إضاءات ٌ دعويةٌ لخطيب الجمعة من خلال مناهج الأنبياء (النموذج الثاني: إبراهيم عليه السلام)
إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء، وهو الجدّ الأكبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ إنه من ولد إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم، فيكون إبراهيم هو الجدّ الأعلى لرسول الله -عليهم الصلاة والسلام جميعاً-، وقد خصّ الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه السلام بخصائص ومزايا فريدةٍ؛ فجعله أباً للأنبياء، وإماماً للأتقياء، وقدوةً للمرسلين، وهو من أولي العزم من الرسل، واختاره الله تعالى من بين الرسل والأنبياء بالخُلّة والاصطفاء، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125].
وكان منذ صغره صائب الرأي، ثاقب الفكر، راجح العقل، قوي الحجة كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51].
وكان أول ما بدأ به دعوة أبيه إلى الإسلام وإلى التوحيد، فقد كان أبوه من عباد الأصنام ومن سدنتها، فبدأ به كما قال الله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
وهكذا الترتيب في الدعوة، فيبدأ الداعية بأقرب الناس إليه، ومن أخطاء بعض الدعاة أنّهم يشتغلون بدعوة الأباعد، وذووهم من أولى الناس بدعوتهم.
يبدأ إبراهيم عليه السلام دعوته لأبيه بقوله: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا} [مريم:44].
وذكر الأبوة هنا يفيد التوقير، ولم يسمّه باسمه، ولم يقل: يا آزر، وهو أسلوبٌ جذّابٌ حاول فيه الخليل عليه السلام إعادة أبيه إلى جادة الصواب، فاستخدم هذا النداء الموجب للعطف والحنان، كي يهدّئ من ثورة أبيه المشرك ويحاول اجتذابه.
ثمّ أخرج الكلام مخرج السؤال، فقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} [مريم:42].
ولم يعمد إلى أسلوب الأمر المباشر والنهي المباشر، فيقول مثلاً: لا تعبد الشيطان، أو لا تعبد ما لا يسمع، وهذا أسلوبٌ حبّذا لو اتبعه خطباؤنا كي يكون كلامهم أقرب إلى قلوب العباد.
ولم يصف أباه بالجهل ونفسه بالعلم الغزير وقوة الحجة، بل عدل عن هذه العبارة إلى كلامٍ ألطف ويدل على المعنى أكثر، فقال بتواضعٍ: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43].
مثلما قال موسى عليه السلام لفرعون: {وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ} [النازعات:19].
وهكذا تكون الدعوة مع كبار السن ومع الآباء والأجداد بالتلطف والرفق، فالرفق زينة كل شيء، وهو بالنسبة للدعوة من أهم الأساليب التي لها أثرها العميق، قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ).
وما نراه من غلظة بعض الدعاة وجلافتهم هو سببٌ رئيسٌ لصدّ كثيرين عن الاستجابة لدعوتهم.
يقول إبراهيم عليه السلام بعد ذلك: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45].
فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه مثلما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: {أَن يَمَسَّكَ}، والمسّ ألطف من غيره، ولم يقل: ينزل بك، أو يخسف بك، ثمّ نكَّر العذاب، فقال: ولم يقل: {عَذَابٌ} العذاب، ثم ذكر {الرَّحْمَٰنِ}، ولم يقل الجبار ولا القهار تأليفاً له، واستجلاباً للإيمان بهذا الرحمن، واستشعاراً لرحمته، فأيّ خطابٍ ألين وألطف من هذا؟.
ومع ذلك كله كان الرد من أبيه قاسياً شديداً: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46].
وعلى الرغم من هذا الرد يجيء جواب إبراهيم عليه السلام جواباً تلين له الحجارة؛ لأنه لم يكن يدعو لحظّ نفسه حتى يثور، ولم يكن يدعو لأجل أن يقابل بالإيجاب، ولذلك لم يثأر ولم ينتقم، بل قال: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
وفي هذا عظةٌ لبعض الخطباء الذين يغضبون لأنفسهم، ويُوهمون أنفسهم وغيرهم أنّه غضبٌ لله تعالى.
لم يكن إبراهيم عليه السلام يخاف في الله لومة لائم، ولذلك لما وصلت قصته إلى النمرود، قام إبراهيم عليه السلام بين يديه آمراً وناهياً، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
بدلاً من أن يشكر هذه النعمة إذا به يكفر ويشرك ويدّعي أنه رب، حينها يقول إبراهيم عليه السلام أمامه: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، أي إنّ ربي هو الذي يتصف بأنه يحيي ويميت؛ فهو الذي يصح أن أعبده وأدعوه وألجأ إليه. ويتضمن هذا أنّ من لوازم الربوبية القدرة على الإحياء والإماتة، فوجود هذه القدرة دليلٌ على أنّ المتصف بها هو الرب.
لكنّ هذا الملك الطاغية يجيب على سبيل المغالطة بكل وقاحةٍ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، كيف هذا؟ إنه يأخذ رجلاً ويقتله، وآخرَ حُكم عليه بالقتل فيعفو عنه، ويقول: أحييته، أو بمعنى أنه يستطيع إحضار رجلين من السجن، فيقتل أحدهما، ويعفو عن الآخر، وأوهم بهذا أنه نقض دليل إبراهيم عليه السلام، وأبان بطلانه حين قدّم الشاهد العمليّ على ذلك، وكأنّ النمروذ قال لإبراهيم: دليلك منقوضٌ، إذ أنا أتصف بأني أحيي وأميت، فلزم على ذلك أن أكون أنا رباً، وهذا لا تقول به يا إبراهيم.
لم يشأ الخليل أن يدخل في جدلٍ يكشف فيه المغالطة التي صنعها النمروذ، إذ جعل القتل إماتةً، والعفو إحياءً، وهما غير مرادين في أصل دليل إبراهيم عليه السلام، إذ يريد إبراهيم عليه السلام خلق الحياة في المادة غير الحية، وسلب هذه الحياة سلباً حقيقياً، لا سلباً عن طريق تعاطي الأسباب التي جعلها الله أسباباً لحدوث الموت الذي يتمّ بخلق الله وبقدرته، إنما انتقل إلى دليلٍ آخر مماثلٍ لا يستطيع النمروذ أن يغالط فيه أو يرد.
لذلك توجّه إبراهيم للنمرود بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}، أي من صفات الله الخالق أنه جعل من نظام الكون أن يكون إتيان الشمس من جهة المشرق لا من جهة المغرب، ومَن له صفة الربوبية فهو قادرٌ على أن يجعلها تأتي من المغرب، فإن كان عندك يا نمروذ نقضٌ لهذا الدليل بشاهدٍ عمليًّ فأتِ بالشمس من المغرب، وهنا بُهت وتحيّر، واضطرب وتغير، وعجز عن ردّ الدليل، لأنه لا يستطيع أن ينقضه. فماذا عساه أن يقول الآن؟ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
إنّ هذه المحاورة التي قصّها علينا ربنا في كتابه ترشد من يتصدى للدعوة إلى دين الله تعالى أن يكون على علمٍ بأصول الحوار، وهذا يكون بسلوك طريق الأنبياء في إقامة الحجة على المخالفين بالمنطق والبرهان العقلي الذي يفهمه الصغير والكبير، والعالم والجاهل، وهذا ما قام به إبراهيم عليه السلام مع هذا الطاغية، حيث أقام الحجة القاصمة على خصمه العنيد، وقطع عليه الطريق بأيسر السبل وأظهر البراهين الدامغة.
إنّ من أولى الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الخطباء والدعاة القدرة على الإقناع، وهذا يستدعي أن يكون الخطيب على علمٍ بأساليب الاستمالة، وكيفية توجيه عواطف الناس وعقولهم ومشاعرهم إلى المراد.
وذلك باستخدام الحجة الواضحة والكلمة القاطعة، لإسكات المعاند والمجادل، وهذا ما كان عليه إبراهيم عليه السلام لذلك قال الله تعالى فيه ممتناً ومادحاً: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83].
نوح عليه السلام:
ينتهي نسب نوحٍ عليه السلام إلى شيث ابن آدم أبي البشر عليهما السلام، هو أوّل رسول إلى الأرض، وأطول الأنبياء عمراً، وأكثرهم جهاداً. ذكر المفسرون أنّ عدد الذين آمنوا معه عشرة، وذكر آخرون أنهم كانوا أربعين، وأكثر ما قيل أنهم ثمانون نفساً.
بقي نوحٌ عليه السلام في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:25-26].
وما ترك وسيلةً تقنعهم إلا سلكها؛ سراً وجهاراً، ترغيباً وترهيباً، وعداً ووعيداً، قال تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [نوح:5-9].
فاستعمل معهم كل الأساليب؛ دعاهم أفراداً، ودعاهم جماعاتٍ، دعاهم في الليل، ودعاهم في النهار.
إنه لأمرٌ عجيبٌ أن لا يترك نوح عليه السلام وسيلةً إلا استخدمها مع قومه، في مدةٍ زمنيةٍ قاربت الألف سنةٍ حتى تضجّر منه قومه، وأعلنوا الشكوى أمامه أنهم لم يعودوا يصبرون على جداله، {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32].
وفي هذا درسٌ كبيرٌ وموعظةٌ بليغةٌ لكثيرٍ من دعاة زماننا الذين فقدوا أعظم صفات الداعية؛ وهي الصبر على مكاره الدعوة ومشاقها، فطريق الدعوة إلى الله طريقٌ شائكٌ يحتاج من الداعية الصبر والمصابرة، وهذه وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
فأمره بالصبر على ما سيصيبه بعد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ليعلمه أنّ طريق الدعوة إلى الله ليس مفروشاً بالورود والرياحين، إنما هو طريقٌ مليء بالبلايا والرزايا والفتن.
وقول قومه له: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32].
فيه توجيهٌ لدعاتنا وخطبائنا أنّ من آداب المناظرة عدم الملل والضجر عند أول موقفٍ فيه إيذاءٌ من المعاندين، فنوحٌ عليه السلام ملّ قومه من كثرة جداله، ولم يملّ هو على الرغم من طول المدة؛ وهي ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً، وعلى الرغم من قلة الذين آمنوا معه من قومه، وهم على أكبر تقديرٍ لم يجاوزوا مئةً.
وعندما شعر قومه أنّهم قد أُلجموا بالجدل والخصومة هربوا إلى بابٍ آخر، وهذا شأن المكابرين المعاندين في كلّ مكانٍ وزمانٍ، فانصرفوا عنه واستعجلوا العذاب، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، فيجيبهم نبي الله بالمنطق الذي يليق بأنبياء الله بأنّ قضية العذاب بيد الله عز وجل: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} [هود:33].
فهذه ليست قضيتي، ولست مسؤولاً عن عذابكم، إنما هذا أمرٌ بيد الله إذا شاء الله أن يعذبكم فسيعذبكم.
أمّا الحوار والجدل معهم فهي قضيةٌ ليست مقصودةً لذاتها إنما كان ذلك لأجل النصيحة لهم، {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34].
إنه لا يتملقهم ولا يطلب رضاهم، ولا يرغب بمالهم، {إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ}، ولا يخاف بطشهم، إنما يخشى خالقه سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب:39].