مقدمة:
إنّ الناظرَ إلى المجتمعات المسلمة اليوم يجد أنها تزخر بألوانٍ من المشكلات العقدية والاجتماعية والسلوكية والاقتصادية وتفشّي المنكراتِ والمعاصي وتركِ العبادات؛ والخطيبُ كالطبيب يعالج هذه المشكلات، بل حريٌّ به أن يتلمّسَ مشكلاتِ الناسِ ليساعد على حلّها، لذلك ينبغي عليه التركيزُ على الأمور التالية:
أولاً: يجب على الخطيب أن تكون معالجاته للمشكلات على المنبر منضبطةً بالضوابط الشرعية في إنكار المنكر، ومن ذلك الإخلاص لله عز وجل، ومراعاة المصالح والمفاسد، والعلم بأن ما يريد النهي عنه منكراً أو ما يريد الأمر به معروفاً، ومعالجة الأمر بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهذا سيدنا موسى عندما أمره الله بالذهاب إلى فرعون أمرة بأن يقول له قولاً ليناً فقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44].
يقول القرطبي: في قوله تعالى: {فقولا له قولاً ليناً}، "دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال: {فقولا له قولاً ليناً}، وقال: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} فكيف بنا فنحن أولى بذلك، وحينئذ يحصل الآمر أو الناهي على مرغوبة، ويظفر بمطلوبه، وهذا واضح".
يقول ابن كثير: "هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: {فقولا له قولاً ليناً}: يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه؟".
ثانياً: أن يوجه الناس إلى ما يستطيعون القيام به فلا يخاطب العوام بما يخرج عن قدرتهم أو بمنكر ليسوا هم القائمون عليه أو القائمون به، فمن تكلم عن منكر من المنكرات ولم يذكر ما يمكن للناس عمله تجاه ذلك المنكر أجج مشاعر الناس فيقفون موقف المحتار الذي لا يدري ما يعمل، وقد يصير بعض الناس إلى أعمال غير شرعية في تغيير ذلك المنكر.
ثالثاً: ألا يركّزَ الخطيبُ على الجانب السلبي فقط وهو جانب الإنكار، بل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن مشكلات الناس إما ترك المعروف أو فعل لمنكر.
رابعاً: ألا يركّزَ الخطيبُ على لونٍ من ألوان المشكلاتِ، فإنّ في المجتمع مشكلاتٍ كثيرةٍ تحتاج إلى علاج، وبعضُها إذا عولج تبِعَ معالجتَهُ مشكلاتٌ كثيرةٌ.
إنّ صلاةَ الجمعةِ يشهدها جماعاتٌ من الناس من مختلف المشارب، فمنهم البَرُّ والفاجرُ والصالح والفاسق، وضعيف النفس والجاهل، فعلى خطيب الجمعة عند الحديث عن المنكرات والمعاصي ألا يوغل في وصف تلك المنكرات وبيان أماكنها وطريقة أهل الشر فيها، فإنّ ذلك الوصفَ مدعاةٌ إلى عكس ما أراده الخطيب، وفي التحذير من المنكر والنهي عنه وبيان أضراره وآثاره غنية عن وصفه.
وإنّ الكلامَ على حدثٍ من الأحداث أو منكرٍ من المنكرات العامة قد يعالَجُ بطريق يسبِّبُ ضرراً أكبر، كأنْ يتحدث الإنسان عن ذلك المنكر والقائمين عليه ويصف أحوالهم وأعمالهم، بينما يمكن أن يعالج الموضوع بطريقة حكيمة كأن يتحدث الخطيب عن موضوع مناسب لما وقع أو مشابه له يفهم الناس عن طريقة الموقف الشرعي الرشيد في القضية.
عن عمرو بن تغلب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال -أو سبي- فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: (أما بعد فو الله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكن أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب)، فو الله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم.
نلاحظ في هذه الخطبة أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل لفظ: (ما بال أقوام) وهي صيغة التعريض عن أشخاص ولم يصرح بأسمائهم أو يشهر بهم في الخطبة لذلك على الخطيب إن أراد أن ينهى أقواماً عن فعل المنكر لا يشهر بهم لأنه قد يكون في ذلك مفسدة أكبر من دفع المنكر والنبي صلى الله عليه وسلم كان هذا نهجه بشكل دائم.
القيمُ التي ينبغي التركيزُ عليها في خطبة الجمعةِ لمعالجة الاختلالات الفكرية في المجتمع:
-
الحثُّ على المودة والرحمة: تحقيقاً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وتحقيقاً للتوصيف الرباني للمجتمع المسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
ولقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
-
تنميةُ روحِ التعاونِ بين أبناء المجتمعِ المسلم: تحقيقاً لأمره سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
-
تعزيُز قيمِ الصفحِ والتسامحِ: تحقيقاً لقوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].
ولحديث المصطفى، صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أحدكم أن يكون سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى).
-
غرسُ روحِ الأملِ: وبيانُ أنه يكون للعسر بكرم الله ورحمته ما يناسبه ويخفِّفُهُ من اليسر، {إن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً}.
-
بيانُ موقفِ الإسلامِ مِن قيمٍ أساسيةٍ: كالمقاومة والجهاد وحقوق الإنسان واحترام الإسلام لكرامته، حتى في أحلك الحالات عسرة وتعقيداً، وتوازن القوى، تطبيقاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60].
حيث إن الأمر لا يعدو كونه سلاح ردع وقوة للتوازن السياسي والعسكري، وليس شيئاً غير ذلك أو فوقه أو دونه!.
-
تقديمُ النصحِ القيميِّ والدينيِّ للمسؤولين وصُنّاعِ القرارِ: كلٌّ حسب موقعه، وفقاً لروح الإسلام، التي تقدم الحكمة والموعظة الحسنة على ما سواها، وللوعاظ في دعوة موسى وهارون، عليهما السلام، لفرعون خير شاهد، وخير معلم، وما ينبغي أن يتحلى به الدعاة من الدعوة بروح الرحمة والشفقة، التي كان يمارسها الحبيب المصطفى، والتي تجلت في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].
وينبغي أن يعلم جميع الوعاظ والخطباء أن اللجوء إلى النقد بطرق السب والشتيمة والنقد الشخصي، ليس من الإسلام في شيء، فليس المؤمن ـكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلمـ بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء.
-
تحديدُ موقفِ الإسلامِ من المسؤوليات المدنية والحقوقية والسياسية: باعتبارها مسؤولياتٍ شخصيةً، فردية أو اعتبارية، لا يُؤخَذُ فيها أحدٌ بجريرة غيره، ولا يُحاسَبُ فيها أحدٌ بخطيئة غيره، فكل نفس بما كسبت رهينة، {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، فكم من صالحة كانت تحت أكثر الناس فسقاً وطغياناً، وكم من فاجر أنجب عظيماً، وكم من عظيمٍ أنجب فاسقاً فجارا، وهذه قصة الغلام الذي خشي أحد الصالحين أن يرهق والديه طغياناً وكفرا، وهذه قصة نوح وولده حين كابر واستكبر، وتلك قصة لوط وزوجته... إلخ.
ومما يؤكد ذلك أن أسر بعض المتهمين تحتاج منا كل رعاية، كما تحتاج منا إلى رد اعتبار، على اعتبار أنها جزء من المجتمع المسلم، الذي هو في أمس الحاجة إلى جهود كل أبنائه، كما هو في أشد الحاجة إلى رص الصفوف وتهدئة الخواطر، والقضاء على الأزمات والمشاحنات النفسية والاجتماعية والأخلاقية.
-
فضحُ قيمِ المجتمعِ الجاهليِّ: وعلى رأسها عادةُ الأخذِ بالثأر، وظاهرةُ التعصُّبِ القبليِّ أو الحزبي أو الفصائلي الأعمى؛ تحقيقاً لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
واستجابة لتوجيه المصطفي عليه السلام في حجة الوداع، حين قال: (فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد حرَّم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت) «ثلاثاً» كل ذلك يجيبونه: ألا نعم، قال: (ويحكم أو ـ ويلكم ـ لا ترجعُنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
-
الحثُّ على التمسّكِ بالأخوة الإسلامية: والتحذيرُ من التنازع باعتباره باباً من أبواب الفشل والخسران، والبعد عن الدين الحق، حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159].
وقال تبارك تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وهنا لا بد أن نؤكد أنّ الاختلافَ بابٌ من أبواب البغي والطغيان وتجاوز الحد: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19].
-
التشجيعُ على ممارسةِ الإصلاحِ: والسعيِ بين الناس بالخير والمعروف، تطبيقاً لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10[.
-
التماسُ الأعذارِ للأخوة والأشقاء وسائر المسلمين: (من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد).
-
التأكيدُ على أهميةِ الرجوعِ إلى أهل العلم عند الاختلاف: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس عام الفتح، على درجة الكعبة، فكان فيما قال: بعد أن أثنى على الله، أن قال: (يا أيها الناس، كل حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام، ولا هجرة بعد الفتح، يد المسلمين واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ودية الكافر كنصف دية المسلم، ألا ولا شغار في الإسلام، ولا جنب ولا جلب، وتؤخذ صدقاتهم في ديارهم، يجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم)، ثم نزل.
نلاحظ في هذه الخطبة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفتح ركّزَ على أمور وعادات كانت سائدةً في الجاهلية، أَبطَلَ بعضَها مثل نكاحِ الشغار، وبيعِ الجلب، وأكّدَ على بعض الأمور مثل: الأحلاف والوفاء بالعهد وذمة المسلمين واحدة.