1- نفحةٌ إيمانيّة من نفحات شعبان
2- رفع الأعمال إلى الله تعالى في شعبان
3- رغبةٌ نبويّةٌ حُقّقت لرسول الله في شعبان
4- فرصةٌ لمغفرة الذّنوب في ليلة النّصف من شعبان
5- لا بدّ من التّخلية قبل التّحلية
مقدمة:
لا بدّ للمسلمين أن يعلموا ما لله من حكمةٍ بالغةٍ في تعاقب الشّهور والأعوام، وتوالي الّليالي والأيّام، فإنّ الله جعل الّليل والنّهار خزائن للأعمال، ومراحل للآجال، يعمرها النّاس بما يعملون من خيرٍ وشرٍّ، حتّى ينتهي بهم الأمر إلى آخر أجلهم.
أيّامٌ مضت، وشهورٌ انقضت، ودار التّاريخ دورته، فأقبلت الأيّام المباركة تبشّر بقدوم شهر القرآن، وبين يدي هذا القدوم يطلّ علينا شهر شعبان، مذكّراً جميع المسلمين بما يحمله لهم من خيرٍ، وإنّ المسلم ليشعر بأنّ لشهر شعبان مذاقاً خاصّاً، فيستبشر به خيراً، ويفرح بقدومه، امتثالاً لقول الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
1- نفحةٌ إيمانيّة من نفحات شعبان
إنّها بركةٌ من بركات شهر شعبان، وإكرامٌ من الله الرّحيم الرّحمن؛ الّتي أكرم الله بها نبيّه محمّداً عليه الصّلاة والسّلام، ألا وهي إنزال الله تعالى آية التّكريم لنبيّه الكريم في شعبان، قال سبحانه في محكم التّنزيل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
فالصّلاة على رسول الله تعبيرٌ عن العرفان بالجميل للنّبيّ الجليل؛ الّذي أخرجنا الله على يديه من الظّلمات إلى النّور، وهدانا إلى الصّراط المستقيم، كما أنّها تكريمٌ لرسولنا الكريم، وشرفٌ شرّف الله به نبيّه ومصطفاه، وهو شرفٌ أتمّ وأجمع من تشريف آدم عليه السّلام حيث أمر الملائكة بالسّجود له، وذلك لأنّه لا يجوز أن يكون الله مع ملائكته في هذا التّشريف، إلّا أنّ الله قد أخبر عن نفسه بالصّلاة على النّبيّ الكريم فقال: {إنّ الله}، ثمّ أخبر عن الملائكة الكرام فقال: {وملائكته يصلّون على النّبيّ}، فتشريفٌ يصدر عنه جلّ شأنه، أبلغ وأجلّ من تشريفٍ يختصّ به الملائكة وحدهم من غير أن يكون الله تعالى معهم في ذلك.
وأمّا عن كيفية الصّلاة والسّلام على هذا النّبيّ العظيم، فقد روى عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).
2- رفع الأعمال إلى الله تعالى في شعبان
شهر شعبان ترفع في الأعمال إلى الله تعالى، فقد جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قُلْتُ: وَلَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ: (ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ).
ففي هذا الشّهر يجود الله على عباده بتلك المنحة العظيمة، الّتي هي منحة عرض الأعمال عليه سبحانه، وبالتّالي قبوله ما شاء منها، ولذلك كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّ هذا الشّهر، ويحبّ الإكثار فيه من عبادةٍ عظيمةٍ ألا وهي عبادة الصّوم.
فهل تحبّ ما أحبّ رسول الله؟
وهل تجد في نفسك الشّوق لهذا الشّهر كما وجده الحبيب؟
وهل تجعل حبّك للأشياء مرتبطاً بما يحبّ رسول الله؟
فهذا شهر شعبان امتحانٌ عمليٌّ للمسلم ليبرهن من خلاله على أنّه صادقٌ في حبّ ما يحب الله ورسوله، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
قف أيّها المسلم لتعلم بأنّ شهر شعبان هو موسمٌ ختاميٌّ لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام كلّه، فسل نفسك بمَ سيختم عملك؟ ثمّ ما الحال الّذي تحبّ أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ وما أفضل عملٍ تحبّ أن يرفع إلى الله عزّ وجلّ؟
لحظةٌ خطيرةٌ في تاريخ المسلم يتحدّد على أساسها رفع أعمال العام كلّه إلى الله سبحانه القائل في كتابه العزيز: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
فراجع نفسك أخي المسلم، وبادر بالأعمال الصّالحة قبل رفعها إلى مولانا عزّ وجلّ في شهر رفع الأعمال، وتذكّر قبل فوات الأوان أوقاتاً قضيتها في العصيان، وتب منها إلى الرّحيم الرّحمن، ليجود عليك بالمغفرة والإحسان.
3- رغبةٌ نبويّةٌ حُقّقت لرسول الله في شعبان
من الأمور الهامّة الّتي لا تُنسى، والّتي يجب أن نتذكّرها دوماً، تلك الحادثة الّتي حدثت في هذا الشّهر الجليل، ألا وهي حادثة تحويل قبلة الصّلاة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، في السّنة الثّانية من الهجرة، حيث كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي إلى بيت المقدس الّذي كان قبلة المسلمين، وبقي على ذلك وهاجر من مكّة إلى المدينة وهو يتّجه إلى بيت المقدس، وبقي سبعة عشر شهراً وهو يصلّي إلى القبلة الأولى، ولكن في قلبه الحنين والشّوق في أن يتوجه إلى بيت الله الحرام، لأنّه بلده الّذي أحبّه وعشقه، ولأنّ اليهود كانوا يقولون إنّ محمّداً يصلّي إلى قبلتنا ويدين غير ديننا، فلو كان دينه صحيحا لهيّأ الله له قبلةً يتوجّه إليها غير قبلة اليهود، وكان ينتظر الأمر من السّماء للتّوجه إلى المسجد الحرام في الصّلاة، فنزل قول الله عز وجل ينسخ القبلة الأولى، لتكون للمسلمين قبلةٌ خالصةٌ خاصّةٌ لا يشاركهم فيها أحدٌ إلى يوم القيامة، قال سبحانه: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
إذا كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم تخلّص من اليهود جزئيّاً، وبعد فترةٍ تخلّص منهم كلّيّاً فلا يجاوره يهوديٌّ في المدينة، فمتى؟ سؤالٌ ليس له جوابٌ، متى نتركه للأيّام، متى نتخلّص من اليهود بعض الجزء لا جزئيّاً؟ وأمّا كلّيّاً فغريبٌ، ليس غريباً على الله تعالى، فهو قادرٌ أن يمحقهم ويستأصلهم عن بكرة أبيهم، ولكن وضع للمؤمنين شرطاً إن حققوه أتى الله تعالى بنصره، لأنّ نصره قريبٌ، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
إنّ الله تعالى غيّر الوجهة الصّلاتيّة لحبيبه صلى الله عليه وسلم، فهل أنت أيّها المسلم غيّرت وجهة حياتك لتجد الوجهة الحقيقيّة، وتسير عليها في بيتك وسوقك وشارعك ومكان وجودك؟ أم لازلت في اتّجاهك الأعمى يسوقك الدّهر أينما ساق وتأخذك الرّياح أينما أخذتك؟ وإذ بملك الموت يطرق بابك وتقول له عندها كما قال عز وجل: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99-100].
4- فرصةٌ لمغفرة الذّنوب في ليلة النّصف من شعبان
إنّ شهر شعبان -كما أسلفنا- شهر عطاءٍ وكرمٍ إلهيٍّ، يجود فيه ربّنا عز وجل بهباته الوافرة، الّتي يهبها لأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ويمنّ بهداياه العظيمة على عباده، فهو الّذي عوّدنا أنّه جعل لنا في أيّام دهرنا نفحاتٍ، يتفضّل بها علينا بمضاعفة الحسنات، وليلة النّصف من شعبان لها نصيبٌ من هذه النّفحات، فقد عظّم النّبيّ شأنها، عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يَطَّلِعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا لِاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَخَرَجْتُ، فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ، رَافِعٌ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ لِي: (أَكُنْتِ تَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ)، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَتَيْتَ بَعْضَ نِسَائِكَ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعَرِ غَنَمِ كَلْبٍ).
هي فرصةٌ عظيمةٌ لكلّ مذنبٍ ومقصّرٍ في حقّ الله ودينه ودعوته، هي فرصةٌ لمحو الأحقاد من القلوب تجاه إخواننا من المسلمين جميعاً، فضلاً عن ذوي الأرحام والأقارب متمثّلين قول ربّنا عزّ وجل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
قال بعض السّلف أفضل الأعمال: سلامة الصّدور، وسخاوة النّفوس، والنّصيحة للأمّة.
وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيّد القوم من يصفح ويعفو.
فرصةٌ لكلّ من تجاهل عظمة خالقه، ووقع في منكراتٍ وفواحشٍ، أن يصطلح اليوم مع ربّه، ليتدارك ما فات، وليفتح صفحةً جديدة مع الله، تكون ممحوّةً من الذّنوب وناصعة البياض بالطّاعة.
5- لا بدّ من التّخلية قبل التّحلية
تخليةٌ عن الذّنوب قبل التّحلية بالطّاعات.
تماماً كما أنّه لابدّ من تنظيف الإناء وغسله قبل ملئه بالشّراب والماء، وإلّا لو ملأته وهو على حاله من الأوساخ لتلوّث الشّراب بمجرّد وضعه في الإناء، ولكن إن غسلته ونظّفته قبل صبِّ الشّراب فيه، كان الشّراب صافياً عذباً، فافعل هذا مع قلبك، نظّفه واغسله من أدرانه وأوساخه من الآن، ليكون مستعدّاً لتقبّل نفحات رمضان، الّتي يجود الله بها على عباده، لتفوز مع الفائزين.
ولكن اعلم إن بقي قلبك على حاله من أدرانه وأوساخه، سيأتي عليك رمضان وينقضي، ولا تزال في حالة بعدٍ عن ربّك، لا تؤثّر فيك مواعظ رمضان، ولا تشملك نفحاته، وهذا خسارةٌ ليس بعدها خسارةٌ، نسأل الله تعالى السّلامة.