الباحث:
خطورةُ المفاهيمِ الخاطئةِ:
الفكرُ محرِّكُ الشعوبِ، فإذا كان الفكرُ سليماً تحركتِ الأممُ رُقيّاً وصعوداً، فانتُشِلَتْ من براثن الانحطاطِ إلى الدرجات العلا بين الشعوب، وإذا كان الفكرُ سقيماً انحدرَتْ في ظلمات التخلُّفِ والفقر، لذلك وَجَدَ أعداءُ الأمةِ في تشويه الحقائقِ الفكريةِ الصحيحةِ في الوسط المسلم واستبدالِها بالسقيم، وتدميرِ القيمِ الثقافيةِ العامةِ الجامعةِ للأمةِ خيرَ سبيلٍ للقضاء على الإسلام وحضارتِهِ ومجدِهِ، ذلك أنّ الخطأَ في المفاهيم الفكرية ومِن ورائها بقيةُ المفاهيمِ ينطوي على مخاطرَ كثيرةٍ لا يمكن عدُّها، على واقعِ ومستقبلِ بل ولربما تاريخِ الأمةِ؛ ومِن بعضِ هذه المخاطرِ:
أولاً- تدميرُ المرتكزاتِ الإسلاميةِ وتغييرُ الثوابتِ الدينيةِ: وبالتالي زوالُ مقوِّماتِ الخيريةِ المتمثِّلةِ في الرحمة والشورى والتسامح والعدل وغيرها، فيتحصَلُ به تنفيرٌ من الدخول في الدين واعتناقِهِ.
ثانياً- وسيلةٌ لحرف المعتقَدِ عن منهج الاستقامة: بل يقودُهُ صوبَ الانحرافِ، بعيداً عن وسطية الإسلام والمنهج الحق، وبالتالي فكلُّ عملٍ سيكون هباءً منثوراً لا ثِقَلَ له في ميزان الحضارة والدين، سِمَتُهُ التطرفُ والغلوُّ، أو الانفلاتُ والتحلُّلُ.
ثالثاً- تهديدُ الضروراتِ الخمسِ: وبالتالي حصولُ الإفسادِ في الأرض، فكان طريقاً لسفك الدماء وانتهاك الأعراض، والإضرارِ بالأموال والممتلكات، فالعملياتُ الإرهابيةُ المرتكبةُ مِن قِبَلِ أصحابِ الفكرِ المنحرفِ هي مِن قبيل الإفساد، سواءٌ بقتل الأفراد أو تدميرِ ممتلكاتهم وإتلافِ أموالِهم، أو إخافتِهم وترويعِهم.
إنّ اختلالَ المفاهيمِ وتشوُّهَ المعتقداتِ مِن أهمِّ أسبابِ الاختلالِ الفكريِّ، وبالتالي التخلُّفِ الحضاريِّ والفسادِ الاجتماعي، وبخاصة إذ كانت منفعلةً مع انفعالات الفرد ورغباتِهِ وحاجاتِهِ ومصالحِهِ، فسوف تقودُهُ بلا ريبٍ نحوَ التأثُّرِ بمظاهرَ خاصةٍ وخاطئةٍ للفكر، لذلك فإنّ العودَ بالمجتمع نحو التأثر بالمفاهيم والاتجاهات الإيجابية يبدأ من التخلص من نير السلبيةِ منها، بما يملكُهُ الخطيبُ من مثيراتٍ كالأفكار والآراء والقصص المعبِّرِ الخادم للخطاب، والتي توضِّحُ عَوارَ المفاهيمِ الخاطئةِ وتكشِفُ زيفَها، فالعادةُ أثبتَتْ أنّ استقامةَ هذه المفاهيمِ يتلوه استقامةٌ في السلوك.
كما تقرّرَ بالبحث أنّ اجتماعَ المعارفِ المتعارضة أو المتناقضة أو غيرِ المتوازنة حول قضيةٍ ما يؤدي بالمستمع على الأقل إلى عدم الارتياح، لتحملَهُ حاجتُهُ في تخفيف حِدّةِ هذا التناقضِ إلى البحث والتنقيب للوصول إلى مزيدٍ من المعرفة، تنتهي غالباً – عند توفُّرِ الحيادِ والرغبة بالحق - بالكفر بالمفاهيم القائمة (الخاطئة) أولاً، ثم اعتناق الصحيح السليم بديلاً منها.
رابعاً- التفرُّقُ: فالخطأ في المفاهيم يؤدي إلى تفرُّقِ الأمةِ وتشرذُمِها شيعاً وأحزاباً، وتشتُّتِ شملِها وكلمتِها، نتيجةً لتعدُّدِ الأشكالِ المنحلَّةِ فكرياً وتلوُّنِها فتفشَلُ وتذهَبُ ريحُها.
خامساً- التخلُّفُ: إنّ الاختلالَ الفكريَّ يدمِّرُ العقلَ الذي هو آلةُ الفكرِ ومحرِّكُ بناءِ الحضارةِ وأساسُ استخراجِ المعارفِ، بل هو ركنُ الاستخلافِ في الأرض، وبذلك تفقِدُ الأمةُ أهمَ مقوماتِ البناء وأركانِ التشييد، وتهوي إلى ساحقة التخلفِ، كما تتحولُ التعاليمُ الفكريةُ الصادقةُ إلى مجرد عاداتٍ وتقاليدَ، مما يهوِّنُ من شأنها ويُسهِّلُ تركَها، وتزولُ قدسيَّتُها.
التصحيحُ الفكريُّ ضرورةٌ حضاريةٌ:
إنّ الجهلَ بالمفاهيم الصحيحة هو الذي يولِّدُ إيماناً عميقاً لما يتشرَّبُ القلبُ به من مفاهيمَ ومصطلحاتٍ خاطئةٍ، لذلك فإنّ مسؤوليةَ الخطيبِ في توضيح المعنى الحقيقيِّ للمصطلح والمفهومِ الفكريِّ يعتبرُ خطوةً أوليةً في التصحيح الفكري.
مثلاً إنّ إباحةَ كثيرٍ من المتطرّفين لدماء المسلمين وأموالهم، واجترائهم على هتك حرماتِهم واستلابِ ممتلكاتهم ما كان ليتِمَّ لولا أنه تستَّرَ بمفهوم خاطئ -باسم الجهاد المشروع- وتكفيرِ الأمةِ علماءَ وعامةً، فالجهلُ بحقيقة الجهاد ومفهومه هو الذي أدى إلى هذا التشرُّبِ للمفهوم الخاطئ بحيث تحوَّلَ قتلُ المسلمين إلى جهادٍ مقدسٍ!
وبالتمثيل الأوضح نجدُ أنّ ما قاساه الأنبياء والمرسلون كان نتيجةً لتصورٍ خاطئ للمفاهيم العامة، فبذلوا ما في وسعهم لتصحيح حقيقتها، فلا يكاد قومٌ أُرسِلَ إليهم نذيرٌ إلا أنكروا بشريَّتَهُ واستغربوا آدميَّتَهُ، إذْ قد انغرس في أذهانهم أنّ النبيَّ يجب أنْ يحمِلَ من الصفات ما لا يحمِلُهُ بشرٌ، بل يجب أنْ يتنزّهَ عن كلِّ صفةٍ بشريةٍ، فكانوا يطلبون رسلاً ملائكة: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94].
لقد كان التصحيحُ الفكريُّ أنّ النبيَّ حتى يستقيمَ به الأمرُ يجب أن يكونَ متأثراً بكل ما يتأثَّرُ به قومُهُ، ويهديهم بأمر الله ويعلِّمُهم ما يَطلُبُ الربُّ فعلَهُ بإذن الله، لأن رابطةَ الجنسِ أدعى للفهم وأيسرَ في التخاطب والتقليد، ولذا بعث اللهُ رسولَهُ من جنس المبعوثِ إليهم حتى يفهموا ما يقول، ويدركوا البيانَ الذي يقيم، ولهذا فمن المستغرب أن ينكروا الرسالة للبشر، إذْ هي أمرٌ لا بد منه، {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95].
دورُ المنبرِ في التصحيح الفكري:
لا يخفى ما لمؤسساتِ التنشئةِ الاجتماعية مِن دورٍ وقائيٍّ فعّالٍ أو علاجيٍّ ناجعٍ في مجال التصدي للانحراف الفكري بل والانحرافات المختلفة، وذلك من خلال ما تقوم به من تقويمٍ وتوجيهٍ وإرشادٍ ومتابعةٍ وضبطٍ، يساهِمُ في مقاومة الانحراف الفكري والتصدي له.
إنّ التاريخَ والاستقراء أثبتَ أنّ المسجدَ هو صاحبُ الدورِ الأكبرِ في التوعية والتنبيه على آثار المفاهيم المنحرفة والتحذير منها، وبيانِ مخاطرِها الدينيةِ والسياسيةِ والاجتماعيةِ والأخلاقيةِ على الأمة، كما أنّ للمنبر أثراً كبيراً في توعية المسلمين من أخطار المفاهيم المختلَّةِ وأشكالِ الانحرافاتِ السلوكيةِ والفكريةِ، باعتبارها نمطاً من أنماط الاتصال المباشر بين الخطيب والمصلين أولاً، ولكونه محفَلاً اجتماعياً يحضُرُهُ المفكرون والناسُ عامةً، فيأخُذُ شكلَ منظومةٍ اجتماعيةٍ لها دورٌ لا يُستهانُ به في التصدي للفكر الوافد المخالِفِ للشرع والمناهِضِ للمصلحة العامة، كما يحتوي على تأثيرٍ كبيرٍ في تثقيف المستمِعِ فيما يهُمُّهُ سواءٌ في أمور دينه أو دنياه، ومِن هنا يظهَرُ أنه مِن أكثرِ الوسائلِ الشعائرية قدرةً على معالجة ما يطرأ من انحرافات فكرية في المجتمع المسلم وفقَ الأدلةِ المؤصَّلةِ والشواهد المشابهة، لأنه يعبِّرُ عن نبضِ المجتمعِ كلِّهِ؛ وأربابُهُ أي (الخطباءُ) هم أصحابُ التوجيهِ والإرشادِ فيه بالدرجة الأولى.
ومن هنا تجدُ أنّ المنبرَ ذو دورٍ بالغٍ في تحقيق الأمن الفكري عبر ما يقوم به من أدوارٍ في تصحيح أو تعزيزِ المفاهيمِ الصادقةِ، فالمنبرُ كما المسجدُ من أهمِّ وأخطرِ العواملِ المؤثرة على الفكر هدماً أو تصحيحاً، فدورُهما كبيرٌ في هدم المفاهيم الخاطئة كحول قضايا مثل التكفير والجهاد والولاء والبراء، وتأصيل العقيدة الصحيحة وتوعية الناس بخطورة المخالطة لأهل الأهواء والبدع، وأثرها الخطير في الانحراف الفكري.
إن الانحراف الفكري يهدد الأمة أفراداً وأسراً وكياناً ومجتمعات وثقافة دولة، وانتشاره في المجتمع نذير دماره وعلامة انحطاطه وتخلفه، لذلك لا يقتصر موضوع مواجهته على ما تبذله السلطات والأجهزة الحكومية، بل هو مسؤولية الأمة كلها.
لذا يتوجب على أمير المنبر بناء الفكر الصحيح، والاعتماد على منصبه المنبري في التحذير من الأفكار الخطرة قبل أن تجد قبولاً أو رواجاً في الوسط المجتمعي، وذلك بالإشارة إلى مكامن الخطر فيها، وتوجيه العقول إلى مفاسدها وشرور اعتناقها ومظاهر تعارضها مع العقل أو النقل، والعمل على إشاعة صفة العقلية الواعية وتعميم الفهم النير داخل المجتمع.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "إن الفكرة الأولى عن شيء أو عن أمر أو عن شخص تثبت وتقر في النفس بسرعة، ومحوها يحتاج إلى عناء شديد فإن كانت حسنة صعب تهجينها، وإن كانت سيئة صعب تزيينها".
ولا يجوز أن يقتصر دور الخطبة على المنع أو الحد من انتشار الفكر المنحرف، بل إن تأثيرها واضح في دحره في الوسط الاجتماعي من خلال ما تقدمه من مفاهيم علاجية، وهو الذي نسميه الدور العلاجي القائم على هدم الاختلال أساليباً وممارسات وأخطاء، ويتمثل هذا الدور في علاج الانحراف الفكري الحادث والطارئ، والتصدي له في المجتمع منبرياً، عبر عرض شبهه وكشف مظاهره وتبيين آثاره ومخاطره، وطرح الوسائل المناسبة لمواجهته والتصدي له.
ولا يكفي العلاج الفكري وقطع دابر الاختلال لتقويم المجتمع، إذ إن الفراغ الذي ستتركه الأفكار السيئة لا يقل خطورة عنها، فالمجتمع الذي لا تحكمه الأفكار الصحيحة سيتم ملؤه بأي شيء ولو كان سقيماً.
لذلك لا بد من مرحلة بناء فكري تتبع مرحلة علاج الاختلال، أو تترافق معها، تكون بمثابة بناء تصحيحي صحيح يتمثل في توجيه العقول نحو الأفكار الصحيحة عبر عرضها والتنبيه إليه، والتدليل عليها وإقامة البراهين الصادقة على صحتها.
وتأمل معي في خطبة لنبي الله عيسى عليه السلام تجد أن ألفاظها على قلتها تتضمن ما توسعت بشرحه، فعن ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ عيسى بنَ مريمَ قام في بَني إسرائيلَ فقالَ: يا بَني إسرائيلَ، لا تَكلَّموا بالحكمةِ عندَ الجهالِ فتَظلموها، ولا تَمنعوها أهلَها فتَظلموها، -وقد قالَ مرةً فتَظلموهم- ولا تَظلموا ظالماً، ولا تكافِؤوا ظالماً فيبطلَ فضلُكم عندَ ربِّكم عزَّ وجلَّ، يا بَني إسرائيلَ، الأمرُ ثلاثٌ: أمرٌ بيِّنٌ رشدُهُ فاتبِعوه، وأمرٌ بيِّنٌ غيُّه فاجتنِبوهُ، وأمرٌ اختُلِفَ فيه فردُّوه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ).
يقول الشيخ محمد قطب رحمه الله: "فإذا صححنا منهج التلقي، وصححنا بناء على ذلك ما انحرف في حس المسلمين المتأخرين من مفاهيم الإسلام الرئيسية، بقيت علينا مهمة أخرى لا تقل خطراً، هي مهمة التربية على المفاهيم الصحيحة لهذا الدين، والتربية هي الجهد الحقيقي الذي ترجى معه الثمرة، ولكنه لن يؤت ثمرته حتى يقوم على أساسه الصحي".
كيفيةُ الاستفادة من المنبر في توجيه المجتمع نحو المفاهيم الصحيحة:
إنّ من الفضائل العظيمة للمنبر أنّ الله شرع لعباده الخطبة عليه، يتعلَّمُ بها الجاهلُ ويتذكَّرُ الناسي، ويُقوَمُ المعوجُّ، وبما يلقيه أئمة الدعوة الإصلاحية وأصحاب المنهج الواضح من وعظ وتذكير، واهتمام بأمر العقيدة وتعظيم لفكر القرآن، وإرشاد للعامة لمحاربة البدع وأهلها.
ولتحقيق هذا فإنه ينبغي على الخطيب المعتدل أن يعتمد في خطابه على جملة من النقاط التي تسهم بشكل أو بآخر في تأكيد المفاهيم الصحيحة وتوضيحيها للأفهام، وزعزعة المفاهيم المنحرفة وحماية المجتمع المسلم منها، ومن هذه النقاط:
أولاً- تأصيلُ الانتماءِ الفكريِّ: إن من أهم ما يمكن أن يستفيد منه الخطيب في مكافحة الخلل الفكري هو التأكيد على الهوية الفكرية الإسلامية وانتمائها إلى الإسلام نفسه، وهذا له أهمية بالغة في التوجيه السليم للفكر العام، إذ يقوّم الجانب الإيماني والاعتقادي في نفوس المسلمين، ويقودهم بعيداً عن التيارات الإلحادية نحو تثبيت الروابط الإيمانية وترسيخ أركان العقيدة، لكونه يربطهم انتماءهم بالأمة الإسلامية مباشرة، برط جزئيات الحياة وكلياتها بمصدري الحياة (الكتاب والسنة).
ثانياً- التثقيفُ العامُ: لا يخفى دورُ المنبرِ في زيادة الجانب الثقافي عند المستمعين بصورة شاملة، وبخاصة إذا كانت تتناسب خطابه وطبيعة المرحلة التي يعيشها أبناء المجتمع، إذ سيكون له إسهام إيجابي في العملية التعليمية والإرشادية للمجتمع كله، فتكونُ خيرَ مرشدٍ وأحسنَ موجِّهٍ نحوَ تحقيقِ الأهداف المنشودة، عبرَ التثقيف بالفكر الناضج.
ومثالُ ذلك يظهر في محاربة النبي للخرافة والأوهام والأساطير، وذلك عبر استغلال الحدث المناسب، فعنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا).
ثالثا- التعريفُ الصحيحُ بالإسلام وأركانه: يعتبر المنبر أهم وسيلة إعلامية لتعريف الناس بدينهم الحق، من خلال اجتماع المسلمين علماء ومفكرين وعامة أمام خطبة واحدة تقوم لهم أي اعوجاج فكري يشوب عقولهم.
ليس هذا وحسب، فالخطبة المستقيمة تعمِّقُ المفاهيمَ الإسلاميةَ في النفوس، وترسِّخُ المبادئ الدينية في القلوب في ضوء الكتاب والسنة، فتربط الفؤاد بالدين دفاعاً وحركة.
ومن ذلك خطبة النبي في حجة الوداع، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: (الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَيُّ شَهْرٍ هَذَا)، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ ذُو الحِجَّةِ)، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا)، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ البَلْدَةَ)، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا)، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ)، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، -قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ- وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَسَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ)، فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ: صَدَقَ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ قَالَ: (أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ) مَرَّتَيْنِ.
رابعاً- تقديم الحلول للمشكلات: التي تواجه الأمة عبر تبادل الأفكار وتناقل الطروح وتقييم الأعمال وتصحيح المفاهيم للوصول بالمستمع إلى أعلى درجات المآثر الإسلامية.
خامساً- الردُّ على الأكاذيب والافتراءات: التي تستهدف الإسلام وتسيء له، وذلك بمقاومة الدعاوى الفكرية الهادفة لهدم ركائز العقيدة الإسلامية والقيم الفاضلة في المجتمع عبر تبيينها وتوضيح مثالبها وسبل علاجها بما في الدين من وسائل.