1- مفهوم العبادة
2- ترابط العبادة والعبوديّة
3- نعبده لأنّه الإله الّذي يستحقّ العبادة
4- نعبده لنتقرّب إليه فيحبّنا
5- العبادة سعادة الدّارين
مقدمة:
في عالمٍ طغت فيه المادّياّت وأقامت حجاباً على القلب من الرّان، وكثُر الإعراض والشّرود عن باب الله تعالى، في حين كان ينبغي علينا ونحن نُضطهد صباح مساء أن نرجع إلى الله تعالى، متمسّكين بسرِّ وعلّة وجودنا، منتظرين من خلال هذا القُرب فرجاً ومخرجاً ممّا نحن فيه.
لذلك سينطوي الحديث مع الغاية الّتي من أجلها خُلقنا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56].
1- مفهوم العبادة
تُعرّف العبادة في اللغة بأنّها: مصدر عَبَدَ، وعَبَدْتُ اللهَ أَعْبُدُهُ عِبَادَةً؛ أي بمعنى الانقِيَادُ وَالخُضُوع، ومنها العَابِدُ، وَالْجَمْعُ عُبَّادٌ وَعَبَدَةٌ، وَالعَبْدُ خِلَافُ الحُرِّ، وَهُوَ عَبْدٌ بَيِّنُ العَبْدِيَّةِ وَالعُبُودَةِ وَالعُبُودِيَّةِ، وجمعها أَعْبُدٌ وَعَبِيدٌ وَعِبَادٌ، ويُقال: أَعْبَدْتُ زَيْدًا فُلَانًا؛ أي مَلَّكْتُهُ إيَّاهُ لِيَكُونَ لَهُ عَبْدًا، وَاسْتَعْبَدَهُ وَعَبَّدَهُ بِالتَّثْقِيلِ؛ أي اتَّخَذَهُ عَبْداً.
ومن أجمل وأدقّ تعاريفها اصطلاحاً؛ ما عرّفها به فضيلة الدّكتور محمّد راتب النّابلسي: "طاعةٌ طوعيّةٌ، ممزوجةٌ بمحبّةٍ قلبيّةٍ، أساسها معرفةٌ يقينيّةٌ، تُفضي إلى سعادةٍ أبديّةٍ".
فالعبادة أن تعرف الله أولّاً، وأن تطيعه ثانياً، وأن تسعد بقربه ثالثاً.
وبعبارةٍ أخرى: في الإسلام كلّيّاتٌ ثلاث: كلّيّةٌ معرفيّةٌ، وكلّيّة سلوكيّةٌ، وكلّيّة جماليّةٌ.
تتعرّف على الله تعالى؛ فتطيعه، فتسعد بقربه في الدّنيا والآخرة.
إذاً فالعبادة تشمل الحياة بأسرها، فحياة المؤمن كلّها عبادةٌ إن صحّت النّيّة وكان العمل موافقاً لهدي سيّد البريّة صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
وقد جاء في الحديث الصّحيح توضيحٌ لشمول العبادة كلّ مناحي الحياة، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: (أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ).
من الناس صنفٌ يفهم العبادة فهماً مبتوراً ناقصاً جزئيّاً؛ فالعبادة عنده لا تتجاوز الشّعائر كالصّلاة والصّيام والحجّ والزّكاة، فهو يصلّي في المسجد، ويصوم رمضان، لكن ما إن خرج من المسجد حتّى ترى شخصيّةً أخرى متباينةً تماماً.
ترى إنساناً يتحايل على خلق الله، يأكل الربا، يرضى بقطع الرّحم وبهجر والديه وبأذيّة جيرانه وغير ذلك.. كلّ ذلك لأنّه فهم العبادة فهماً ناقصاً مبتوراً، إذاً العبادة قسمان: شعائريّةٌ وتعامليّةٌ، ولا تتمّ واحدةٌ إلّا بأختها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208].
2- ترابط العبادة والعبوديّة
مقام العبوديّة أبلغ مقامٍ، لذا وصف الله تعالى به حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
وجعل العبوديّة وصفاً لأكمل خلقه وأقربهم إليه ابتداءً من الحبيب المصطفى في رحلة المعراج، وقال عن عيسى عليه السّلام: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النّساء: 172].
وقال عن الملائكة الكرام: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: ٢٠٦].
وقال عمّن تقربوا إليه بالعبوديّة: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
تدرّجوا في العبادة حتّى نالوا وصف العبوديّة، ففي الحديث القدسيّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ).
فالعبادة سلّمٌ يترقّى العبد من خلاله حتّى يتوصّل إلى العبوديّة، يقول ابن القيّم: "فَأَوَّلُ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ الْيَقَظَةُ وَهِيَ انْزِعَاجُ الْقَلْبِ لِرَوْعَةِ الِانْتِبَاهِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ، وَلِلَّهِ مَا أَنْفَعَ هَذِهِ الرَّوْعَةَ، وَمَا أَعْظَمَ قَدْرَهَا وَخَطَرَهَا، وَمَا أَشَدَّ إِعَانَتَهَا عَلَى السُّلُوكِ! فَمَنْ أَحَسَّ بِهَا فَقَدْ أَحَسَّ وَاللَّهِ بِالْفَلَاحِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْغَفْلَةِ فَإِذَا انْتَبَهَ شَمَّرَ لِلَّهِ بِهِمَّتِهِ إِلَى السَّفَرِ إِلَى مَنَازِلِهِ الْأُولَى، وَأَوْطَانِهِ الَّتِي سُبِيَ مِنْهَا.
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ
فَأَخَذَ فِي أُهْبَةِ السَّفَرِ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَنْزِلَةِ الْعَزْمِ وَهُوَ الْعِقْدُ الْجَازِمُ عَلَى الْمَسِيرِ، وَمُفَارَقَةُ كُلِّ قَاطِعٍ وَمُعَوِّقٍ، وَمُرَافَقَةُ كُلِّ مُعِينٍ وَمُوَصِّلٍ، وَبِحَسَبِ كَمَالِ انْتِبَاهِهِ وَيَقَظَتِهِ يَكُونُ عَزْمُهُ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ عَزْمِهِ يَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ".
فالعبادة تُكتسب، ووصف العبوديّة يُوهب.
3- نعبده لأنّه الإله الّذي يستحقّ العبادة
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ، يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، قَالَ: فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟) قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ، قَالَ: (لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا).
وممّا زادني شرفاً وتيهاً وكدتُ بأخمصي أطأُ الثّريّا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرتَ أحمد لي نبيّا
كيف لا نتقرّب إليه بالعبادة وهو الإله الّذي يستحقّ العبادة وحده؟!
ليس بمستنكرٍ أن يكون لله حقٌّ على عباده، وإنّما المستنكر أن لا يتفنّن العبد كيف يتقرّب بالعبادة إلى الله تعالى، وإنّما المستغرب أن يجحد المخلوق حقّ الخالق العظيم.
إنّ من أكبر الجحود والجفاء أن يأسر إنساناً إحسانُ من أحسن إليه من البشر، وأن ينسى إحسان وإنعام خالق البشر.
انظر إلى الكون كلّه لتتعرف على عظمة الله تعالى لتعبده، لتتعرّف عليه فتحبّه، انظر إلى الكون من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، لتتعرّف على الله بكلّ كيانك، بكلّ ذرّةٍ منك؛ لتحبّ الله من أعماق قلبك، ليتغلغل هذا الحبّ من بين جوانحك لتهتاج مشاعرك وجوارحك، فتعبد الله وأنت في غاية الذّلّ وفي غاية الحبّ لله تعالى.
أيّها العبد: يَدُ من الّتي رفعت السّماء بلا عمد؟
يد من الّتي زيّنت السّماء بالنّجوم والكواكب؟
يد من الّتي بسطت الأرض وأرستها بالجبال؟
يد من الّتي أجرت البحار والأنهار؟
يد من الّتي أبدعت في الزّهور والأشجار والثّمار؟
يد من الّتي أظهرت الإنسان في أبهى صورةٍ وأحسن تقويمٍ؟
لله فـي الآفـاق آيـاتٌ لـعـلّ أقلّهـا هـو مـا إليـه هــداكَ
ولعلّ ما في النّفس مـن آياتـه عجبٌ عجابٌ لـو تـرى عينـاكَ
والكـون مشحـونٌ بأسـرارٍ إذا حاولْـتَ تفسيـرًا لهـا أعيـاكَ
قل للطّبيب تخطَّفتـه يـد الـرّدى مـن يـا طبيـب بطبِّـه أرْدَاك؟
قل للمريض نجا وعُوفيَ بعد مـا عجزت فنون الطب من عافـاكَ؟
قل للصّحيح يموت لا مـن علـّةٍ من بالمنايا يا صحيـح دهـاكَ؟
واسأل بطون النَّحل كيف تقاطرت شهدًا وقل للشّهـد مـن حـلاَّكَ؟
قل للهواء تحثُّه الأيـدي ويخفـى عن عيون النّاس مـن أخفـاكَ؟
وإذا رأيت البدر يسـري ناشـرًا أنـواره فاسألـه مـن أسْـرَاكَ؟
وإذا ترى الجبل الأشَـمَّ مناطحًـا قمَمَ السَّحاب فسَلْه من أرسـاكَ؟
ستجيب ما في الكون من آياتـه عجبٌ عجابٌ لـو تـرى عينـاكَ
هذا الإله العظيم ألا يستحقّ أن يُعبد؟
إنّ الحلق ليجفّ، وإنّ الفؤاد ليتمزّق، وإن اللسان ليتبعثر، وإنّ الكلمات لتتوارى على خجلٍ واستحياءٍ من الحليم الكريم الّذي متّعنا بكل هذا ونحن نجحده! ونحن نتفنّن بالتّهرب من الأوامر! يرانا على المعاصي فيسترنا، يرى جحودنا لنعمه فلا يحرمنا، يعرض التّوبة على أشقى أشقياء الأرض {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} [طه: 44].
إذا كانت هذه رحمتك بمن قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}، فكيف رحمتك بمن قال في سجوده: سبحان ربّي الأعلى، وإذا كانت هذه رحمته بمن قال {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي}، فكيف بمن قال موقناً من قلبه: لا إله إلا الله؟
لذا قال الإمام الألوسيّ في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: "العبادة أعلى مراتب الخضوع، ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً فعلها إلّا لله تعالى؛ لأنّه المستحق لذلك لكونه مولياً لأعظم النّعم من الحياة والوجود وتوابعهما".
4- نعبده لنتقرّب إليه فيحبّنا
العبادة غذاءٌ لأرواحنا، فبدونها تموت الأرواح وتضعف القلوب.
"وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ، وَهِيَ الْمَنْزِلَةُ الَّتِي فِيهَا تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَإِلَيْهَا شَخَصَ الْعَامِلُونَ، وَإِلَى عِلْمِهَا شَمَّرَ السَّابِقُونَ، وَعَلَيْهَا تَفَانَى الْمُحِبُّونَ، وَبِرُوحِ نَسِيمِهَا تَرَوَّحَ الْعَابِدُونَ، فَهِيَ قُوتُ الْقُلُوبِ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ، وَقُرَّةُ الْعُيُونِ، وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي مَنْ حُرِمَهَا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ، وَالنُّورُ الَّذِي مَنْ فَقَدَهُ فَهُوَ فِي بِحَارِ الظُّلُمَاتِ، وَالشِّفَاءُ الَّذِي مَنْ عَدِمَهُ حَلَّتْ بِقَلْبِهِ جَمِيعُ الْأَسْقَامِ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي مَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا فَعَيْشُهُ كُلُّهُ هُمُومٌ وَآلَامٌ".
فبالاستجابة لنداء الله تعالى وبتحقيق العبادة له سبحانه؛ يتدرج العبد بتحقيق القرب والاتّصال بالله الواحد الأحد ليحصل على محبّة الله تعالى، ففي الحياة أُنسٌ وأمنٌ وطمأنينةٌ، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82].
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النّحل: 97].
وأمّا في الآخرة: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35].
وما أحسن ما قاله الشّيخ الشّعراويّ رحمه الله: "لا تعبدوه ليعطي، بل اعبدوه ليرضى، فإذا رضي أدهشكم بعطائه".
5- العبادة سعادة الدّارين
فيا من غرّه علمه أو جاهه أو ماله، أنسيت أصلك؟ أنسيت نفسك؟ أنسيت أنّك كنت في العدم لا تُذكر؟ تعرّف على ربّك الرّحمن الرّحيم الكريم الحليم؛ الّذي خلقك فسوّاك فعدلك، حتّى تعبده وتتقرّب إليه فيسعدك سعادة الدّارين، بعبادته يؤتيك الطّمأنينة والسّكينة والحكمة ورغد العيش، وفي الآخرة: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التّوبة: ٧٢].
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا).