هداياتٌ لخطيب الجمعة في تعزيزِ الوسطيةِ من خلال خطبةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم
معنى التطرف:
مع أن معنى التطرف يصدق على التسيب والانحلال من ربقة الدين كما يصدق على المغالاة والتنطع في الأخذ بأحكامه، إذ كل منهما جنوح إلى الطرف وحَيْد عن الوسط والتوسط، فإنه لا يخفى أن التطرف الذي قد يحصل في منبر المسجد لم يكن ليستخدم يوماً من الأيام على المعنى الأول، ذلك أن الانحلال لا حظ له في المسجد ولا نصيب، بل إن من أساسيات مهمات المسجد هو تقييد العبد بدين الله وشده إلى أحكامه. وإذا كان هذا كذلك فإن المعنى الآخر للتطرف وهو هنا (الغلو) كان في كثير من الأحيان صاحب السيطرة الأقوى على منابر المسلمين في أكثر البلدان، وذلك كردة فعل على الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام والمسلمون، أو كحرص من ربان المنبر على توسيع قاعدة شعبيته، إلى غير ذلك من الأسباب الداعية إليه أو الاعتبارات المولدة له، إذ تحول المنبر عموماً -في الجمع والأعياد وغيرها- إلى وسيلة دعاية للاتجاهات المنادية بنداء التنطع في أداء العبادات، وأداة نافذة في مصادرة اجتهادات الآخرين حتى في المسائل التي لا تحتمل شيئاً أكثر من الخلاف، فكان محط دعوة للإلزام بما لم يُلزم به الشارع، بل صار المنبر مسرحاً حياً يجسد أنواع التجاوز المذموم لحدود الشريعة عبر تعامل مخل مع كل المخالفين، عن طريق مصادرة اجتهاداتهم دون النظر إلى أدب الاختلاف، ولا إلى ضرورة إنزال المسألة على الواقع فقهاً وتطبيقاً، وصرف النظر عن سنة السلف في ترك الإنكار على المخالف في المسائل الاجتهادية القابلة لتنوع الآراء.
فكان ديدن الخطيب في خطبه إلا من رحم ربي حمل العامة على الالتزام بقضايا مبناها الورع الفاسد أو الالزام المتنطع الذي لا يستند إلى تشريع، ولا يقوم على دليل ولا يأمر به برهان.
ومع أن الإسلام –بل وجميع الأديان– تأبي الغلو والتطرف في العبادات والسلوك والمعاملات والعلاقات الاجتماعية، بل وفي كل شيء، ويدعو في الوقت نفسه إلى الوسطية والاعتدال، وكما كان منهج النبيين ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة والمقربين الاعتراض على النقصان من الدين وتجريمه، فقد ذهبوا إلى أن الزيادة في دين الله لا تقل حرمة عن ذلك، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
ومما يجب أن يعلم لكل أحد أن المنبر مقود سفينة الحياة، يمسك به الخطيب، فإما أن يقود الناس إلى الخير والرشاد أو إلى الضلال والفساد، مع أن الملاحظ أنه كان صاحب الدور الأكبر عبر السنوات الماضية في الترويج لإفشاء ظاهرة التطرف ونشرها في الوسط المسلم، تارة باسم السلفية وتقليد السلف، وأخرى باسم الجهاد والرباط في سبيل الله والدين، مع غير فهم للواقع ولا لسنن الرب الإلهية.
أشكال التطرف في خطبة الجمعة:
ويأخذ التطرف الديني أشكالاً متعددة كلها مذمومة، لكل منها فروع شتى وطرائق مختلفة، منها: التطرف الاعتقادي ومن فروعه تكفير المسلمين بالخطايا، والحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار ، أو أنه لا يضر مع الإيمان معصية ، وهذا وإن كان من نتاج الفكر الاعتزالي أو الخارجي أو فكر الإرجاء، إلا أننا لم نزل نر في صفوف المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة من يحمل صورة هذا الفكر أو ذاك، وإن كان بعيداً عن مضمونه ومحتواه، إذ الاشتراك في الوسائل هو صورة المشابهة بينهما، حيث يدعو إلى فكره وحده على منابر المسلمين وينافح لأجل إثباته، ويروج له ويخوف من كل ما سواه، صانعاً من المصلين جمهوراً حياً يتأثر بما يطرح من شبه، ويقتع بما يذكر من آراء.
ومن أشكال التطرف والغلو، تفسير النصوص تفسيراً متشدداً، يحمل في طياته التكلّف والتعمق في معاني التنزيل، كما يأخذ التطرف شكلاً متعلقاً بالأحكام، بإلزام النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله تعبداً وترهباً، وتحريم الطيبات التي أباحها الله على أنها من وجوه التعبد والتحنث كما حدث لبعض الصحابة رضي الله عنهم.
خطبة الجمعة في مواجهة التطرف:
ولقد ظهر التطرف قديماً، فكان المنبر -كما يجب أن يكون دوماً- المصحح لمفاهيم الناس، والمقوم لأفكارهم، وكان ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بشكل الغلو في العبادة والزهد في الحياة، فقوم الرسول على منبره صلى الله عليه وسلم هذا الاعوجاج، وبين حقيقة الدين الوسطي، وعلاقته بالحياة البشرية، وسنذكر حادثة واحدة شهيرة وكيف قام الرسول صلى الله عليه وسلم بعلاجها مستفيداً من المنبر:
1- مناسبة الخطبة: عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا..".
2- نص الخطبة: تذكر أغلب الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما إن سمع بخبر الرهط الثلاث حتى بادر إلى تصحيح هذا الخلل الفكري في المجتمع المسلم، فانطلق إليهم فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
إلا أن بعضها الأخرى تذكر أنه ارتقى المنبر بعد أن جمع الناس وقَامَ فيهم خَطِيباً، ليصحح لهم هذا الانحراف ويمنع من تكراره في مجتمعه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
وفي رواية: (ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ وَالطِّيبَ وَالنَّوْمَ وَشَهَوَاتِ الدُّنْيَا إِنِّي لَسْتُ آمُرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ وَلَا اتِّخَاذُ الصَّوَامِعَ، وَإِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الصَّوْمُ، وَرَهْبَانِيَّتُهُمُ الْجِهَادُ، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ وَاسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ لَكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ).
3- دراسة نص الخطبة: إن المتأمل لكلمات الخطبة ليجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجه المستمعين نحو التحكم في الإرادة بشكل تتوسط وتنفعل فيه هذه الإرادة بين تعاليم الوحي ومشاهد الواقع، فهو انطلق من معرفته بحقيقة المجتمع وطبيعته وخصائصه، ليجد أن المنبر من أهم الأساليب أو الوسائل التي تتناسب مع طبيعة القضية التي يريد نقاشها.
ولو تأملت في هذه الكليمات العظيمات لوجدت تنبيهاً عظيماً للمسلمين، بأن العلم بالله وحقوقه، ومعرفة ما يجب من حقه عز وجل، وما لا يجب له، وما يجوز وما لا يجوز، أعظم قدراً وأكبر أجراً من مجرد العبادة البدنية، وإن كانت تصورت البعض تخالف هذ الفهم.
لقد حملت هذه الخطبة المنبرية وصية عامة للمجتمع المسلم في كل عصر وبياناً شاملاً لكل حين، يقضي بأن التشدد في العبادة ليس من شرع الله في شيء، فكيف بالتشدد والمبالغة والغلو في الأمور الأخرى التي تحتمل خلافاً وتحل تنوعاً! لقد جاءت خطبته صلى الله عليه وسلم على قصر كلماتها وقلة حروفها على أعلى درجات البلاغة في التعبير والتصوير الفني، عبر صورة النفي بعد التقرير بقوله: (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)، بعد قوله: (لَكِنِّي أَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ)، والإنكار بقوله: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟)، وفي هذا تأكيد على القيم الأخلاقية والتشريعية المقررة لسماحة الإسلام ويسره، عبر خدمة متطلبات الحياة وقضاء ضروريات الجسد، وإشباع رغبات النفس، ذلك بانسجام متناسق مع رغبات وحاجات الروح والدين، فلا تناقض بين هذا وهذا..
لقد صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخلل الناشئ القائم على فكرة استحالة الجمع ما بين إشباع شهوتي الجسد والروح معاً في وقت واحد، عبر تكرار أسلوب الجمع بين ما يحسبه أولئك الصحابة نقيضين، ليصل بالمستمع إلى درجة الإقناع الكاملة القائمة على نفي العسر وإثبات اليسر، ليكون في هذا إثباتاً لهذه القيم بالحجة والدليل.
لقد حمل نص الخطبة الجليلة دلالة واضحة على أن فضل النوم لا يقل عن درجة القيام، عند توفر النية في القلب العازمة على تحقيق التكامل الحيوي بينهما، فلا هو تفريط قائم على ترك القيام من أصله، ولا إفراط يقوم على ترك النوم والتفرغ للقيام، بل هما كلٌ واحد يبدع عبادة متكاملة، وبذلك أزالت -يعني الخطبة- الشبهة عن المجتهدين، وأثبتت أن ما قد يكون من أنواع المباحات قد ينقلب بالقصد والنية إلى الكراهة أو إلى الاستحباب.
لقد اكتشف الرسول صلى الله عليه وسلم خطأ بعض الصحابة في فهم الدين والواقع الإنساني وعلاقتهما، فهمٌ قائمٌ على تعارض مستمر بين الدين والحياة، بحيث لا يشتركان في ميدان العمل للوصول بصاحبهما إلى درجات العلا، ولا ريب أن هذا الفهم عامل مهم في التأثير على التدين، وتصحيحه يعتبر الخطوة الأولى بل والرئيسية في سبيل تحكيم الدين في الواقع، وتحقيق مبدأ التدين المنسجم مع الحياة، والمتأمل يجد أن الرسول في خطبته قد اعتمد على جملة من المبادئ:
تشخيص الحالة المرضية: لا يخفى أن الغلو والتطرف حالة مرضية، تنشئ نتيجة لشعور المريض بحالة حادة من النقص أو التعالي.
وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطبته مشخصاً هذا البلاء، حيث قال: (أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟) فهو وإن كان قد وارى عن أولئك الصحابة كعادته صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه بدأ بعرض الفكرة الخاطئة التي يعتنقها هؤلاء بأسلوب الاستفهام الإنكاري، الذي يفيد معنى التوبيخ للفكرة، والغاية منه زحزحة الناس عن مفاهيمهم الخاطئة فيما هم مقدمون عليه مما لا يوجد في طريقة القرآن.
مبدأ التحفيز: لقد استفاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من أسلوب التحفيز النفسي، ذلك بإرشادهم إلى تقليد المثل الأعلى والقدوة المثلى للمجتمع النبوي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقليده في تصوره وفهمه للواقع والحياة والدين بالقلوب كما العقول. فهو صلى الله عليه وسلم لم يكتف بمغفرة الذنوب ليركن إلى رحمة الله ومكانته عنده فقط، كما أنه وفي الوقت نفسه ورغم شدة خشيته لله وعظم دائرة تقواه لربه ما كان هذا ليمنعه من إشباع حاجات جسده والقيام بحقوقه كاملة، فتراه يفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج ليكسر الشهوة ويعف النفس ويكثر النسل. وهذا التصحيح لم يكن كلاماً على المنبر خالياً عن التطبيق الفعلي على الأرض، بل كان تطبيقه فعلياً واقعاً على الأرض كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وأفعاله، ليدلل للناس أن التقوى والخشية لا تتنافى مع الطعام والشراب والزواج وسائر شهوات الجسد المباحة، بل إن النية الصحيحة عند مبادرة هذه الأعمال تكون في الحقيقة صميم الخشية وأصل التقوى.
يقول ابن حجر: "كَما أَنَّ الأَخذ بِالتَّشدِيدِ فِي العِبادَة يُفضِي إِلَى المَلَل القاطِع لأَصلِها ومُلازَمَة الاقتِصار عَلَى الفَرائِض مَثَلاً وتَرك التَّنَفُّل يُفضِي إِلَى إِيثار البَطالَة وعَدَم النَّشاط إِلَى العِبادَة وخَير الأُمُور الوسَط، وفِي قَوله إِنِّي لأَخشاكُم لِلَّهِ مَعَ ما انضَمَّ إِلَيهِ إِشارَة إِلَى ذَلِكَ، وفِيهِ أَيضًا إِشارَة إِلَى أَنَّ العِلم بِاللهِ ومَعرِفَة ما يَجِب مِن حَقّه أَعظَم قَدرًا مِن مُجَرَّد العِبادَة البَدَنِيَّة، واللَّهُ أَعلَم".
مبدأ التخويف: رغم سلامة القصد وطيب الفكرة، ولكن لا يكفي أن يكون الفعل ذو طابع ديني ليكون جيداً، بل ينبغي أن يكون مستمداً من الوحي الإلهي خاضعاً لمعايير الشريعة والطريقة الإسلامية في التلقي والقبول، فالفعل الذي يأخذ شكل العبادة لا يكون مقبولاً إلا إذا كان مطابقاً لما جاء به شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وكل فعل ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو رد على صاحبه ولو علت على قسماته مظاهر التعبد وألوان الخضوع لله.
لقد بينت خطبة المنبر النبوية عند قوله: (فليس مني)، أن من عدل عن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأخذ بأي طريقة غيرها، فهو عادل عن الهدى إلى غيره، وعن الحق إلى ما هو سواه، بل هو أقرب إلى التشبه بابتداع الأمم السابقة أو الأمم المنحرفة الضالة، فأي عمل أو قول أو رأي أو فكرة أو منهج كان يجب أن يُعرض على كتاب الله جل جلاله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما وافقهما قُبل وأُخذ به، وما خالفهما رد على صاحبه.
فالإسلام الحق ليس رهبانية تشبه ربانية النصارى ابتدعوها تشديداً على أنفسهم كما وصفهم الله عز وجل، ولا مادية تحاكي مادية الوثنيين، بل هو وسطية في كل شيء، وهذه الوسطية هي الحنفية السمحة التي بعث محمد صلى الله عليه وسلم لتعليم الناس إياها. لقد كانت هذه الخطبة تأكيداً على ما يخاطبهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم دوماً كما روى أَبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ آمُرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا).
قال ابن بطال: وبلغ النبي أن قومًا أرادوا أن يختصوا وحرموا الطيبات واللحم على أنفسهم فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأوعد في ذلك أشد الوعيد، وقال: (لم أبعث بالرهبانية وإن خير الدين عند الله الحنفية السمحة، وإن أهل الكتاب هلكوا بالتشديد شدوا فشدد عليهم ثم قال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت واستقيموا يستقم لكم).
ولعل التطرف يكون مخرجاً من الملة أحياناً، بل إن أقل ما يقال فيه عدول عن نهج الوسطية الذي يتسم به الإسلام، لأن التطرف والغلو مُجاوزة حد الاعتدال وعدم التوسط، وما لم يكن وسطاً كان تطرفاً، لأنه خروج عن الوسيطة والاعتدال في فهم الأمور الدينية وتطبيقاتها، مما يُشكّل خطراً على نظام الدولة وأمنها الوطني بكل مقوماتها، وما كان هذا شأنه فهو بعيد كل البعد عن النهج النبوي الحنيف.
مميزات النص:
• استعمال الألفاظ الجزلة السهلة المفخمة التي تتناسب مع القضية المطروحة، أنام -أصلي- أتقاكم- ليس مني.
• استخدام الأساليب البلاغية الفصيحة: مثل التورية: في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا)، والطباق: في قوله: أنام وأرقد -أصوم وأفطر.
• قصر الخطبة وإشباع المضمون: عن عمار قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا).
• المباشرة: فبعد الحمدلة والثناء كان الدخول إلى القضية بشكل سلسل ومباشر، وهذا دليل على خطر مضوعها، وتنبيهاً على ضرر ما تحذر منه.
• الاعتماد على تأثير القدوة: إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم بما في خطابه من جزالة اللفظ يحمل حرارة كبيرة في التعبير له دور كبير في التأثير على النفوس في مثل هذه القضايا الخطرة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أما لك بي أسوة)، تنبيه لقضية غفل عنها الصحابة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الخير ولا يقترف إلا المعروف.
الأفكار التي تضمنها النص:
• الحث على الوسطية: والاعتدال عبر تقديم انموذج حياة النبي صلى الله عليه وسلم القدوة في التوسط.
• التخويف من التطرف والغلو في العبادة.
• تصحيح مفاهيم الناس حول الحياة وإشباع رغبات الجسد: حيث كان ينظر الرهط من الصحابة إلى استحالة الجمع بين قضاء وطر النفس والعبادة، فكانت الخطبة تبين أو تقطع الطريق على أي شبهة بأن للجسد حق يكون لمن أداه أجر العبادة وثوابها.
4- نتيجة الخطبة: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْنَهَا سَيِّئَةَ الْهَيْئَةِ فَقُلْنَ لَهَا: مَا لَكِ؟ فَمَا فِي قُرَيْشٍ أَغْنَى مِنْ بَعْلِكِ، قَالَتْ: مَا لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ أَمَّا لَيْلَهُ فَقَائِمٌ وَأَمَّا نَهَارَهُ فَصَائِمٌ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَ ذَلِكَ لَهُ، فَلَقِيَهُ فَقَالَ: (يَا عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَمَا لَكَ بِيَّ أسوة؟)، فقال: يا بِأَبِي وَأُمِّي، وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: (تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ)، قَالَ: إِنِّي لأَفْعَلُ، قَالَ: (لا تَفْعَلْ، إِنَّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِجَسَدِكَ حَقًّا وَإِنَّ لأَهْلِكَ حَقًّا فَصَلِّ وَنَمْ وَصُمْ وَأَفْطِرْ)، قَالَ فَأَتَتْهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَطِرَةً كَأَنَّهَا عَرُوسٌ فَقُلْنَ لَهَا: مَهْ؟ قَالَتْ: أَصَابَنَا مَا أَصَابَ النَّاسَ.
كما أنك ترى من كثرة النصوص والأخبار حول هذا الموضع مقدار تأثر الصحابة بهذه الخطبة، وكيف كان لها من الأثر في إعادة الناس إلى نهج الوسطية، عبر النقاط التي لو قلدها أي خطيب منبري لوصل إلى نتائج مرجمة ترضي الله وتؤمن تطبيق شرعه على النحو الذي يحب.