ملأً ونخبةً، ولكلٍ من النخبة أو الملأ خطابه الخاص، وإذا استطاع الخطباء والدعاة تخليص الجمهور وتحريره من التبعية، ومخاطبته مباشرةً، وإيصال الفكرة إليه بوضوحٍ، وأمكن إقناعه بضرورة التغيير من خلال المعاناة التي يعيشها فقد تحقق النقلة المطلوبة في إطار الأغلبية الصامتة التي لم تستجب إلى هذا الملأ.
وهذا ما جعل نبينا محمّداً صلى الله عليه وسلم يحرص على إسلام زعماء القبائل، لأنه كان يعلم أنّ الناس تبعٌ لقادتهم، وكثيراً ما كان يستهدف زعماء قريشٍ في دعوته.
والرسول صلى الله عليه وسلم بما فطره الله عليه من العاطفة الكريمة الصادقة الحارّة تُجاه قومه وعشيرته الأقربين كان يتألم لما يراه من صدود هؤلاء عن دعوته، وخاصّةً الزعماء منهم، لذلك أنزل الله تعالى عليه قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [لكهف:6].
أي: مهلكٌ نفسك أنّهم لا يؤمنون. وهذا من أهم صفات الداعية إلى الله؛ الفطرة السوية التي تحب الخير والهدى للناس، والحزن والحسرة لمرأى جموع البشر تتخبط في دياجير الظلام.
وفي هذا درسٌ عظيمٌ في تجنيب الدعاة والخطباء من اليأس والتوقف عن الدعوة إذا لم يهتدِ الناس على أيديهم قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
لا أحد يملك أن يُدخل الإسلام والإيمان في قلب شخصٍ أبداً، فالله هو الذي يهدي من يشاء بعنايته، وكم رأينا من طلبة علمٍ شرعيٍّ اعتزلوا الناس بسبب يأسهم من إصلاح ما هم عليه من فسادٍ.
هذا نبي الله هارون عليه السلام عندما ذهب أخوه موسى عليه السلام لميعاد ربّه، يبقى مع بني إسرائيل، وهم يشركون بالله تعالى، ويعبدون العجل من دونه. لقد كان بإمكانه أن يتخذ إجراءً حاسماً ويتركهم وشأنهم، ولا يبالي بما حصل، لكنه آثر أن يبقى لعلّ الله أن يهديهم، يحاول فيهم حتى يرجع موسى عليه السلام.
وهكذا يجب أن يكون عليه حال المشتغلين بالدعوة والخطابة والتعليم، لا يأس مهما حصل من انحراف البشر، ولا تراجع مهما حصل من مفاجآت.
ومن مواقف الرسول التي يجب على كل داعيةٍ أن يأخذ منها الدروس والعبر قصته مع ذلك الشاب الذي أتى يطلب إليه أن يأذن له بالزنا، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: (ادْنُهْ)، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ فَجَلَسَ، قَالَ: (أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟)، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟)، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟)، قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟)، قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ)، قَالَ: (أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟)، قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ)، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ)، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.
في هذه القصة دروسٌ وعبرٌ عديدةٌ ينبغي أن يُفيد منها الدعاة والخطباء، منها أنّ الرفق والحلم والأناة هو الأصل الذي يجب على المتكلمين في الدين أن يبنوا عليه دعوتهم وإقناعهم للناس بأحكامه وشرائعه، فلا يعنفون ما وجدوا للرفق سبيلاً، وهذا ما أمر الله به نبيه موسى حين أرسله إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}.
يقول عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ).
ويقول أيضاً: (مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ).
ومن ذلك التلطف في الخطاب واستعمال أدوات النداء متبوعة بكلام فيه تودد، من مثل: يا إخوتي في الله، يا أيها المسلمون، أو المؤمنون، أيها الإخوة الكرام الأحبة، والدعاء لهم، وقول: إني أحبكم في الله، وهذا ما نراه في خطاب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لأقوامهم عندما ينسبون أقوامهم إليهم بكلمة (يا قومي) وغيرها.
إنّ الله تعالى أمر نبيّه عليه الصلاة والسلام أن يعلّم من يحتاج إلى تعليمٍ، وأن يذكّر من يحتاج إلى تذكيرٍ، وأن يجادل من عنده شبهةٌ أو هوىً بالتي هي أحسن.
هذه المراتب العظيمة من تأملها وطبقها على الناس، عرف أن الله ذكر الدواء الناجع لكل نوع من أنواع المدعوين، النوع الذي يجهل ويقبل التعليم ولو عُلِّم لتبع، والنوع الذي عنده غفلةٌ وتأخرٌ فيدعى بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وهما من أعظم أنواع الوعظ، ثم هناك معاندٌ جاحدٌ يجادَل بالتي هي أحسن؛ بالبرهان والحجة واللسان القويم، وربما يكون عند بعض الناس خلفياتٌ ثقافيةٌ، أو معلوماتٌ مسبقةٌ خاطئةٌ، فيحتاجون إلى محاورةٍ ومجادلةٍ لكشف زيف ما يعتقدونه، والرد على الشبهات التي يأتون بها, قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].