1- مفهوم الاصطفاء
2- آيةٌ توضِّح طريق الاصطفاء
3- أسباب الاصطفاء الكسبيّ
4- قبساتٌ من نور المصطفَين
5- حرمان الاصطفاء
مقدمة:
رغم كلّ المآسي الّتي تجرّعناها في ثورة الشّام، ورغم كلّ الجراحات الّتي تثعب دماً من أعماقنا، ورغم كلّ الشّتات الّذي حلّ بأهل الشّام، غير أنّنا نهلنا دروساً وعبر سيسجّلها التّاريخ وتُدرّس في يومٍ من الأيّام للأجيال، وما أكثر العبر الّتي جنيناها ونحن نستشعر قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النّور: 11].
ومن هذه الصّور والعبر نعلم علم اليقين أنّ العبرة باصطفاء الله تعالى، لا بالأسماء ولا الألقاب ولا بالمصطلحات، فكم رأينا شباباً ربّما لا يعجبنا شكلهم الخارجيّ وبعد لحظاتٍ تشمّ منهم عبق الشّهادة وعطر القَبول، لذا لا بدّ من وقفةٍ متأنيّةٍ عن الاصطفاء "اصطفاء الله لا تصنيفات البشر".
1- مفهوم الاصطفاء
الاصطفاء في اللغة تناوُل صَفْوِ الشّيء، وصَفْوَة الشّيء ما صفا وخلص، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم كما تعلمون جميعاً صفْوَة الله من خلقِه؛ من الّذي اصْطفاه؟ المصْطفي الله جل جلاله هو الّذي اصْطفى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجعَلَه صفْوة خلْقِه، والصَّفِيّ هو الحبيب المُصافي، وصافاه مُصافاةً صدَقَه في الإخاء والموَدّة، والعسَل المُصفّى كما تعلمون الّذي أُزيل عنه الشّمع والقذى، واصْطَفَيْت كذا على كذا أيْ اخْتَرت كذا على كذا، وهي بعض معاني الاصْطِفاء في اللغة.
اصْطفى الله بعض عِباده قد يكون بِإيجادِه صافِياً وقد يكون باخْتِياره من بين عِبادِه المُتَفَوِّقين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33].
أيها الإخوة موضوعٌ دقيقٌ دقيقٌ، لو أنّ الله عز وجل خلق في الإنسان الصَّفْوة والخِيرة عن غير قصْدٍ منه وعن غير إرادةٍ واخْتِيارٍ لما كان لِكلمة الاصْطٍفاء معنىً، لكن لِخلْق الله النّاس من نفْسٍ واحدة أيْ من خصائص واحدةٍ ومن جِبِلَّةٍ واحدة ومن فِطرةٍ واحدةٍ ولأنّ الله سبحانه خلق البشر جميعاً من صٍبْغةٍ واحدةٍ وخصائص واحدةٍ وانْطلقوا بِحَسَب اخْتِيارهم وأهْدافِهم، فإنّ الله عز وجل بعد ذلك اصطفى منهم خِيارَهم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33].
وفي الاصْطِفاء هناك جانبٌ كسْبيٌّ وجانِب وهْبيٌّ ولو أنّ الاصْطِفاء كلّه وهْبيٌّ لفَقَد الاصْطِفاء معناه، إذ عندما ينعدم تكافؤ الفُرَص ولم يكن تساوٍ بين المطلوب ولم تتوفّر خصائص مُشْتَركةٌ فالاصْطِفاء لا معنى له، الاصْطِفاء فيه جانِبٌ كسبيٌّ وآخر وهْبيٌّ، فالجانِب الكسبيّ أنّ الله جل جلاله عَلِم من بين خلقِه أكثرهم معْرِفةً وأكثرهم اسْتِقامة وتضْحيَةً وإيثاراً وأكثرهم قرباً وأكثرهم إقْبالاً فاصْطَفاه وجعله نبِيّاً.
2- آيةٌ توضِّح طريق الاصطفاء
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32].
وَعَنِّي بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الَّذِينَ اخْتَرْنَاهُمْ لِطَاعَتِنَا وَاجْتَبَيْنَاهُمْ، وَقَوْلُهُ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}، يَقُولُ: فَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، مَنْ يَظْلِمُ نَفْسَهُ بِرُكُوبِهِ الْمَآثِمَ، وَاجْتِرَامِهِ الْمَعَاصِيَ، وَاقْتِرَافِهِ الْفَوَاحِشَ، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}، وَهُوَ غَيْرُ الْمَبَالِغِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ، وَغَيْرُ الْمُجْتَهِدِ فِيمَا أَلْزَمَهُ مِنْ خِدْمَةِ رَبِّهِ، حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ فِي ذَلِكَ قَصْدًا، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}، وَهُوَ الْمُبَّرَزُ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي خِدْمَةِ رَبِّهِ، وَأَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنْ فَرَائِضِهِ، فَسَبَقَهُمْ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَهِيَ الْخَيْرَاتُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {بِإِذْنِ اللَّهِ}، يَقُولُ: بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: سُبُوقُ هَذَا السَّابِقِ مَنْ سَبَقَهُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الَّذِي فَضَّلَ بِهِ مِنْ كَانَ مُقَصِّرًا عَنْ مَنْزِلَتِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مِنَ الْمُقْتَصِدِ وَالظَّالِمِ لِنَفْسِهِ".
"وَقِيلَ: قُدِّمَ الظَّالِمُ لِكَثْرَةِ الْفَاسِقِينَ مِنْهُمْ وَغَلَبَتِهِمْ وَأَنَّ الْمُقْتَصِدِينَ قَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ، وَالسَّابِقِينَ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: قُدِّمَ الظَّالِمُ لِتَأْكِيدِ الرَّجَاءِ فِي حَقِّهِ، إذ ليس له شي يَتَّكِلُ عَلَيْهِ إِلَّا رَحْمَةَ رَبِّهِ. وَاتَّكَلَ الْمُقْتَصِدُ عَلَى حُسْنِ ظَنِّهِ، وَالسَّابِقُ عَلَى طَاعَتِهِ. وَقِيلَ: قدم الظّالم لئلّا ييئس مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأُخِّرَ السَّابِقُ لِئَلَّا يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّادِقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "قُدِّمَ الظَّالِمُ لِيُخْبِرَ أَنَّهُ لَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ إِلَّا بِصَرْفِ رَحْمَتَهُ وَكَرَمَهُ، وَأَنَّ الظُّلْمَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الِاصْطِفَائِيَّةِ إِذَا كَانَتْ ثَمَّ عِنَايَةٌ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمُقْتَصِدِينَ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، ثُمَّ خَتَمَ بِالسَّابِقِينَ لِئَلَّا يَأْمَنَ أَحَدٌ مَكْرَ اللَّهِ، وَكُلُّهُمْ فِي الجنة بِحُرْمَةِ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ:" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ: "جَمَعَهُمْ فِي الِاصْطِفَاءِ إِزَالَةً لِلْعِلَلِ عَنِ الْعَطَاءِ، لِأَنَّ الِاصْطِفَاءَ يُوجِبُ الْإِرْثَ، لَا الْإِرْثُ يُوجِبُ الِاصْطِفَاءَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ: صَحِّحِ النِّسْبَةَ ثُمَّ ادَّعِ فِي الْمِيرَاثِ".
3- أسباب الاصطفاء الكسبيّ
حبّ الله تعالى: عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
قال الإمام ابن حجر: "وَفِيهِ أَنْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ ارْتِكَابِ النَّهْيِ وَثُبُوتِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَلْبِ الْمُرْتَكِبِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ وُجُودِ مَا صَدَرَ مِنْهُ وَأَنَّ مَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ لَا تُنْزَعُ مِنْهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَأْكِيدُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ عَنْ شَارِبِ الْخَمْرِ لَا يُرَادُ بِهِ زَوَالُهُ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ نَفْيُ كَمَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِمْرَارُ ثُبُوتِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَلْبِ الْعَاصِي مُقَيَّدًا بِمَا إِذَا نَدِمَ عَلَى وُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَكَفَّرَ عَنْهُ الذَّنْبَ الْمَذْكُورَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ بِتَكْرَارِ الذَّنْبِ أَنْ يُطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يُسْلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ".
التّواضع والافتقار لله تعالى: ففي باب فضل ضعفة المسلمين وفقرائهم حديث حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الخُزَاعِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ).
الأشعث هو الّذي قد تفرّق شعره، ولم يرجِّله، فصار شعره منتفشاً، غير مهذّبٍ، ولا مرتّبٍ، ولا مرجَّلٍ، أشعث، وهذا يقال كثيراً لمن قدم من سفرٍ، قديماً في الأسفار كانت شعورهم طويلة، فيقدم الإنسان، ولم يرجّل شعره، فيأتي كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟).
فالمقصود أن الشَّعَث يكون في شعر الرّأس، أشعث أغبر وذلك لا يختصّ بالرّأس، وإنّما بعموم البدن، يعني: أنّ هذا الإنسان يظهر عليه الضّعف، ويظهر عليه الرّثاثة، وليس له هيئة، ولا لباسٌ حسنٌ، ولا مظهر حسن، وإنّما يحتقره النّاس ويزدرونه؛ (مدفوعٍ بالأبواب)، هذه كأنّها نتيجةٌ لما ذكر؛ لأنّ النّاس إذا رأوا الإنسان بهذه الهيئة، أشعث أغبر، انقبضوا منه ولم يحفلوا به إطلاقاً، (لو أقسم على الله لأبرّه)، فهو له منزلةٌ عند الله تبارك وتعالى، لأنّ منزلة الإنسان بما يحمله من التّقوى لله عز وجل، وأمّا المظهر فإنّه لا يحفل به، ولا يدلّ على شيءٍ في ميزان الله عز وجل، وإنّما الواجب هو إصلاح القلب، وإصلاح العمل، فإذا استقام الإنسان على أمر الله عز وجل ظاهراً وباطناً فإنّه تعلو مرتبته، ويعلو قدره، وعلى قدر استقامته على قدر ما يكون له من المنزلة، وعلوّ الدّرجة عند الله عز وجل، وهذا قد بلغ به أن صار بهذه المثابة: لو أقسم على الله لأبرّه: أي دعاه، لأبرّه: أي لأجابه، أي أنّه مجاب الدّعوة.
وبالمقابل قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ: اقْرَءُوا: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]).
4- قبساتٌ من نور المصطفَين
زاهرٌ باديتنا ونحن حاضروه: عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ). وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا، فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا وَاللهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ) أَوْ قَالَ: (لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ).
لكنّني أفتقد جليبيباً: من الأمور الّتي أكّدت عليها السّنّة النّبويّة: أنّ ميزان الرّجال لا يكون بالحسب والنّسب، أو المال والمنصب، أو الصّور والمناظر، ولكن بتقوى الله والعمل الصّالح، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى).
ومن المواقف النّبويّة الدّالة على أنّ الميزان الصّحيح الّذي يوزن به الرّجال هو الدِّين والتّقوى: موقفه صلى الله عليه وسلم مع صحابيٍّ فقيرٍ اسمه (جليبيب)، ليس من أعلام وكبار الصّحابة، ومع ذلك قال عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ).
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّ جُلَيْبِيبًا كَانَ امْرَأً يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ، يَمُرُّ بِهِنَّ وَيُلَاعِبُهُنَّ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ جُلَيْبِيبٌ؛ فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ، لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ. قَالَ: وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا حَاجَةٌ؟ أَمْ لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: (زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ)، فَقَالَ: نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنُعْمَ عَيْنِي، قَالَ: (إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي)، قَالَ: فَلِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لِجُلَيْبِيبٍ)، قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُشَاوِرُ أُمَّهَا فَأَتَى أُمَّهَا فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ ابْنَتَكِ، فَقَالَتْ: نِعِمَّ وَنُعْمَةُ عَيْنِي، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ، فَقَالَتْ: أَجُلَيْبِيبٌ إنية؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنية؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنية؟ لَا لَعَمْرُ اللَّهِ لَا نُزَوَّجُهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ لِيَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيُخْبِرَهُ بِمَا قَالَتْ أُمُّهَا: قَالَتِ الْجَارِيَةُ: مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا فَقَالَتْ: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ؟ ادْفَعُونِي؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي، فَانْطَلَقَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: شَأْنَكَ بِهَا فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ لَهُ، قَالَ: فَلَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: (هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟)، قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا وَنَفْقِدُ فُلَانًا، قَالَ: (انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟)، قَالُوا: لَا، قَالَ: (لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا)، قَالَ: (فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى)، قَالَ: فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: (قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَاعِدَيْهِ وَحُفِرَ لَهُ مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَّلَهُ.
5- حرمان الاصطفاء
من أخطر أسباب حرمان الاصطفاء هو التّكبّر وما ينتج عنه من عدم قبول الحقّ ومن ازدراء النّاس، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: (إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ) وَقَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا: (اخْتَصَمَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، قَالَتِ النَّارُ: يَلِجُنِي الْجَبَّارُونَ، وَيَلِجُنِي الْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: يَلِجُنِي الضُّعَفَاءُ، وَيَلِجُنِي الْفُقَرَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا).
ختاماً:
ما أجمله من دينٍ لا ينتقي أتباعه على أساسٍ من الشكل ولا المظّاهر ولا البهارج ولا الأسماء ولا المصطلحات، وإنّما بما يمتلئ قلب المتّبع من حبٍّ ووفاءٍ وتواضعٍ وانكسارٍ وافتقارٍ لله تعالى، الله يجتبي إليه من يشاء، وقد لخّص لنا هذا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ).