الأخطاءُ الفكريةُ العامةُ عند قومِ نوحٍ عليه السلام:
طالَ الزمانُ بعد آدمَ وامتدتِ العصورُ، وبدأتْ شمسُ الحقِّ تخبو شيئاً فشيئاً مدةَ عشرةِ قرونٍ حتى غابت تماماً، فنُسخ العلمُ، وعَمَّ الجهل، وقُبض العلماء، وتلاشت الفضيلة، وعمَّتِ الرذيلةُ، فأحدثَ الناسُ أصناماً وأقاموا تماثيل، واتخذوها آلهة تعبد من دون الله. ، وطرأ خللٌ فكريٌّ كان له أثراً بالغاً على كلِّ شيءٍ من نواحي الحياة.
لقد سخّر القومُ لأنفسهم أرضَ الله فاستعلَوْها وأظهروا قوتهم، فكانتِ الأرضُ لهم بساطاً، سلكوا فيها طرقاً وفجاجاً، وعملوا بالزراعة وساروا بالتجارة حتى عَظُمَ أمرُهم واشتدَّ عودُهم، إلا أنهم استخفّوا بعقولهم واستهوَتْهُمُ الشهواتُ، وتسلّطَ عليهم الشيطان، فشيّدوا حضارتهم الماديةَ على الطغيان الفكري.
إنّ مِن صورِ هذا الطغيان الفكري المنحلِّ والمنحرفِ عن فطرة الناس الأولى مبدأُ الطبقية الاجتماعية، القائمةِ على موازين التفاضل الخاطئة، والمعتمدةِ على التمايز بين فئام البشر، تمايزٌ على أسس المال والفكر والقدرة على الجدل، حيث أننا وبالتأمل في قصة نوح عليه السلام نجد أنّ الناس قد انقسموا قبل وخلال فترة بعثته صلى الله عليه وسلم إلى فئتين اثنتين:
الأولى وهم الملأ: الذين كانوا يتمتعون بالمستوى الفكري العالي الزائف، زيادةً على ما يملكونه من قوة مادية متقدمة، وملكة ثقافية حياتية راقية، وهذا المستوى مكّنهم من الجدل والحوار، وأكسبهم شرعية اجتماعية ليكونوا قدرة تتبع، وسادة تتحكم، مما جعلهم يتيهون استعلاء وتكبراً وغروراً، وتصوروا أنهم أعظم شأناً، وأكثر تميزاً وأرفع مقاماً من غيرهم.
الفئة الثانية وهي فئة الأراذل كما سماهم الملأ: وهي طبقة الفقراء، العاملين في خدمة الملأ، وسمتهم الضعف والهوان، هم العالة على غيرهم في المعيشة والرزق، لا يؤبه لأفكارهم ولا يعتد بثقافتهم.
إنّ هذا العلوّ والطغيانَ والغرورَ بالقيمة الفكرية التي يتميز بها الملأُ من قوم نوح دفعتهم ليغرقوا في الانحلال الفكري القائم ليس فقط على عبادة الأصنام واعتقاد قدرتها على جلب الضر والنفع، بل على إنكار فكرة البعث والنشور وبشرية الرسل والأنبياء، والاستخفاف بعاقبة الإيمان أو الكفر بدعوة المبعوث، ويمكننا أن نعدد بعض جوانب الانحلال الفكري في قوم النبي نوح عليه السلام حسب ما يأتي:
• انحراف فكري عقدي: تمثل بعبادة الأصنام وانكار البعث والنشور وتكذيب الأنبياء.
• انحراف فكري اجتماعي: قائم على التمايز الطبقي بين أفراد المجتمع حسب أسس خاطئة.
• انحراف فكري: تمثل بإنكار بشرية النبي، واستغراب أن يبعث الله بشراً رسولاً.
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5].
علاج نوح عليه السلام للخلل الفكري:
بذل نوح عليه السلام في سبيل دعوة الناس إلى الله، ولتصحيح الفكر المنحرف وإعادته إلى الصراط المستقيم جهوداً عظيمةً، وحسبُك في هذا أن تقرأ سورة نوح لترى الجهد الذي بذله على مدار تسعمائة وخمسين عاماً من الدعوة الملحة والخطاب المتواصل، فقد دعاهم ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، واستعمل أساليب الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وجعل من انفتاح العقول على العالم أداة دعوته ووسيلة إقناعهم، بأن يوجهها إلى ما في الكون من آيات.
لقد قامت دعوة نوح على إرشاد الناس لعبادة الله وحده وترك ما عدا ذلك من شرك وضلال، والترفع بالعقل البشري عن عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وعدم القبول بالمفهوم الفكري المختل القائم على الاكتفاء بتوحيد ربوبية لله تعالى. يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25-26].
كما أن خطابه عليه السلام دار حول التدليل على الحقائق الفكرية التي يدعو إليها، وذلك باستثارة الفكر ودعوة العقل للتأمل، عبر بالتنبيه إلى الآيات الكونية التي يعيشونها، ويشاهدونها تنطق بدقة الخلق وغاية الوجود، تثبت أن الله هو الخالق الواحد، والذي يجب أن يُعبد وحده دون سواه فقال لهم: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 15-20].
من أهم المميزات في خطاب نوح عليه السلام:
• وضوح الدعوة: لقد اتصف الخطاب النبوي بوضوح الكلام وسلامة التبليغ القائم على أتم أساس وأحسن تدبير، حيث أن نوحاً قد أعلن ثورة العقل على الخرافة، ودعا الناس للتخلص من الفكر السقيم المتمثل بعبادة غير الله، وذلك بطرح الفكر السليم الداعي لإفراد الله بالعبودية، وهذا ما يجب على كل خطيب يسعى للتصحيح.
• استخدام أساليب التلطف: عبر تذكيرهم بأخوّته لهم، وغيرته عليهم وشفقته على مصيرهم ورغبته بنجاتهم، وهذا واضح في قوله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].
وقوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62].
وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25-26].
• الدعوة للتخلص من الانحراف: يظهر بشكل واضح وجلي الدعوةُ إلى استئصال الفكر المنحرف بالدعوة إلى استئصال ناشريه وأصحابه، وذلك بعد اليأس من إمكان الإصلاح وتغيير الواق، وهذا في قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26-27].
• الصمود والصبر: في وجه الحملات الإعلامية القائمة على التشويه والتكذيب للدعوة والفكر الصحيح، حيث صمد ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل، وهذا واضح في قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 38-39].
ومثله قوله: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 24-25].
• استخدام أساليب متعددة في التصحيح: فتراه يستعمل أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة تارة، وأسلوب الترغيب تارة، وأسلوب التخويف أخرى، ومرة بطريقة استثارة العقل، يقول من لا إله غيره: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 10-20].
• الاتكال على الله: قال جل وعلا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71-72].
فبين عليه السلام أنه معتمدٌ على الله، وأنه متوكل عليه جل وعلا، وأنه لا يبالي بتهديدهم وتخويفهم، وأنه لا بد له من تبليغ رسالات الله.. وغير هذا مما هو أكثر من أن يحصر والحمد لله.