الباحث:
مقدمة:
كحال أي أمة، خلف سلفَنا خلفٌ كانت الشهوات هدفهم والمظاهر ميزانهم، فطال التخلف كل رسالة ومؤسسة، حتى اعترى المنبر ورسالته.. وكنتيجة للتخلف الذي تعيشه الأمة، والذي وصل حتى إلى درجات المنبر الذي باتت تعتريه جملة من الأخطاء التي يرتكبها الخطيب أو القائمون على مساجد المسلمين، لتظهر كمسلّمات.
وتدور هذه الأخطاء إما في طريقة استعمال المنبر، أو في الفهم الخاطئ لرسالته الحقيقة، أو في تحويله إلى مجرد مادة شعائرية فارغة من مضمونها، وغير ذلك مما يخالف رسالته التي صنع لأجلها، بل وصلت الأخطاء في وصف المنابر وأشكالها.
ففي عصرنا استطال المنبر وامتدَّ ليشغل حيزاً كبيراً من المسجد، وصارت المساجد بمنابرها ومنائرها، مظهراً من مظاهر المفاخرة والمباهاة، فصبغت بألوان الزخارف، ودخلت ميدان المسابقة في التزيين بأطناب الزينة، عبر جعلها صفحة لرسم الآيات والأحاديث والنقوش والزخارف، فحصل بذلك عظيم إسراف في بنائها وإعدادها، وعلت درجاتها حداً بالغاً في الزيادة عن الحاجة، وقدراً فائضاً في المقصود من العلو للخطابة، فقطعت بذلك صفوف المصلين، وتفرق الناس عنها ذات الشمال وذات اليمين، لكونها صارت تحاذي الصفوف، فضيقت ضيق المكان، وربما فرقت بين الصف الأول وصف الإمام.
وكل هذا غير مشروع من حيث الوصف مخالف لما كانت عليه منابر السلف، بل مخالف لما كان عليه منبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، إذ الغرض من وجود المنبر ارتفاع الخطيب ليتمكن الناس من رؤيته، فإذا تحقق هذا الغرض فليس هناك أي حاجة إلى هذه الزيادة.
قال ابن النجار: "وطول منبر النبي صلى الله عليه وسلم ذراعان وشبر وثلاث أصابع وعرضه ذراع راجح وطول صدره وهو مستند النبي ذراع، وطول رمانتي المنبر اللتين يمسكهما رسول الله إذا جلس يخطب شبر واصبعان، وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاث أصابع، والدكة التي هو عليها طول شبر وعقدة، ومن رأسه إلى عتبته خمسة أذرع وشبر".
يقول ابن الحاج: "وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا أَعْنِي فِي إمْسَاكِ مَوَاضِعَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَقْطِيعِ الصُّفُوفِ بِهَا اتِّخَاذُ هَذَا الْمِنْبَرِ الْعَالِي، فَإِنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْمَسْجِدِ جُزْءًا جَيِّدًا، وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ كَفَى بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَّمَ وَلَا مِنْ فِعْلِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ"، ثم استرسل في بيان مساؤى التعالي في المنابر.
وكذلك فقد وقع الخطباء في جملة من الأخطاء الخطابية، فلا تراهم يرتقون المنبر إلا لخطب الجمعة والعيدين، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كلما ألم به أمر جمع الناس وخطبهم، وهل في هذه المخالفة إلا شر الفرقة والبعد عن قضايا الناس.
وكذلك ترى كثيراً من الخطباء يدامون على خطب مكرورة، يستفتحون بها خطبهم ويختمون، فتلقفها الناس وكأنها سنة المنبر، ونهج الرسول صلى الله عليه وسلم، على ما فيها من ألفاظ يراعى فيها السجع، وتهمل فيها سلامة اللغة، زيادة على ما فيها من كلمات منمقة مندثرة لا يعرف معناها الخواص عداك عن العامة، والمتتبع لخطب السلف يجد أنهم كانوا يجتنبون التكلف، ويخالفون بين الخطب، فلا يكررون إلا المأثور، ويبعدون عن التقليد.
ولم تبق للمنبر سلطته القوية في الدعوة، ولا مركزه الكبير في التأثير على الأحداث، إذ قلما يُحسَنُ استغلاله، ونادراً ما تصل الكلمات إلى قلوب الناس، بل وإلى آذانهم حتى.. ذلك أن الناس يجتمعون يوم الجمعة ليجدوا أطروحات لقضايا الأمة، ويسمعوا حلولاً لمشكلاتهم العامة، ليصطدموا بواقع مرير، إذ إن آخر ما يتناوله معظم خطباء العصر -إلا من رحم ربي- موضوعات الإسلام المهمة، وهو إن فعل لا يعطي القضية حقها، ولم يلبس المسألة حجمها، وقد قيل: إن الأمة بحاجة إلى الخطيب المفكر كما هي بحاجة إلى الخطيب المؤثر.
يقول الرافعي رحمه الله: "ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب".
وسترى في بقية البحث جملة من الأخطاء في استعمال المنبر تنم بشكل أو بآخر عن خطأ في الفهم لرسالة المنبر من قبل رقاته.
عقبات في طريق التغيير:
ولا شك أن تغيير الواقع صعوداً يحتاج إلى جهود كبيرة في كل ميدان، ولا سيما ميدان المنبر والمسجد، حتى يُصنع واقعٌ جديد ينبع من الإسلام وفضائله.. وهذا الميدان يشكل ركيزة أساسية ينطلق منها العلماء والمتخصصون والدعاة.
إلا أن ركود حركة الاجتهاد الفقهي وسيطرة الفكر الدخيل على المجتمع المسلم، أدى إلى أن يتصدر المنبرَ كثيرٌ ممن ليس أهلاً للعلم والدعوة، ولا قدرة لديه على فهم الواقع وتشخيص ما فيه من فضائل ورذائل، وبالتالي تراكمت جملة من الصعوبات والمشاق أمام رسالة المنبر في طريق التغيير والكمال، عقبات يرجع بعضها إلى شخص الخطيب، وبعضها الآخر إلى واقع الجماعة المسلمة، وبعضها الآخر إلى الغزو الغربي للعالم الإسلامي، ومن هذه العقبات:
ضياع الهدف والغاية: إن الهدف الرئيسي من رسالة المنبر بناء الإنسان الصالح، عبر تسليحه بالأفكار الصحيحة وحمايته من الأفكار الوافدة، وهذا يتضمن لطرائق ووسائل تخفى على كثيرين وهي غير منضبطة أيضاً، كما أنها عرضة للتطور والتبدل حسب الزمان والمكان، ومما زاد الأمر صعوبة أننا لم نلمس اهتماماً برسالة المنبر في الأكاديميات العلمية والشرعية أو من خلال الدراسات والأبحاث بالقدر المطلوب.
التفرق والخلاف: لا شك أن الخلاف مُذْهِبُ ريح الأمم، وقد أدى ضياع الهدف إلى تشويش في فهم حقيقة المنبر بنموذجه الأسمى وصورته الحقة، وأصبحنا نجد أن غايات أخر تافهة تبرز فتزاحم الغاية الأساسية العظمى والهدف الأسمى، كجعل المنبر وسيلة لترويج حزبي، أو نشر فكر خاص، أو تعليم منهج مذهبي، أو تعظيم الطواغيت وتبرير أفعالهم، وصرف النظر عن قضايا بناء الإنسان وإحياء الأمم إلا في النادر أو خلال المناسبات.
الإعلام البديل: ونعني به وسائل الإعلام التي غزت كل بيت وطرقت كل باب، وهي بعجرها وبجرها بعيدة عن مقص رقيب الفضيلة والأخلاق والدين، فنازعت المنبر في التأثير على الناس، وكانت عقبة بسبب ما تنقله في أكثر الأحيان من مفاهيم مغلوطة وأفكار هدامة صعبت على صاحب المنبر إيصال رسالته، ومكمن الخطورة أن الأمة لا تملك أمام الغزو الثقافي الإعلامي بجيوشه الجرارة، من المقاومة إلا القليل.
قمع رسالة المنبر: ولا نستطيع أن نغفل ما يمارسه طواغيت العصر من تحجير على المنبر، وقمع لرسالته وتحريف لهويته، حتى صارت المنابر ناطق رسمي بأسمائهم، ومنعت المنابر في الوقت نفسه من إطلاق صيحة التغيير والإصلاح وبعث الأمة دينيناً وتجديدها فكرياً.
التصور الخاطئ للمجتمع: حيث إن النظرة تكون إلى مقدار التحضر الذي بلغه المجتمع لا إلى مساوئه، ولا إلى ما يجب أن يكون عليه حاله، فيكون الخطاب المنبري في هذه الحال موجه لترسيخ الواقع، لا لتغييره وتبديل مساوئه.