1- مفهوم الرّجولة
2- صفات الرّجولة
3- أين هي مواطن الرّجال؟
4- الرّجولة ليس لها علاقةٌ بالعمر
5- رجل الثّورة
مقدمة:
في زمن الملمّات وحين تستعر الهجمة على الإسلام وتشتدّ، فإنّ أعظم ما يُذاد به عن حياض الإسلام ويُدفع به عن أعراض المسلمين هم الرّجال؛ الرّجال الّذين يُرخصون لله أعمارهم ويبذلون في سبيله مهجهم وأنفسهم، الرّجال الّذين أصبحوا عملةً نادرةً في هذه الأيّام.
كان الفاروق عمر بن الخطّاب رضي الله عنه جالساً في جمعٍ مع أصحابه فقال لهم: "تَمَنَّوْا"، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ، وَقَالَ رَجُلُ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ زَبَرْجَدًا وَجَوْهَرًا فَأُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: "تَمَنَّوْا"، فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: "أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ رِجَالًا مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ".
هذا الفاروق أيّها الأحبّة، لا يتمنّى الأموال ولا السّلاح ولا العتاد للدّفاع عن الإسلام، إنّما يتمنّى مقوّماً واحداً؛ ألا وهو الرّجال، لقد علم الفاروق بفطنته وسبره لتاريخ البشريّة أنّ الدّول والحضارات لا تقوم بالأموال ولا بالسّلاح، إنّما تقوم على أكتاف الرّجال وبسواعدهم وتضحياتهم، فما نفع السّهم إن لم يكن له رامٍ، وصدق القائل: "يا لَهُ من دينٍ لو كان له رجالٌ"، ومتى فُقد مقوّم الرّجولة في الأمّة أصابها الوهن وتكالبت عليها الأمم وتداعت إليها الأكلة.
1- مفهوم الرّجولة
أيّها الأخ الكريم، ليست الرّجولة الحقيقيّة في إنبات اللحية ولا في ضخامة الجسم وعرض المناكب، فقد حدّثنا الصّادق المصدوق أنّ هذه الضّخامة لا تنفع عند الله مالم يكن لصاحبها عملٌ صالحٌ يرفعه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ: اقْرَءُوا {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]).
فقد كان الصّحابة أشدّ النّاس رجولةً وكان غالبهم نحيل الجسم دقيق السّاقين، كما ورد في مسند الإمام أحمد عن ابن مسعودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مِمَّ تَضْحَكُونَ؟)، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ).
فهذا ابن مسعود يضحك بعض الصّحابة من نحالة جسمه، الّذي لم يمنعه أن يصدع بالقرآن عند الكعبة فيكون بذلك من رجالات الإسلام المدافعين عنه، وهو أيضاً من السّابقين في الإسلام، وقد ارتقى رأسَ أبي جهلٍ وقتله في بدر، فنعم الرَّجل.
فيا أيّها المباركون، الرّجولة هي مجموع صفاتٍ لا بدّ أن يتحلّى بها المرء حيث يُقال له "رجل"، وإلّا فلا يعدو كونه ذكراً من ذكرانٍ كثيرٍ خلقهم الله.
2- صفات الرّجولة
الصّدق مع الله: من صفات الرّجال الصدق مع الله في الوعد، والثّبات على العهد، فلا يغيّرون ولا يبدّلون ولا ينكثون، إنّما هم صابرون محتسبون، حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فإمّا حياةٌ تسرّ النّفس وترضي الله وإمّا شهادةٌ ترفع العبد وتُغيظ العدا، وقال قال الله تعالى في وصف أولئك: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
السّعي في نصرة الحقّ: ومن صفات الرّجولة أيضاً، أنّهم يسعون في نصرة الحقّ والدفاع عن دين الله وحُرماته، فيبذلون المهج والأنفس في سبيل الله، ولا يصدّهم عن ذلك تخذيل المخذّلين ولا إرجاف المرجفين، وقد ضرب الله لنا في القرآن مثلاً بصاحب موسى فقال سبحانه: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20].
ففي هذه الآية لم يذكر لنا الله نسب الرّجل ولا علمه ولا مكانته في قومه، إنّما ذكر لنا أنّه كان رجلاً، فنعمت الصّفة هي.
وكذلك من الأمثلة الّتي ضربها لنا الله تعالى مؤمن آل يس، حيث وصفه الله في كتابه بالرّجل، لأنّه كان ساعياً في البلاغ والدّعوة إلى الله والحضّ على اتّباع أنبياء الله، فقال تعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20].
الصّدع بالحقّ في وجه كلّ ظالمٍ: ومن صفات الرّجال؛ الصّدع بالحقّ في وجه كلّ طاغيةٍ متجبّرٍ وكلّ ظالمٍ متكبّرٍ، ولو كان في ذلك ذهاب نفسه وضياع ماله وجاهه، كمؤمن آل فرعون الّذي نصر موسى وجهر بالحقّ في وجه فرعون الّذي طغى وتجبّر، فاستحق بذلك وصف الله له بالرّجل، فقال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28].
وكذلك جعل الله سيد الشّهداء وأرفعهم يوم القيامة رجلٌ صدع بالحقّ في وجه سلطانٍ جائرٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ).
التّعالي عن الشّهوات والرّغبات: الرّجال لا تغرّهم ملهيات الدّنيا، ولا يلتفتون إلى المصدّات عن سبيل الحقّ، بل تجدهم أشدّ النّاس تعالياً على رغباتهم، وأكثر النّاس كبحاً لهوى أنفسهم، قال تعالى في وصفهم: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37].
وكذلك في حديث السّبعة الّذين يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: (وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ).
3- أين هي مواطن الرّجال؟
أيّها الأحبّة، مواطن الرّجال متعدّدةٌ ومتنوّعةٌ، ليست في ساحات الطّعن والطّعان فقط، وليست في تقحّم الصّفوف ونزال الأعداء فقط، بل من مواطن الرّجال أيضاً هذه المساجد، فقد وصف الله المحافظين على الصّلاة في المسجد بأنّهم رجالٌ، فقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 36].
وكذلك في حديث السّبعة الّذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: (وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ..).
4- الرّجولة ليس لها علاقةٌ بالعمر
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بَيْنَما أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ -حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا- فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: (أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟)، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: (هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟)، قَالاَ: لاَ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: (كِلاَكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ).
5- رجل الثّورة
عباد الله: الرّجال لا يتعلّق وجودهم بزمانٍ أو مكانٍ دون آخر، بل من تمثّل هذه الصّفات في أيّ زمانٍ أو مكانٍ فهو مستحقٌّ "رجل"، وقد فجعنا الله برجلٍ من أولئك هو حارس الثّورة وفارسها "عبد الباسط السّاروت" رحمه الله، فقد كان رجلاً بكلّ معاني الرّجولة، رفض رخاء العيش وسخاءه وهو عليه قادرٌ، وفَضَل أن يبقى في بلاده ثائراً بالحقّ مدافعاً عن الأرض والعِرض، صادقا مع الله في قَسمه ويمينه موفيّاً بعهده الّذي عاهد عليه الله، حتّى قضى في الله نحبه.
وكأنّكم بجهادكم طالوتُ حزتَ الشّهادة أيّها السّاروتُ
غَرفتْ رِجالكَ غرفةً بيمينكم وبها نعيش أعزّةً ونموتُ
عرفتك ساحات الوغى بحُدائكم وبصبركم يُخزى إذاً جالوتُ
أخيراً، بعد أن ذكرنا الرّجولة ومعالمها، فما أحوجنا اليوم أن نتّصف بصفات الرّجولة، وأن نربّي أبناءنا على هذه القيم، فوالله ما ضيّعنا الدِّين إلّا بتضييعنا لصفات الرّجولة، فعندما سقطت الأندلس وقف آخر ملوكها يبكي، فقالت له أمّه:
ابكِ مثلَ النِّساءِ ملُكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثلَ الرِّجالِ
فعلينا التّحلي بصفات الرّجولة وتعليمها لأبنائنا، حتّى نعيد للإسلام صولته كما كان.