1- ويمكرون ويمكر الله
2- عناية الله بك تنقذك من كلّ المخاطر
3- قصّتان ركّزت عليهما سورة القصص
4- قيمٌ وقوى وحقائق أشارت لها السّورة
5- موقف سيّدنا موسى عليه السلام مع الفتاتين
مقدمة:
كلّما اشتدّت الخطوب، وكثرت الابتلاءات، وعظمت الكروب، وكاد القنوط أن يتسلّل إلى القلوب؛ كلّما أصبحت الحاجة ماسّةً إلى تدبّر كتاب الله تعالى، ليتبيّن الإنسان من خلاله سنّة الله في هذا الكون، وسنن الله لا تتبدّل ولا تتغيّر، ووجب عليه أن يتدبّر الآيات الّتي تحدّثت عن أحوال الأمم الغابرة، ليأخذ العبر والعظات المستفادة من قصصها، ولعلّنا نعيش مع سورةٍ من سوره، فيما يخصّ واقع الأمّة اليوم، خصوصاً أنّ هذه السّورة نزلت والمسلمون مستضعفون محاصرون مضطهدون، والمشركون متكبّرون مغرورون بقوّتهم وعتادهم، فكان من الحكمة الإلهيّة أن تنزل هذه السّورة لتضع الميزان الحقيقيّ للقوى والنّصر والعاقبة، ولتبيّن أنّ قوّة الله فوق كلّ قوّةٍ، فما أعظم هذه السّورة؟! وما أشدّ حاجة النّاس إليها في كلّ وقت؟! وخاصّةً في زمن الضّعف والقلّة، أتدرون ما هذه السّورة؟! إنّها سورة القصص.
1- ويمكرون ويمكر الله
إنّ مِن دهاء ومكر العدوّ أو الحاكم الظّالم أن يجعل أهل الدّولة الّتي يتسلّط عليها شِيَعاً، ويستعين بإحداهنّ على الأخرى، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
وهذا الدّيدن تجده اليوم في تسلّط العدوّ على بلاد المسلمين، وكيف استفاد من جعل أهلها شِيَعاً فاستضعفوا طائفةً على حساب قوّة طوائف أخرى، ولكنّ الله تعالى لهم بالمرصاد، حيث ينصر عباده المستضعفين، ويخذل الكافرين، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5-6].
ولو تدّبرنا الأفعال الّتي أتت في هذه الآيات: (نُرِيدُ، نَّمُنَّ، نَجْعَلَهُمْ، نُمَكِّنَ لَهُمْ) لوجدناها على صيغةٍ واحدةٍ وهي الفعل المضارع المبدوء بنون العظمة والدّال على الاستقبال، وفيها إشارةٌ إلى الاختيار الإلهيّ المحض لهؤلاء القوم في أن ينصرهم الله ويمكّنهم ممّن اضطهدهم وآذاهم، ولكن ترى متى تحققّ لهم ذلك؟ لقد عاشوا أوّل أمرهم مضطهدين من فرعون وقومه، ثمّ أنقذهم الله بموسى وهارون عليهما السّلام، ولكنّ ذلك الجيل الّذي عاش حياة الذّلّ لمّا يتأدّب بأدب النّبوة، ويتربّى بتربية الرّسالة الموسويّة، إذ لمّا طلب منهم -بعد خروجهم من مصر- أن يدخلوا الأرض المقدّسة الّتي كتبها الله لهم، تردّدوا وراجعوا موسى في ذلك حتّى انتهى بهم الأمر إلى أن يقولوا: {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].
فيا للخزي والعار لقومٍ يقولون لنبيّهم هذا القول! فهذا يبيّن لنا أنّ هذا الجيل المهزوم لم يكن له شرف حمل الرّسالة، والحصول على الأرض المقدّسة الّتي كتبها الله لهم فترةً من الزّمن، فضرب الله عليهم عقوبته بالتّيه في صحراء سيناء أربعين سنةً عاشوا فيها، فمات من مات من جيل الهزيمة، وولد جيلٌ عاش شظف العيش فكان الفتح على يديه، فانظر كم هو الفرق بين الوعد وتحقيقه؟ ولكنّ النّاس يستعجلون النّصر.
وإذا تأمّلنا واقعنا اليوم وجدنا أنفسنا أنّنا نعيش شيئا من واقع تلك الأمّة المخذولة الّتي ضرب عليها التّيه، واستكانت للرّاحة والدّعة، وكرهت معالي الأمور الّتي لا تأتي إلّا بعد الكدّ والجهد والتّعب، وجدنا أنفسنا نقنع بالدّون والهوان، والله غالبٌ على أمره، والأمر كما قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [سورة محمّد :38].
ولن يأتي ذلك إلّا بالتّغيير كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرّعد:11].
فإذا حصل ذلك جاء الجيل المحبوب عند الله تعالى، الّذي أشار الله سبحانه إليه بقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة :54]، المستحقّ للنّصر من الله تعالى.
2- عناية الله بك تنقذك من كلّ المخاطر
كم هي العبر والعظات الّتي توقفنا عليها هذه الآية العظيمة، الّتي احتوت على أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، ألا وهي قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
لقد جاء الولد المختار الّذي سيكون هلاك فرعون وقومه على يديه من بني إسرائيل، ولقد جاء وهم يقتلون الأبناء كلّهم، فانظر لطف الله ورعايته ودقيق قدَره في تخليص موسى من القتل! أرأيت لو كنت متجرّداً من معرفة هذا الخبر وقيل لك: إنّ امرأةً وضعت ابنها في تابوتٍ، وألقته في النّهر تريد له الأمان، أفكنت ترى ذلك من العقل والحكمة في شيء؟ إنّ هذا الموضوع لو عرض عليّ وعليك لقلنا: إنّه مجانبٌ للعقل والحكمة، ولكنّ الّذي أمر بذلك هو من يعلم السرّ وأخفى، فألقته أمّه في اليمّ، وسار التّابوت برعاية الله تعالى له، فهو الذي أمر، فأنّى لمخلوقٍ أن يؤذي هذا الرّضيع وتابوته يتهادى بين مياه النّهر؟! وإنّ في قوله تعالى: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
بشارتين، جاءتا مؤكّدتين تأكيداً بليغاً يتناسبان مع موقف تلك الأمّ المفطورة على ولدها، ويا لقلب تلك المرأة المسكينة الّتي ألقت ابنها في اليمّ، وأصبح قلبها خاوياً من كلّ شيءٍ سوى ذكر موسى، فكادت -ولم تفعل- أن تخبر بأنّه ابنها وليكن ما يكن، ولكنّ لله أمراً لا بدّ أن يمضي على تقديره، فربط على قلب الأمّ فثبّتها وصبّرها، ثمّ بدأت تفعل الأسباب حتى تحقّق وعد الله لها، فيالها من فرحةٍ عاشتها أمّ موسى! وهنيئاً لها البشارة الثّانية بالرّسالة، وإنّها لبشارةٌ ورسالةٌ لكلّ أمٍّ مكلومةٍ فقدت ولدها بأن تعلّق قلبها بالله وحده، وألّا تيأس وإن طال الفراق بينها وبين ولدها، فإنّ الفرج قريبٌ، وربّي على كل شيءٍ قديرٌ.
3- قصّتان ركّزت عليهما سورة القصص
قصّتان تحدّثت عنهما السّورة بالتفصيل، وهما: قصّة موسى وفرعون في البدء، وقصّة قارون مع قومه -قوم موسى- في الختام، فأمّا القصّة الأولى فإنّها تعرض قوّة الحكم والسّلطان، قوّة فرعون الطّاغية المتجبّر المتغطرس، وفي مواجهتها موسى طفلاً رضيعاً لا حول له ولا قوّة، ولا ملجأ له ولا وقاية، وقد علا فرعون في الأرض واتّخذ أهلها شيعاً، واستضعف بني إسرائيل يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وهو قابضٌ على أنفاسهم مراقبٌ لحركاتهم، كشأن الطّغاة في كلّ عصرٍ ومصرٍ، بيد أنّ قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته لم تكن لتغني عنه من الله شيئاً، بل لم تكن لتمكّن له من موسى الطّفل الصّغير المجرّد من كلّ قوةٍ وحيلةٍ، إذ هو في حراسة القوّة الحقيقيّة الوحيدة، ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السّوء، وتعمي عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنوده تحدّياً سافراً فتدفع به إلى حجره، وتقتحم عليه عرشه، بل دخل حبّه قلب امرأته، وفرعون مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه.
وقد ذكر الله تعالى في هذه السّورة قصّة موسى وفرعون ليبيّن للنّاس أين يكون الأمن، وأين تكون المخافة، ويعلّمهم أنّ الأمن يكون في جوار الله ولو فقدت كلّ أسباب الأمن الظّاهرة الّتي تعارف عليها النّاس، وأنّ الخوف إنّما يكون في البعد عن ذلك الجوار، ولو تظاهرت أسباب الأمن الظّاهرة الّتي تعارف عليها النّاس، فإذا كان الله معك فمن عليك؟! وإذا كان عليك فمن معك؟! وإنّه لدرسٌ عظيمٌ يستفيده المسلم في كلّ عصرٍ وحينٍ أنّ الله تعالى يحفظ عباده المؤمنين ويخذل الكافرين، ولقد ساق لهم قصّة قارون أيضاً لتقرّر هذه الحقيقة في صورةٍ أخرى وتؤكّدها، وما ينتفع بالآيات إلّا المؤمنون، قال تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 3].
والقصّة الثّانية تعرض قيمة المال ومعها قيمة العلم، المال الّذي يستخّف القوم، وقد خرج عليهم قارون في زينته، وهم يعلمون أنّه أوتي من المال ما إنّ مفاتحه لتعيي الأقوياء من الرّجال، والعلم الّذي يعتزّ به قارون ويغترّ، ويحسب أنّه بسببه وعن طريقه أوتي ذلك المال، ولكنّ الّذين أوتوا العلم الصّحيح من قومه لا تستخفّهم خزائنه ولا تستخفّهم زينته، بل يتطلّعون إلى ثواب الله تعالى، ويعلمون أنّه هو خيرٌ وأبقى، ثمّ تتدخّل يد الله وتخسف به وبداره الأرض، ولا يغني عنه ماله وعلمه، وتتدخل تدخّلاً مباشراً كما تدّخلت في أمر فرعون، فألقته في اليمّ هو وجنوده فكانوا من المغرقين.
ولقد دلّت القصّتان على أنّه في كل وقتٍ حينما يسود الشرّ والفساد، ويقف الخير عاجزاً والصّلاح حسيراً، ويُخشى من الفتنة بالمال والفتنة بالبأس، عندئذٍ تتدخّل يد القدرة متحدّيةً بلا مانعٍ من الخلق، ولا سببٍ من قوى الأرض، لتضع حدّاً للشّرّ والفساد، وهذا من أعظم المقاصد التي تقرره هذه السّورة.
وبين القصّتين يجول السّياق مع المشركين جولاتٍ يبصّرهم بمصارع الغابرين، وغيرها من سنّة الله التي لا تتبدّل على مدار الأزمان واختلاف المكان.
4- قيمٌ وقوى وحقائق أشارت لها السّورة
يقول سيّد قطب رحمه الله، ملخّصاً مقاصد هذه السّورة: "هذه السّورة مكّيّةٌ، نزلت والمسلمون في مكّة قلّةٌ مستضعفةٌ، والمشركون هم أصحاب الحول والطّول والجاه والسّلطان، نزلت تضع الموازين الحقيقيّة للقوى والقيم، نزلت تقرّر أنّ هناك قوّةً واحدةً في هذا الوجود، هي قوّة الله؛ وأنّ هناك قيمةً واحدةً في هذا الكون، هي قيمة الإيمان، فمن كانت قوّة الله معه فلا خوف عليه، ولو كان مجرّداً من كلّ مظاهر القوّة، ومن كانت قوّة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى؛ ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كلّه، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلاً".
ولقد تحدّثت هذه السّورة عن كثيرٍ من الحقائق من خلال تفصيل ما أُجمل في سورة النّمل من قوله سبحانه: {إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النّمل:7].
ففصلّت سورة القصص كيف سار موسى وأهله، وأين آنس النّار، ووصفت المكان الّذي نودي فيه بالوحي، ومن ثمّ ذكرت دعوة موسى فرعون، فكانت هذه السّورة أوعب لأحوال نشأة موسى إلى وقت إبلاغه الدّعوة، ثمّ أجملت ما بعد ذلك، وكان من مقاصد السّورة تحدّي المشركين بعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو أمّيٌّ لم يقرأ ولم يكتب ولا خالط أهل الكتاب، ذيّل الله ذلك بتنبيه المشركين إليه، وتحذيرهم من سوء عاقبة الشّرك وأنذرهم إنذاراً بليغاً.
وقد أومأت السّورة إلى وقت اقتراب هجرة المسلمين إلى المدينة، وإلى أنّ الله مظهرهم على المشركين بقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
ثمّ إنّها قرّرت سنّةً اجتماعيّةً وهي إهلاك المشركين بعد الإعذار والإنذار، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
وألمحت السّورة أيضاً إلى أنّ البطر وعدم الشّكر عاقبته الهلاك، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58].
وهذا كلّه من السّنن الّتي لا تتخلّف.
وختمت السّورة بوعدٍ من الله لرسوله الكريم، وهو مخرجٌ من مكّة مطارداً من المشركين بأنّ الّذي فرض عليه القرآن لينهض بتكاليفه، لا بدّ رادّه إلى بلده، ناصره على الشّرك وأهله، وقد أنعم عليهم بالرّسالة، ولم يكن يتطّلع إليها وسينعم عليه بالنّصر والعودة إلى البلد الّذي أخرجه منه المشركون، سيعود آمناً ظافراً مؤيّداً.
5- موقف سيّدنا موسى عليه السلام مع الفتاتين
استعانة موسى عليه السّلام بربّ الأرباب بعد أن انقطعت به الأحوال {قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22].
ترشد المسلم أن يستعين بالله أوّلاً وآخراً، ولقد حثّنا على ذلك رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَإِذَا اسْتَعَنْتَ، فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ).
ولمّا استعان موسى بربّه عز وجل هيّأ الله له أسباب الفرج من حيث لا يشعر، فقد جعل الحاجة الماسّة للسّقاء لتخرج الفتاتان وتقولان: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
وهذا درسٌ لنسائنا أن يتعلّمن عدم الخروج من المنزل إلّا لحاجةٍ كتعليمٍ أو عملٍ أو غيره من الضّرورات، فلقد قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً النّساء: (عَلَيْكُنَّ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّهُ جِهَادُكُنَّ).
وهنا سأل موسى الفتاتين عن سبب ابتعادهما عن النّاس فقالتا: {لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
امتنعتا عن مسارعة السّقاء حتّى لا تختلطا بالرّجال، لما في اختلاط النّساء بالرّجال من ضررٍ وإثارة الفتن.
وإنّ سبب ذكرهما أنّ أباهما شيخٌ كبيٌر، هو استرحامٌ واستعطافٌ لموسى حتّى يساندهما، وبالفعل لقد ساندهما موسى بكلّ ما أوتي من قوّةٍ مع ضعفٍ في تلك الحالة بعد السّفر الطّويل من مصر إلى مدين.
فكم من ضعيفٍ مكلومٍ استرحمك واستعطفك يوماً بعد آخر وصرفت النّظر عنه؟!
وتوقفنا قصّة هاتين الفتاتين على أهمّيّة حياء المرأة، وأن حياءها هو جمالها، وأنّ عفافها هو زينتها وغناها، وبدونهما تفقد المرأة بشاشتها وزينتها، وإن وضعت مساحيق الأرض على وجهها، {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25].
فوجب على المرأة المؤمنة التّقيّة العفيفة أن تمشي وتتكلّم وتتعامل بحياءٍ كاملٍ في حياتها.
ثمّ تلفت القصّة انتباهنا إلى أمرٍ عظيمٍ؛ ألا وهو: عندما تجتمع قوّة الرّجل مع أمانته يحصل المطلوب قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
ولكن وللأسف في زماننا كم من شابٍّ قويٍّ فتيٍّ خائنٍ لربّه وعمله؟!
وتختتم القصّة بدرسٍ عظيمٍ مفاده أنّ الفرج يأتي بعد الصّبر، فلقد صبر موسى عليه السلام ثماني سنواتٍ على العمل والرّعاء كمهرٍ للفتاة، قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27-28].
وهذا من ناحيةٍ أخرى يدلّ على عظم شأن الزّواج وفضيلته، فلقد قال صلى الله عليه وسلم: (وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
ختاماً: على الأمّة الإسلاميّة أن تأخذ العبرة من أحوال الأمم السّابقة، وأن تحذر من الوقوع في مثل ما وقعت فيه، حتّى لا تُسلب منهم الخلافة في الأرض، وللأسف فإنّنا نرى أنّ المسلمين لمّا فعلوا مثل فعل بني إسرائيل، وطرحوا منهج الله وشريعته، وحكّموا أهواءهم وشهواتهم، ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل من الفُرقة والضّعف والذّلة والهوان والشّقاء والتّعاسة، ولا خلاص لهم من ذلك إلّا إن استجابوا لله ولرسوله، وخضعوا لشريعته وكتابه، وأخذوا الدّروس والعبر من هذه الابتلاءات الّتي حلّت بهم، فانتفعوا بها، وجازوا الاختبارات، وخافوا فطلبوا الأمن، وذلّوا فطلبوا العزّة، وكلّ ذلك يفعلوه بالوسائل الّتي أرادها الله تعالى، وبشروطه الّتي قرّرها، حتّى يتحقق وعده الّذي لا يتخلّف، حيث لا تقف في طريقه قوّةٌ من قوى الأرض مهما كانت، فهو الّذي يقول: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحجّ: 40].
ألا إنّ الوعد قائمٌ، والشّرط واضحٌ وقائمٌ كذلك، فلنفِ بالشّرط ليتحقّق الوعد وإلّا فلا.