مقدمة:
إنّ خطيبَ الجمعةِ هو الواعظُ، وله دورٌ كبير وأثرٌ بالغٌ في بيئته ومجتمعِه وسامعيه وقومه، فهو قرينُ المربِّي والمعلِّم ورجلِ الحسبة والموجِّه، وبقدرِ إحسانِه وإخلاصِه يتبوَّأ في قلوب الناس مكاناً ويضع الله له قبولاً قلَّ أن يزاحمَه فيه أصحابُ وجاهاتٍ، ولا يدانيه فيه ذوو مقامات، ومردّ ذلك إلى الإخلاص أولاً وتوفيق الله سبحانه وتعالى أيضاً، ثم إلى حسن الإجادة وجَوْدة الإفادة والقُدرة على التأثير المكسوّ بلباس التقوى والمدثَّر بدثار الإخلاص والورع.
إن مهمَّة الخطيب في هذا مهمةٌ شاقَّة، مشقةً تحتِّم عليه أن يستعدَّ الاستعدادَ الكافي في صوابِ الفكر وحسن التعبير وطلاقة اللسان وجودَة الإلقاء، ومطلوبٌ منه أن يحدّث الناسَ بما يمسّ حياتهم، ولا ينقطع عن ماضيهم، ويردّهم إلى قواعدِ الدين ومبادئه، ويبصّرهم بحكمه وأحكامه برفق، ويعرّفهم آثارَ التقوى والصلاحِ في الآخرة والأولى و مهمتهُ البعدُ عن المعاني المكرورة وجالبَاتِ الملل.
إن التجديدَ والتحديث والبعدَ عن المكرور لا يغيِّر من الحقيقة الثابتةِ شيئاً، وهي أنَّ حياةَ الناس وأحوالهم في كلّ زمان ومكان صورةٌ واحدة من تصارعِ الغرائز واضطرابِ النفوس وغليان الأحقاد، وفي مقابلِ ذلك تلقى أحوالاً من البرودِ والانصرافِ والغفلةِ وعدم المبالاة، والخطيب عليه أن يخفضَ حدّةَ الأحقاد، ويشيعَ روحَ المودة، ويبثّ الإخلاصَ والتعاون.
إنَّ خطيبَ المسجد وواعظَ الجماعة أشدُّ فاعلية في نفوس الجماهير من أيّ جهاز من أجهزة التوجيه والحكم في المجتمع، إن الجمهورَ قد يهابون بعضَ ذوي المسؤوليات لكنهم قد لا يحبونهم، أما الخطيبُ بلسانه ورقة جنانه وتجرّدِه فيقتلعُ جذورَ الشرّ في نفس المجرم، ويبعث في نفسه خشيةَ الله وحبَّ الحق وقبولَ العدل ومعاونةَ الناس.
إنَّ عملَه إصلاحُ الضمائر، وإيقاظُ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وبناءُ الضمائر الحيّة، وتربية النفوس العالية في عملٍ خالص، وجهد متجرِّد، يرجو ثوابَ الله، ويروم نفعَ الناس.
ومن هنا فإن أداءَ الخطيب عملَه على وجهه يكسوه بهاءً وشرفاً، ويرفعه إلى مكان عليٍّ عند الناس، وليس هذا إطراءً ولا مديحاً للخطيب، ولكنه تنبيه إلى شرف العمل ومشقَّته وعظم مسؤوليته وثقل رسالته، وما تتطلَّبه من حسن استعداد وشعورٍ صادق للمسؤولية، وكيف لا يكون ذلك؟! وهذه رسالة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ولا غرابةَ أن يواجهَ إيذاءً وعداءً ولوماً ونقداً، وحسبُه أن يكون مقبولاً عند الله والصفوةِ من عباد الله.
إذاً خطيبُ الجمعة يولي همومَ مجتمعه وقضايا أمتِه اهتماماً كبيراً، وتحتلّ هذه الهموم والقضايا موقعاً في نفسه، فيشعر بأهميَّة الإسهامِ في حركةِ المجتمعِ والتجاوبِ معه بالدعوةِ إلى الحقِّ وتدعيم كلِّ خير، والتحذيرِ من كلِّ شر والتنفير منه.
وكثيرٌ من الخطباء يوفَّقون في كسب قلوب السامعين والتأثير في مشاعرهم، فيكون ذلك سببَ صلاحهم وتوبتهم ورجوعهم إلى ربهم.
مقاصد خطبة الجمعة:
أولاً: الوصية بتقوى الله تعالى والأمر بطاعته والزجر عن معصيته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بذلك.
ثانياً: ترسيخ أصول الإيمان وتقويته في القلوب، وتثبيت العقيدة الصحيحة بتلاوة آيات من كتاب الله، وذكر شيء من المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من البيان، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يخطب بسورة (ق) على المنبر.
ثالثاً: الدعوة إلى الصلاح والإصلاح والتمسك بأمور الشريعة وإقامة الحق، والعدل والحث على مراعاة وحدة هذه الأمة والتحذير مما يضعفها، ونشر الفضائل، وترقيق القلوب بالوعظ والتذكير المشتمل على التزهيد في الدنيا والتذكير بالموت وأحوال البرزخ وأهوال البعث والحشر وعرصات القيامة وأحوال الناس فيها وذكر صفة الجنة والنار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعاً: توضيح العبادات والأحكام وتفصيل الحلال والحرام، وتفقيه المسلمين وتعليمهم حقائق دينهم.
خامساً: التذكير عند المناسبات الشرعية مثل رمضان والحج ونحوهما بذكر فضلها وبيان ما يحتاج الناس إليه من أحكامها والحث على اغتنامها والاجتهاد فيها.
سادساً: تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام ورد الشبهات التي يثيرها أعداؤه للصد عنه، وذلك بأسلوب بليغ، وبرهان ساطع حكيم بعيداً عن المهاترات والسباب والتشهير.
سابعاً: الحث على لزوم السنة والتأسي بأهلها والتحذير من البدعة والزجر عنها بذكر شؤمها وسوء عاقبة أهلها.
ثامناً: بيان مواقف وأقوال أهل العلم المجمع على إمامتهم في الدين، في القضايا والحوادث الآنية، والنوازل العامة، وتذكير المستمعين بوجوب الرجوع إلى العلماء فيما يشكل عليهم من أحكام هذه المعضلات.
تاسعاً: التحذير من الفتن ببيان خطرها على الدين وسوء عاقبتها على المسلمين والتذكير بأسباب النجاة والعصمة منها والواجب نحو أهلها.
عاشراً: تثبيت معنى الأخوة في الإسلام ووحدة أمته، والحث على تحقيق مقتضياتها، والبعد عن كل ما من شأنه أن يثير الفتنة أو يهيج النزاعات العرقية.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من خطبه يحاول أن يجمع معظم هذه المعاني، ويؤكد عليها، منها خطبته صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة المنورة وكانت أول خطبة له:
نص الخطبة:
عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، أنه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بنى سالم بن عمرو بن عوف رضي الله عنهم: (الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان: ودنو من الساعة، وقرب من الأجل.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالاً بعيداً.
وأوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله.
فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة.
ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكراً في عاجل أمره وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد.
والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29].
واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْر} [الطلاق:5]، وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
تحليل الخطبة:
نلاحظ أن هذه الخطبة اشتملت على موضوعات كثيرة بحيث تؤدي الغرض منها وهذه الموضوعات:
1- التأكيد على تقوى الله.
2- التركيز على موضوعات العقيدة.
3- التوازن بين الدين والدنيا (خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله).
4- الجهاد في سبيل الله.
5- التمسك في كتاب الله.
6- الحث على العمل الصالح والتمسك بالأخلاق الفاضلة.