الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق 29 مارس 2024 م
هدايات لخطيب الجمعة من خلال التأمل في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
الأربعاء 15 جمادى الآخر 1440 هـ الموافق 20 فبراير 2019 م
عدد الزيارات : 2136
هدايات لخطيب الجمعة من خلال التأمل في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
الباحث: محمد أمين النجار من ريف حمص الشمالي، استشهد عام 2015 على يد تنظيم داعش، وهذا المقال جزء من بحث له حائز على المركز الثالث في المسابقة السنوية لدراسات المنبر التي أقامتها رابطة خطباء الشام عام 2014
مناسبة الخطبة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم اشرأب النفاق بالمدينة، وارتدت العرب وارتدت العجم وأبرقت وتواعدوا نهاوند، وقالوا: قد مات هذا الرجل الذى كانت العرب تنصر به، فجمع أبو بكر المهاجرين والأنصار وقال: "إن هذه العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم، ورجعوا عن دينهم، وإن هذه العجم قد تواعدوا نهاوند ليجمعوا لقتالكم، وزعموا أن هذا الرجل الذي كنتم تنصرون به قد مات فأشيروا عليّ، فما أنا إلا رجل منكم، وإني أثقلكم حملاً لهذه البلية"، فأطرقوا طويلاً، ثم تكلم عمر بن الخطاب فقال: "أرى والله يا خليفة رسول الله أن تقبل من العرب الصلاة، وتدع لهم الزكاة، فإنهم حديث عهد بجاهلية لم يقدهم الإسلام، فإما أن يردهم الله إلى خير، وإما أن يعز الله الإسلام فنقوى على قتالهم، فما لبقية المهاجرين والأنصار يدان للعرب والعجم قاطبة"، فالتفت إلى عثمان فقال مثل ذلك، وقال علي مثل ذلك وتابعهم المهاجرون، ثم التفت إلى الأنصار فتابعوهم، فلما رأى ذلك صعد المنبر وخطب الناس:
نص الخطبة:
عن صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، قَالَ: لَمَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "الْحَمْدُ للَّه الَّذِي هَدَى فَكَفَى، وَأَعْطَى فَأَغْنَى، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَالْعِلْمُ شَرِيدٌ، وَالْإِسْلَامُ غَرِيبٌ طَرِيدٌ، قَدْ رَثَّ حَبْلُهُ، وَخَلُقَ عَهْدُهُ، وَضَلَّ أَهْلُهُ مِنْهُ، وَمَقَتَ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَا يُعْطِيهِمْ خَيْراً لِخَيْرٍ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُمْ شَرّاً لبشر عِنْدَهُمْ، قَدْ غَيَّرُوا كِتَابَهُمْ، وَأَلْحَقُوا فِيهِ مَا ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة مِنَ اللَّهِ لَا يَعْبُدُونَهُ وَلَا يَدْعُونَهُ، فَأَجْهَدَهُمْ عَيْشاً، وَأَضَلَّهُمْ دِيناَ، فِي ظَلَفٍ مِنَ الْأَرْضِ مع ما فيه من السحاب فختمهم اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ، وَجَعَلَهُمُ الْأُمَّةَ الْوُسْطَى، نَصَرَهُمْ بِمَنِ اتَّبَعَهُمْ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَرَكِبَ مِنْهُمُ الشَّيْطَانُ مَرْكَبَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِأَيْدِيهِمْ، وَبَغَى هَلَكَتَهُمْ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، إِنَّ مَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْعَرَبِ مَنَعُوا شَاتَهُمْ وَبَعِيرَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا فِي دِينِهِمْ -وَإِنْ رَجَعُوا إِلَيْهِ- أَزْهَدَ مِنْهُمْ يَوْمَهُمْ هَذَا، وَلَمْ تَكُونُوا فِي دِينِكُمْ أَقْوَى مِنْكُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا، عَلَى مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ بَرَكَةِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَكَلَكُمْ إِلَى الْمَوْلَى الْكَافِي، الَّذِي وَجَدَهُ ضَالًّا فَهَدَاهُ، وَعَائِلًا فَأَغْنَاهُ وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، وَاللَّهِ لَا أَدْعُ أَنْ أُقَاتِلَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يُنْجِزَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَيُوفِيَ لَنَا عَهْدَهُ، وَيُقْتَلَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا شَهِيداً مِنْ أهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته فِي أَرْضِهِ، قَضَاءُ اللَّهِ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ الَّذِي لَا خُلْفَ لَهُ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل معهم الشجر والمدر والجن والإنس لجاهدتهم حتى تلحق روحي بالله، إن الله لم يفرق بين الصلاة والزكاة"، ثم جمعهما، ثم نزل. جمعت ألفاظ هذه الخطبة من: البداية والنهاية ص: (6/312) لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت: 774هـ) نشر: دار الفكر/ سوريا - دمشق/ سنة: (1407) هـ (1986) م، وتاريخ دمشق ص: (30/318) لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (ت: 571هـ) نشر: دار الفكر/ سنة: (1415) هـ
دراسة النص: 
من خلال الملاحظة نجد أن النص تضمن جملة من النقاط التي حاول من خلالها الصديق أن يصل إلى هدفه المنشود، ونجمل هذه النقاط في:
الحوار لترسيخ المفاهيم الجديد الصحيحة: يلاحظ من الحوار الذي جرى بين الصحابة وخليفتهم أن الصديق رضي الله عنه أراد أن يكون نظامه شورياً يلغي معه كل فكر التعصب والاستبداد القيادي، والتبعية العمياء التي كان يتسم بها المجتمع الجاهلي عموماً، ولا يخفى ما لهذا من تصحيح فكري للمفاهيم التي كانت سائدة والتي لا يزال جمع غفير من العرب حديثي العهد بالإسلام يعتنقونها منهجاً، كما أنه رضي الله عنه بهذا الحوار كون صورة كاملة وفكرة عامة عن الحالة الفكرية والرأي العام الذي يتبناه وجوه الناس وعامتهم، فوضع يده على اختلاف في الأفهام حول التعامل مع قضية المرتدين.
واتسم هذا الحوار بالوضوح والجرأة، ثم تلاه ثقابة نظر من الخليفة، وسرعة قرار برأي حاسم، لم يتردَّد في الإفصاح عنه وتبنيه، لكون الدليل يؤيده، وهذا يدل على ما يتصف به الصديق صاحب الفهم المتجلي -عن دقة وشدّة غيرة- من بعد نظر حول مفهوم الإسلام والدين.
الموازنة: فابتدأ رضي الله عنه خطبته نحو تصحيح المفاهيم ببيان النعمة التي منَّ الله بها على الناس ببعث محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بقياس واقعهم قبل البعثة وبعدها، من الناحية الفكرية والمادية، والبون الشاسع بين العهدين، ومن خلال تبيين واقع الجهل والفرقة والانحطاط الفكري الذي كانوا يحيونه، وواقع التقدم الفكري والسمو الأخلاقي والزهو الاجتماعي الذي رباهم عليه الإسلام، وأن اجتماع الخلق على حرب الحق كان أشد وأقوى في أول الرسالة، يوم كان المسلمون قلة عالة، فأغناهم وأيدهم بنصره على من سواهم، وفي هذا ربط بديع بين أركان الخطبة، ولهذا فإن الفكرة التي يدعو إليها تستحق أن تنصر ولو عادها كل الخلق.
الصراحة: لقد عبرت خطبته عن صفة الصراحة التي يجب أن يتصف بها صاحب السلطان، والتي يقتضيها الموقف الصعب، كما يقتضي سرعة في اتخاذ القرار عند اتضاح الدليل والمصلحة، فكانت كلماته خالية من الاعوجاج والالتواء، واضحة في تحديد الهدف راسمة للخطى على المنهج، مذكرة بعظيم الأجر والثواب لن صبر على طريق الشدائد نصرة للدين، فكان بذلك موفراً لأسلوب الترغيب والترهيب في مختصر القول ومجمل المعنى.
المكاشفة التصحيحية: انطلق الصديق يكشف عن حقيقة عقائدية وناحية فقهية مهمة غابت عن أكثر المستمعين، وهي أن الدين قد تم وكمل فلا يجوز أن ينقص، والتهاون مع البعض في مسألة من ركائز الدين الأساسية نقض للدين ولأركانه عامة، وزعزعة للبنيان الذي شيده الرسول وكل من يستمع إلى خطبة الصديق، فصحح بذلك مفهوماً آخر حول قضية الإيمان بأركان الإسلام، وتمثل أولاً بكمال الدين، وعدم جواز الإسهام في نقصانه، ولهذا كان دائما ما يردد: "إِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الْوَحْيُ وَتَمَّ الدِّينُ أَيَنْقُصُ وَأَنا حَيّ؟". رواه التبريزي في مشكاة المصابيح كتاب المناقب بَاب مَنَاقِب أبي بكر رقم: (6034)
ويتمثل ثانياً بمظهر النقصان بالاعتداد برأي من فرق بين الزكاة والصلاة، وهذا ما تأنفه نفس الصَّديَّق وتأباه، فمن فرق بين بينهما كان إيمانه غير تام الأركان، منقوض القوائم، ولا تثريب في قتالهم، فدماؤهم هدر، إذ الزكاة حق الإسلام، ومن منعها لم يأتي بالإسلام كاملاً، بل نقض ما بايع عليه الرسول فرَكِبَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ مَرْكَبَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيديهِ، وَبَغَى هَلَكَتَهُ.
إن هذا الموقف يدل على أن الصديق كان أنفذ بصيرة من جميع من حوله، لأنه فهم بإيمانه الذي فاق إيمانهم جميعاً أن الزكاة لا تنفصل عن الشهادتين، فمن أقر لله بالوحدانية لا بد أن يقر له بما يفرض من حق في ماله، الذي هو مال الله أصلاً وأن لا إله إلا الله بغير زكاة لا وزن لها في حياة الشعوب، وأن السيف يشرع دفاعًا عن أدائها تمامًا كما يشرع دفاعًا عن لا إله إلا الله، تمامًا هذه كتلك. هذا هو الإسلام وغير هذا ليس من الإسلام. حياة أبي بكر ص: (130) لمحمود شلبي/ نشر: دار الجيل/ لبنان - بيروت/ الطبعة الأولى/ سنة: (1979) م
رسم نتائج: ولا يخفى ما لهذا الرأي من سلامة عارمة، لأن طبيعة الموقف وصعوبته تفرضه وتمليه لتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين، والتهاون هنا سيفتح مئات الأبواب لكثير من الناس تفلتاً من أوامر الله، وإذ لم يزع السلطان فلن يزع القرآن، بل وسيكون هذا التفلت سنة ماضية في الأمة للتهرب من الفرائض الإلهية، وتبني موقف المهادنة في الدين، وهذا سيجلب الفشل والهزيمة والعود للانغماس في أحضان الجاهلية من جديد.
استخدام الدليل لإقامة الحجة والبرهان: لقد استعان في كل قضية ذكرها بنص قرآني، فجمهوره أصحاب هوى قرآني، وهدى اتباعي لما جاء به، وبذلك قرر انصياعهم ضمناً لما قال وتكلم به بالحجة والبرهان.
مميزات: لقد اتسمت خطبته رضي الله عنه بنوع من التسلسل والترابط بين حلقاتها، فلا تكاد تجد فكرة إلا وهي مرتبطة بما قبلها لتسلمك فكرة بعدها، وكل هذا بشكل منطقي خالٍ من التكلف.
نتيجة الخطبة:
دخلت كلمات الصديق إلى الأفئدة فحركت العقول وألهبت المشاعر وأيقظت الفكرة، حتى قيل أحيا الله الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر رضي الله عنه.
تذكر المصادر أن عمر بعدما سمع مقالة الصديق كبر وقال: "والله قد علمت والله حين عزم الله لأبى بكر على قتالهم أنه الحق".
وثبت في المسند أنه قال: "فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِقِتَالِهِمْ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ". رواه الإمام أحمد في مسنده عن عمر رضي الله عنه ص: (1/ 358) رقم: (239)، وهو صحيح
وقد قاتل الصحابة بعد ذلك مانعي الزكاة حتى جمع الله العرب على الصديق رضي الله عنه.
لقد كان موقف أبي بكر رضي الله عنه الذي لا هوادة فيه ولا مساومة فيه ولا تنازل موقفًا ملهماً من الله، يرجع الفضل الأكبر -بعد الله تعالى- في سلامة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية ومحاولة نقض عرى الإسلام عروة عروة، موقفَ الأنبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى أبو بكر حقها، واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث الله الأرض وأهلها. سيرة أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب ص: (70) لأبي الحسن الندوي/ نشر: دار القلم/ سوريا- دمشق/ الطبعة الثانية/ سنة: (1419) هـ (1998) م
ولهذا كان سعيد بن المسيب يقول: "وكان أفقههم وأمثلهم رأياً، يعني أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه". البدء والتاريخ ص: (5/ 153) للمطهر بن طاهر المقدسي (ت: 355هـ) نشر: مكتبة الثقافة الدينية/ مصر -بور سعيد/ سنة: (1428)، وانظر للاستزادة: لانشراحُ وَرَفعُ الضِّيق في سِيرة أبي بَكْر الصِّديق شخصيته وَعَصره ص: (197) لعَلي محمد الصَّلاَّبي/ نشر: دار التوزيع والنشر الإسلامية/مصر - القاهرة/ سنة: (1423) هـ(2002)
وبالخلاصة: فإننا نجد أن الصديق كان فاهماً وواعياً للدور الكبير الذي يلعبه المنبر في توضيح الحق من الباطل، والسليم من السقيم، فبادر إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة والقضايا التي ولدها الاجتهاد الخاطئ أو الفهم المغلوط للنص عبر رسم رسالة نشرها عبر وسيلة المنبر.
توصيات منبرية للخطيب:
يظهر مما سبق أن المنبر كان ساحة لعرض الأفكار، وتبادل الآراء، فيرقي الخطيب المنبر لينثر على الأسماع كلاماً يؤثر إن نزل كالدرر، فتتضارب الأفكار في عقول السامعين، وتتنبه الاذهان إلى مكامن الخير والشر، وتتحرك الدماء وتنهض الهمم بصولة الكلمة فتتأثر إن كانت عذبة دفاقة تنبع من قلب محب غيور.
لهذا كله ينغي أن يكون الخطيب صاحب حنكة وفهم ودراية من ناحية الخير والشر والمصالح والمفاسد، وطرق استجلاب هذا ودفع ذاك، بأن يكون منضبطاً بجملة من القواعد، حتى ينجح في دعوته، ويوصل كلمة الإسلام الحقة إلى قلوب الناس، وتُؤتي دعوته أكلها بإذن ربها، ومن هذه القواعد التي أسردها سرداً غير مطول:
قاعدة القول الحسن والكلمة الطيبة: أحوج ما يحتاجه الخطيب هو الجمهور الواسع العريض، المتقبل لما يقول والمنصت لما يلقي والمتبع لما يرشد، ولا يتأتى هذا إلا بالقول الحسن والكلمة الطيبة والعِبَارة اللّينَة، والبَشاشَةُ حين اللقاء، والبُعد عن الجفاء والتجافي عن الفظاظة والترفع عن الرد، يقول عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وقد ظهر القول الحسن والكلام الطيب في خطبة الصديق بشكل واضح.
الشفقة والنصح لا التوبيخ والفضح: أن يكون الخطاب بلهجة النصح أقرب للمسامع وألين على النفوس، وذلك بترك تتبع العثرات، وكشف العورات، كما جاء خطبة الصديق.
سهولة الأسلوب وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل: فالمقصود من الدعوة إلى الله تعالى تبليغ أَمْره الله إلى المدعوين، وفهم المدعوين لهذا الأمر، وليس المقصود بلاغة الداعية في خطابه، وتَنْمِيقَ عِباراته، وسَجع ألفاظه، وضربه أمثالاً خيالية لا تُفهم، وسبكه تراكيبَ ومصطلحات لا تدرك، قال تعالى في القرآن الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [إبراهيم: 4]. هذه القواعد وغيرها تجدها في كتاب الخطابة ص: (303) منهاج جامعة المدينة العالمية/ نشر: جامعة المدينة العالمية/ سنة: (2009) م
وهذا كله واضح في كلام الصديق رضي الله عنه حيث قال: "فَرَكِبَ مِنْهُمُ الشَّيْطَانُ مَرْكَبَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِأَيْدِيهِمْ، وَبَغَى هَلَكَتَهُمْ".
وأخيراً أدلل على دور المنبر في علاج الاختلال الفكري وتصحيح المفاهيم المغلوطة بما قاله الشيخ محمد أمين الشنقيطي عند سماعه: "مِنْ إِذَاعَةٍ لِبَلَدٍ عَرَبِيٍّ مُسْلِمٍ أَنَّ كَاتِبًا اسْتَنْكَرَ الْأَذَانَ فِي الصُّبْحِ خَاصَّةً، وَفِي بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ بِوَاسِطَةِ الْمُكَبِّرِ لِلصَّوْتِ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُرْهِقُ الْأَعْصَابَ وَخَاصَّةً عِنْدَ أَدَاءِ النَّاسِ لِأَعْمَالِهِمْ أَوْ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا وَالْعَوْدَةِ لِرَاحَتِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْفَجْرِ عِنْدَ نَوْمِهِمْ، فَكَانَ وَقْعُهُ أَلِيمًا أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ وَيُنْشَرَ، وَلَكِنْ أَجَابَ عَلَيْهِ أَحَدُ خُطَبَاءِ الْجُمَعِ فِي خُطْبَةٍ وَافِيَةٍ، وَأَفْهَمَهُ أَنَّ الْإِرْهَاقَ وَالِاضْطِرَابَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ لِهَذَا النِّدَاءِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَبُولُ فِي أُذُنِ النَّائِمِ، وَأَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ عُقَدٍ، فَإِذَا مَا اسْتَيْقَظَ وَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ أُخْرَى، فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقْدَةُ الثَّالِثَةُ، وَأَصْبَحَ نَشِيطًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ الْكَافِي". أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ص: (8/ 149) محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ) نشر: دار الفكر للطباعة والنشر و التوزيع/ بيروت - لبنان/ نشر: (1415) هـ
 
1 - محمد أمين النجار من ريف حمص الشمالي، استشهد عام 2015 على يد تنظيم داعش، وهذا المقال جزء من بحث له حائز على المركز الثالث في المسابقة السنوية لدراسات المنبر التي أقامتها رابطة خطباء الشام عام 2014
2 - جمعت ألفاظ هذه الخطبة من: البداية والنهاية ص: (6/312) لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت: 774هـ) نشر: دار الفكر/ سوريا - دمشق/ سنة: (1407) هـ (1986) م، وتاريخ دمشق ص: (30/318) لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (ت: 571هـ) نشر: دار الفكر/ سنة: (1415) هـ
3 - رواه التبريزي في مشكاة المصابيح كتاب المناقب بَاب مَنَاقِب أبي بكر رقم: (6034)
4 - حياة أبي بكر ص: (130) لمحمود شلبي/ نشر: دار الجيل/ لبنان - بيروت/ الطبعة الأولى/ سنة: (1979) م
5 - رواه الإمام أحمد في مسنده عن عمر رضي الله عنه ص: (1/ 358) رقم: (239)، وهو صحيح
6 - سيرة أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب ص: (70) لأبي الحسن الندوي/ نشر: دار القلم/ سوريا- دمشق/ الطبعة الثانية/ سنة: (1419) هـ (1998) م
7 - البدء والتاريخ ص: (5/ 153) للمطهر بن طاهر المقدسي (ت: 355هـ) نشر: مكتبة الثقافة الدينية/ مصر -بور سعيد/ سنة: (1428)، وانظر للاستزادة: لانشراحُ وَرَفعُ الضِّيق في سِيرة أبي بَكْر الصِّديق شخصيته وَعَصره ص: (197) لعَلي محمد الصَّلاَّبي/ نشر: دار التوزيع والنشر الإسلامية/مصر - القاهرة/ سنة: (1423) هـ(2002)
8 - هذه القواعد وغيرها تجدها في كتاب الخطابة ص: (303) منهاج جامعة المدينة العالمية/ نشر: جامعة المدينة العالمية/ سنة: (2009) م
9 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ص: (8/ 149) محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ) نشر: دار الفكر للطباعة والنشر و التوزيع/ بيروت - لبنان/ نشر: (1415) هـ
دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 114) 80%
غير فعال (صوتأ 27) 19%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 143