الأربعاء 15 شوّال 1445 هـ الموافق 24 أبريل 2024 م
وِقفاتٌ للعِبرة في ذكرى الهجرة
الأربعاء 22 ذو الحجة 1441 هـ الموافق 12 أغسطس 2020 م
عدد الزيارات : 1482
وِقفاتٌ للعِبرة في ذكرى الهجرة
عناصر المادة
1- العبرةُ من سرعةِ انقضاءِ الأيّامِ
2- الهجرةُ حدثٌ عظيمٌ لهُ أهمّيّتهُ في الإسلامِ
3- وقفةُ محاسبةٍ للنّفسِ على رأسِ العامِ
مقدمة:
إنّنا اليوم نودّع عاماً هجريّاً مضى من حياتنا، وأصبح في ذمّة التّاريخ، وإنّنا إذ نودّعه يذكّرنا بيوم الهجرة العظيم، ذلك اليوم الّذي كان ثقيلاً ينوء بحمله تاريخٌ كبيرٌ من أمجاد هذه الأمّة العظيمة، إنّه يومٌ يحمل ينبوع وجودها، وسرّ أمجادها، ومبعث عزّتها، وروح وحدتها، إنّه يومٌ ارتسم على شمسه الباب العظيم الّذي دخلت منه هذه الأمّة إلى التّاريخ، ثمّ تبوّأت عرشه، وقد كانت ملقاةً على هامشه شاردةً وراء سُورِهِ، فأيّ اسمٍ كان يُذكَر لكم في العالم؟ أم أيّ وطنٍ كان يحويكم؟ أم أيّ أرضٍ كانت تُقِلّكم؟ أم أيّ حضارةٍ كانت تُنسَب إليكم لو لم تكنِ الهجرة؟
إنّ يوم الهجرة يومٌ عظيمٌ من أيّام الله عز وجل يطالعنا في كلّ عامٍ، فيذكّرنا بالجهاد الحقّ في سبيل الحقّ، يذكّرنا برجالٍ خرجوا من ديارهم لله سبحانه يبغون الحرّيّة، وينشدون في أرض الله الواسعة العزّة والكرامة، رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأوذوا في سبيل الله فصبروا، وما وهنوا وما ضعفوا.
يذكّرنا هذا اليوم بتلك المدينة الفاضلة الّتي أقامها المسلمون على أساسٍ من دينهم وهدي نبيّهم صلى الله عليه وسلم، يوم أن كانوا قادة الأمم، وفي جميع شؤون الحياة مضرب الأمثال.
ذكرى بها عمّ الوجود سلامُ    إنّي أراكَ تُعيدها يا عامُ
ذكرى لِهجرةِ سيّد الكونينِ مَنْ    قَد صِيغَ نوراً والأنامُ ظلامُ
1- العبرةُ من سرعةِ انقضاءِ الأيّامِ
يودّع المسلمون في هذه الأيّام عاماً هجريّاً كاملاً ولّى وانصرمَ، وسيستقبلون عاماً هجريّاً جديداً أقبلَ، يُعدّ يوماً جديداً من حساب الأعمال، وقد جعل الله عز وجل كرّ اللّيالي والأيّام عبرةً لمن يعتبر، قال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النّور: 44].
كما جعل التّاريخ الّذي هو وعاءٌ للأحداث عبرةً للإنسان، حتّى يلتفت بعقله إلى الماضي فيعتبر، ويتنبًه للمستقبل فيتأمّله ويتبيّنه.
عامٌ هجريٌّ مضى، بل أعوامٌ مضت، وشهورٌ انقضت، وأيّامٌ جرت، مرّت كالبرق الخاطف، عاش فيها أناسٌ مِثلُنا، وحيَوا حياتنا، ولكن أين هم الآن؟ وإلى أيّ شيءٍ صاروا بعد ما كانوا؟ وواللهِ إنّ في سير الأيّام آيةً لكلّ معتبرٍ، وعظةً لكلّ لبيبٍ مدّكرٍ، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
إنّ ما نلمسه من تعاقب السّنين والأعوام، وسرعة تصرّم الأزمان والأيّام، إشارةٌ إلى معجزةٍ نبويّةٍ، وعلامةٌ من علامات السّاعة قد أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ الْخُوصَةُ). مسند الإمام أحمد: 10943
فيحسن بالمرء أن يكون ضنيناً بوقته، فالزّمان من أبرز خصائصه سرعة انقضاء وقته، فهو يمرّ مرّ السّحاب، ويجري جري الرّياح، وكأنّ الحياة حلمُ نائمٍ، أو خيالٌ زائلٌ. 
فالواجب استغلال تلك الأنفاس الّتي لا تعود، واغتنام ساعات العمر ولحظات الحياة بما ينفع العبد يوم العرض على الله سبحانه، وإلّا فهو مغبونٌ خاسرٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ). صحيح البخاريّ: 6412
فلنشكر الله على نعمه بأن نستخدمها في طاعة الله عز وجل، ولنحذر الغفلة والسّبات، فإنّ العمر قصيرٌ، ومتاع الّدنيا قليلٌ.
2- الهجرةُ حدثٌ عظيمٌ لهُ أهمّيّتهُ في الإسلامِ
الهجرة حدثُ الأحداثِ، وقمّة النّصرِ على الوثنيّة، ومقدّمة عصرٍ جديدٍ في حياة الإنسانيّة، عصر أنهى العصور القديمة وحضارتها الوثنيّة، وافتتح عصراً جديداً شعاره: الإيمان وكرامة الإنسان، وإنّها حقّا أعظم فصول التّاريخ إثارةً، وآثاراً ونتائج شملت فائدتها النّاس كافّة.
الهجرة من مكانٍ يُحجَر فيه على العقيدة، وتُفرض فيه شريعة الوثنيّة لأنّها شريعة الآباء والأجداد، إلى مكانٍ صالحٍ يأمن فيه الإنسان على نفسه ودينه وماله وعرضه.
الهجرة طريق رسل الله وأنبيائه إلى الحياة المؤمنة، وإلى نشر الرّسالات، وإصلاح الحياة من عفنها وفسادها وضلالها، وإنّها طريقٌ إلى النّور يَعقب الظّلام، وإلى الإيمان لينهي الطّغيان.
رحم الله أولئك الصّحابة الأخيار، الّذين دوّنوا تاريخهم بحدث الهجرة، فكانوا أوفياء لنعمة الله جل جلاله، يقدّرون الكرم الإلهيّ أجلّ تقدير، حيث عرفوا أنّ هجرة النّبيّ من مكّة إلى المدينة كانت هي المفتاح الأوحد الّذي لا ثاني له، الّذي فتح لهم بوّابة التّاريخ، فامتلكوا زمام الحضارة، فأطفأ الله عز وجل أمامهم شعلة الحضارات كلّها، لتنير في أيديهم شعلة الحضارة الإسلاميّة، ولكن –وللأسف- فإنّ جُلّ المسلمين عن معنى الهجرة غافلون، وربّما لو سألت كثيراً منهم عن هذا العام الهجريّ الّذي هو فيه لم يُحط جواباً، فأيّ معنىً لإسلام المسلمين إن لم يتجسّد في معرفة المسلم للهجرة وأحداثها؟ وإن لم يبرز في معنى الزّمن الهجريّ الّذي تُوّج بأعظم حدثٍ في تاريخ المسلمين!
يا لسعادةَ المسلم وفوزهُ حينما يفرّ بدينه مهاجراً إلى الله ورسوله، ولو كان في هذا الفرار القتل أو الموت، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحجّ: 58].
تلك الهجرة الّتي علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بفعله قبل مقاله -وما أبلغ التّعليم عندما يكون بالفعل- أنّ من ضحّى بأرضه ودنياه في سبيل دينه؛ أكرمه الله بإعادة الأرض والوطن، وألبسه تاج العزّة والقوّة، قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النّور: 55].
3- وقفةُ محاسبةٍ للنّفسِ على رأسِ العامِ
أيعقلُ أن ينقضي عامٌ ويدخل آخر، وتمرّ الأيّام والأعمار دون أن نقف عليها ساعةً نستفيق فيها من غفلتنا، ونتفكّر في نهايتنا، ونحاسب أنفسنا عمّا اكتسبت خلال عامٍ كاملٍ مضى؟! في حين أنّ محاسبة النّفس واجبةٌ على كلّ مسلمٍ، قال تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
فالله تعالى يدعو كلّ نفسٍ أن تتفقّد الزّاد من العمل الصّالح الّذي ادّخرته ليوم القيامة الّذي عبّر عنه ربّنا بقوله "لِغَدٍ" ليشعرك بأنّه قريبٌ جدّاً، فما وجد المسلم بعد المحاسبة من خيرٍ فليحمد الله عز وجل الّذي وفّقه للقيام بهذا الخير، عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ يَنْقُلُ التُّرَابَ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا، إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا). صحيح البخاريّ: 2837
فكلّ عملٍ صالحٍ قام به المسلم، فبتوفيقٍ من الله وفضلٍ ونعمةٍ، قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7-8].
وما وجد غير ذلك من معاصٍ ومنكراتٍ فليتبْ إلى الله تعالى، فإنّه عفوٌّ غفورٌ، قال جل جلاله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشّورى: 25].
فالواجب على المسلم أن يحاسب نفسه في جميع الأوقات والأيّام، ولا يختصّ ذلك بوقتٍ معيّنٍ، وليكن في محاسبته لنفسه أشدّ من محاسبة الشّريك الشّحيح لشريكه، والشّريك الشّحيح لا يسامح بدرهمٍ ولا دانقٍ، ولقد ضرب سلفنا الصّالح أروع الأمثلة في محاسبتهم لأنفسهم، فما إن يحصل من أحدهم تقصيرٌ أو زلّةٌ إلّا ويسارع في معالجة خطئه.
"كان عبيد الله البجليّ كثير البكاء ويقول في بكائه طول ليله: إلهي: أنا الّذي كلّما طال عمري، زادت ذنوبي، أنا الّذي كلّما هممت بترك خطيئةٍ، عرضت لي نفسي شهوةٌ أخرى، واعبيداه: خطيئةٌ لم تبل، وصاحبها في طلب أخرى، واعبيداه: قُضيت حوائج الطّالبين، ولعلّ حاجتك لا تقضى، وقال منصور بن عمّار: سمعت في بعض اللّيالي بالكوفة عابداً يناجي ربّه، ويقول: يا ربّ وعزّتك، ما أردت بمعصيتك مخالفتك، ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهلٌ، ولا لنظرك مستخفٌّ، ولكن سوّلّت لي نفسي، واسوتاه من الوقوف بين يديك غداً إذا قيل للمخفّين جوزوا، وقيل للمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ؟ وَيلِي، كلّما كبرت سنّي كثرت ذنوبي، فإلى متى أتوب؟ أما آن لنفسي أن تستحي من ربها؟". إحياء علوم الدّين، ج5، ص202
ختاماً: وصيّةٌ وتحذيرٌ:
عامٌ هجريٌّ انقضى من عمر الإنسان المحتوم، وصحيفةٌ سُوّدت من كتابه المرقوم، وفصلٌ انتهى من رواية الحياة، ونحن الآن على أبواب عامٍ جديدٍ، وفي ابتداء صحيفةٍ جديدةٍ، وفي طليعة فصلٍ آخر من تلك الرّواية الّتي يمثّلها الإنسان على مسرح الدّنيا، ولا أدري ما يُفعل بي ولا بكم، فلنودّعْ عامنا الهجريّ الّذي أوشك على الرّحيل بتوبةٍ صادقةٍ، ولنستقبل عامنا الهجريّ الجديد، بقلبٍ جديدٍ، وشعورٍ جديدٍ، ولسانٍ جديدٍ، فعسى أن يكون هذا العام كفّارةً لما قبله، ولنحذر من التّسويف في التّوبة، فربّما لا يكون في العمر عامٌ آخر فنأسف ونندم، ولنحاسبْ أنفسنا على كلِّ ما قدّمنا، فما كان من خيرٍ فلنزد فيه، وما كان من شرٍّ فلنقلع عنه، ولنهجر ما نهى الله عنه، طامعين برحمة الله وعفوه، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
حريٌّ بنا أن نأخذ من ذكرى الهجرة النّبوية العبرة والموعظة، فنتواصى بالحقّ ونتواصى بالصّبر، ونتفانى في نصرة المثل العليا والمبادئ القويمة، ونتّخذ من رسولنا الأعظم وسلفنا الصّالح القدوة الحسنة الطّيّبة، والمثل الكريم في نصرة الحقّ وأهله، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} [الحجّ: 40].
 
1 - مسند الإمام أحمد: 10943
2 - صحيح البخاريّ: 6412
3 - صحيح البخاريّ: 2837
4 - إحياء علوم الدّين، ج5، ص202
دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 114) 80%
غير فعال (صوتأ 27) 19%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 143