1- ما الحكمةُ من التّكبيرِ في العيدِ؟
2- أخلصِ النّحرَ والعملَ لله وحده
3- ماذا نعمل وقد فاتنا الحجّ هذا العام؟
مقدمة:
الأعياد سنّةٌ فطريّةٌ جُبِل النّاس عليها من قديمٍ، وعرفوها منذ عرفوا الاجتماع والتّقاليد والذّكريات، فلكلّ أمّةٍ أعيادٌ تُظهر فيها زينتها، وتُعلن فرحها وسرورها، وإنّ العيد في إدخال البهجة على النّفوس يُعتبر بمثابة واحةٍ غنّاء في صحراء العام، تَستجمّ فيها النّفوس من عناء الحياة، وتُسرّي عن نفسها ما أصابها من جهدٍ ومشقّةٍ وهي تقطع رحلتها الطّويلة على هذه الأرض.
وفي الجاهليّة قبل الإسلام كانت للأمّة العربيّة أعيادٌ، ولكنّهم كانوا يملؤونها باللّهو واللّعب، ولمّا جاء الإسلام صحّح أوضاع الأعياد، وعدّل مناهجها، وجعلها تُشير إلى ذكرياتٍ نافعةٍ، وتدلّ على طريق الخير وتسوق النّفوس إليه، وتُثبّت في المجتمع مبادئ الحقّ والعدل والتّراحم بين النّاس، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ).
فإذا كانت الأمم تفرح في أعيادها فرحاً مطغياً، وتلعب لعباً عابثاً صاخباً، وتلهو لهواً فاجراً، تُرتكب فيه الموبقات، وتُسلب فيه العقول بالشّراب الآثم، فإنّ الأمّة الإسلاميّة تفرح بأعيادها فرحاً من طرازٍ له جلالهُ ووقارهُ.
1- ما الحكمةُ من التّكبيرِ في العيدِ؟
لأمرٍ ما، جعل الله سبحانه شعار هذا اليوم المبارك: التّكبير، بل لأمرٍ عَلمَه جل جلاله، جعل شعار هذه الأيّام كلّها بدءاً من فجر يوم عرفة إلى نهاية أيّام التّشريق إثر كلّ صلاةٍ: التّكبير، تُرى: ما الحكمة من ذلك؟ ولعلّ الجواب يكمن في أنّنا أيّام العيد -لا سيّما في هذا العصر الّذي نعيش فيه حيث المآسي الكثيرة المتنوّعة الّتي تطوف بالمسلمين، والّتي تتسرّب إلى حنايا قلوبهم، فترمضهم بالآلام المتنوّعة- لن يجد المسلم أمامه من عزاءٍ يُصغّر من حجم هذه الآلام والمصائب سوى عزاءٍ واحدٍ؛ ألا وهو: أن يتذكّر أنّ الله أكبرُ وأجلّ من كلّ ما يطوف بالأمّة الإسلاميّة اليوم من مآسٍ ومصائب، فإذا كبّر المسلم ووعى تكبيره لله، أدرك معنى العزاء في هذه الكلمات القدسيّة تجاه المصائب الّتي تتناوش المسلمين اليوم، وكلّها مصائب منبعها من أنفسنا، ألم تقرؤوا قول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
في ظلّ هذه المآسي الّتي وقع فيها المسلمون، كان ولا بدّ من نافذةٍ ينتعش أمامها المسلم، ألا وهي: أن يتذكر عظمة الله وكبرياءه، قال تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 37].
وأن يعلم أنّ الله أكبر من خطط الأعداء ومكرهم، وأكبر من كلّ قوّةٍ تتربّص بالمسلمين، وهذا المعنى يتجلّى واضحاً في التّكبير في هذا اليوم، ولكنّ النّاس بعد هذا أحد رجلين: رجلٍ يُكبّر ولا يعلم ماذا يقول! يرفع صوته مجلجلاً بالتّكبير، ونفسه زائغةٌ وأهواؤه مستشريةٌ، والتّكبير عنده ليس أكثر من شعارٍ ميّتٍ لا قيمة له، ولا يحرّك في كيان هذا الإنسان ساكناً، ورجلٍ آخر ينطق بالتّكبير فتسري جذور هذه الكلمة إلى أعماق نفسه وقلبه، فتهزّ فؤاده هزّاً، وتنفضه من كلّ ما قد ران عليه من أهواءٍ وشهواتٍ، فتذكّره هذه الكلمة بضعفه، وبأنّه عبدٌ ذليلٌ بين يدي ربّه عز وجل لا حولَ له ولا طاقةَ، فيستسلم بكلّ كيانه لمن بيده الأمر كلّه.
ألا ما أحوج العالم الإسلاميّ اليوم إلى أن يعلم هذا المعنى، وهو يردّد كلمة: الله أكبر، ليحقّق العبوديّة الّتي تتفجّر بالتّوحيد الخالص لله تعالى، الّذي هو منبع كلّ عزٍّ بعد ذلٍّ، ومنبع كلّ قوّةٍ بعد ضعفٍ، ومنبع كلّ وحدةٍ بعد شتاتٍ، ولا ينبغي أن يردّد المسلمون كلمات التّكبير على ألسنتهم، ويحرّكون شفاههم بها، دون أن يفهموا معناها أو أن يفعّلوها في حياتهم.
2- أخلصِ النّحرَ والعملَ لله وحده
إنّ يوم الجمعة هذا، هو يومٌ عظيمٌ من أيّام الله جل جلاله، فهو يوم الحجّ الأكبر، ويوم النّحر أفضل أيّام السّنة على الإطلاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ). (وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي).
فيوم النّحر هو يومكم هذا، أمّا يوم القرّ فهو يوم الاستقرار في مِنى، وهو يوم غدٍ إن شاء الله، ففي هذا اليوم تجتمع فيه عباداتٌ لا تجتمع في غيره من الأيّام، فالحجّاج اليوم يرمون وينحرون ويحلقون ويطوفون ويسعون، وأهل البلدان اليوم يكبّرون وفي المصلّى يجتمعون وصلاة العيد يؤدّون، ويؤدّون اليوم صلاة الجمعة أيضاً، ويذبحون أضاحيهم لله ربّ العالمين، وإنّ هذه الأضاحي لَتذكّرنا بالتّوحيد الخالص لله ربّ العالمين، حيث قال جل جلاله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
أي: انحر على اسم الله، فإنهار الدّم على اسم الله تعالى عبادةٌ عظيمةٌ لا يوجد لها مثيلٌ في العبادات، ولذلك كان ذبح الأضحية أفضل من التّصدق بثمنها، لأنّ ذبح الأضحية فيه إنهار الدّم؛ تعظيماً لله وتذكيراً للغافلين بربّهم، قال عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحجّ: 28].
تذكُر ربّك، وتأكلُ وتتصدّقُ ابتغاء وجهه، لا رياء ولا مباهاة، لأنّك تعلم أنّ الله لا يريد منّا لحوم الأضاحي، بل يريد أن نكون من الأتقياء المخلصين، قال عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحجّ: 37].
وإنّ الأضحية إحياءٌ لسنّة أبينا إبراهيم عليه السلام، وهي في هذا اليوم من أفضل الأعمال، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عز وجل، مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِقُرُونِهَا، وَأَظْلَافِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ، لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا).
3- ماذا نعمل وقد فاتنا الحجّ هذا العام؟
لقد جعل الله تعالى في نفوس المؤمنين شوقاً وحنيناً إلى بيت الله الحرام؛ الّذي تهواه الأفئدة، وتشتاق إليه القلوب، ولمّا كان كثيرٌ من النّاس يعجز عن بلوغ هذا المراد -خاصّةً في هذه الأيّام الّتي انتشر فيها الوباء، فمُنِعَ المسلمون من شتّى البلاد من حجّ بيت الله الحرام- كان من رحمة الله بعباده أن شرع لهم أعمالاً يسيرةً تساوي في أجرها أجر الحجّ، ليعتاض بذلك من لم تُتح له فرصة أداء الحجّ والعمرة، فإن هو قام بهذه الأعمال بصدقٍ وإخلاصٍ وهو في مكانه، حصّل من ورائها أجوراً تساوي أجر الحجّ والعمرة الّذي قال عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ).
إنّ هذه الأعمال الّتي يبلغ ثوابها ثواب الحجّ والعمرة كثيرةٌ ومتنوّعةٌ؛ منها:
أوّلاّ: موافقة المأموم في تأمينه لتأمين إمامه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
ثانياً: صلاة الفجر في جماعةٍ، والجلوس حتى تطلع الشّمس وترتفع، ثمّ صلاة ركعتي الضّحى: عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ).
أي: أنّ أجر الذّكر والصّلاة في هذه المدّة، مثل أجر الحجّة والعمرة الكاملة غير النّاقصة الأجر، لا أنّه يقوم في إسقاط حجّة الإسلام، فهي حجّةٌ في الجزاء لا في الإجزاء.
ثالثاً: المحافظة على صلاة الفرائض في المسجد: إنّ من واظب على شهود الفرائض في المساجد جماعةً؛ يكتب الله له بها أجر حجّةٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي الْجَمَاعَةِ، فَهِي كَحَجَّةٍ، وَمَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فَهِي كَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ).
هذه باقةٌ من الأعمال اليسيرة الّتي تعدل ثواب الحجّ والعمرة، فمن يحرصْ عليها ينلْ في اليوم الواحد ثواب الحجّ مرّاتٍ ومرّاتٍ، وإنّ العاقل الكيّس الفطن هو من يستثمر هذه النّفحات من أجل آخرته، ويحرص على استغلالها بما يرضي ربّه.
ختاماً: تذكيرٌ وذِكرٌ:
إنّ لأيّام التّشريق فضلها ومكانتها، فهي الأيّام المعلومات الّتي أُمرنا بذِكر الله فيها، قال عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحجّ: 28].
وعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ).
وقد ورد النّهي عن صيامها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ يَطُوفُ فِي مِنًى: (أَنْ لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عز وجل).
فينبغي لنا اغتنامها بالذّكر والتّكبير، وألّا نقتصر على الأكل والشّرب فقط، ولنعلمْ أنّه ُيشرع في هذه الأيّام التّكبير المقيّد بأدبار الصّلوات المكتوبات، فلنتّبع سنّة نبيّنا؛ لئلّا نَضِلّ ولا نحارُ.