1- حالُ الأنبياءِ والسّلفِ مع هذه العبادة
2- أثر هذه العبادة في حياة المسلم
مقدمة:
إنّ السّعي في قضاء حوائج النّاس من الأخلاق الإسلاميّة العالية الرّفيعة؛ الّتي ندب إليها الإسلام، وحثّ المسلمين عليها، وهي نوعٌ من أنواع التّعاون على البرّ والتّقوى الّذي أمرنا الله تعالى به في محكم تنزيله، فقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
ولا بدّ من أن نصحِّحَ خطأً شائعاً يتعلَّقُ بمفهوم هذه العبادة، فأكثرُ النّاسِ يعتقد -خطأً- أنّ عبادة قضاء الحوائج تقتصر على نعمة المال فحسب، وهذا خطأٌ بَيِّنٌ؛ إذ إنّ قضاء الحوائج يكون بكلِّ نعمةٍ أنعم الله عليك بها وليست عند غيرك، فمن أنعم الله عليه بالمال فعليه أن يقضي به حاجة من لا مال له، ومن أنعم الله عليه بنعمة الصّحّة فعليه أن يقضي بها حاجة الضعيف، ومن أنعم الله عليه بنعمة العقل والحكمة؛ قضى حاجة النّاس بالصّلح بينهم، ومن أنعم الله عليه بنعمة السّلطان والجاه؛ قضى حاجة من لا سلطان له ولا جاه، وهكذا في جميع النِّعم.
وقد حثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بذل كلّ ما فاض عندنا من نعمٍ؛ في سبيل تفريج الكربات وقضاء الحاجات، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ)، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْل.
1- حالُ الأنبياءِ والسّلفِ مع هذه العبادة
قضاءُ حوائج النّاس كان محوراً رئيسيّاً في حياة الأنبياء والسّلف.
فها هو سيّدنا موسى عليه السلام لمّا خرج خائفاً من فرعون وقومه -ومع أنّه كان متعباً من السّفر الطّويل- وورد ماء مدين، وجد عليه أمّةً من النّاس يسقون، ووجد امرأتين مستضعفتين، فرفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتّى رويت أغنامهما، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 23، 24].
قال الإمام الزّمخشريّ: "وإنما فعل هذا رغبةً في المعروف وإغاثةً للملهوف".
وها هو سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم، تقول أُمُّنا خديجة رضي الله عنها في وصفه: "أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ".
فمن يتأمّل هذه الصّفات الخمس يجد أنّ الجامع المشترك بينها هو: (قضاء حوائج النّاس)، لقد بلغ الأمر إلى أنّه: "مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ: لاَ".
وعلى هذا النّهج سار من أدرك شرف وفضل هذه العبادة:
فقد كان أبو بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه يحلب للحيّ أغنامهم؛ فلما استخلُف؛ قيل: الآن لا يحلبها! فقال: بلى؛ وإنّي لأرجو ألّا يغيّرني ما دخلت فيه عن شيءٍ كنت أفعله.
وروي أنّ عمر خرج في سواد اللّيل، فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتاً ثمّ دخل بيتاً آخر، فلمّا أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا بعجوزٍ عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرّجل يأتيك؟ قالت: إنّه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عنّي الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمّك، عثرات عمر تتبع.
وروي عن مُجَاهِدٍ: "صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَخْدُمَهُ، فَكَانَ يَخْدُمُنِي أَكْثَرَ".
2- أثر هذه العبادة في حياة المسلم
يا مَنْ تقضي حوائجَ النّاسِ: أبشِرْ...
فإنَّ الله سينفِّسُ عنك الكربَ، وييسِّر عليك كلَّ عسيرٍ، والجائزة الكبرى أنّك في عون ربّ الأرباب ما دمت في عون أخيك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ).
وإنّك في درجة العابد والمجاهد في سبيل الله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ).
ويكفيك شرفاً: محبّة الله تعالى لك، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا- وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامِ).
ولنعلم أنّ الإسلام عندما يحثُّ على السّعي في قضاء حوائج النّاس؛ فهو يريد تعميق أواصر الأخّوة والتّلاحم بين أبناء الأمّة، فقد شبّه رسول صلى الله عليه وسلم حال الأمّة بالجسد الواحد الّذي تعيش كلّ أعضائه آلام بعضها، عن النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى).
خاتمةٌ:
كان حكيم بن حزامٍ يحزَنُ على اليوم الّذي لا يجد فيه محتاجاً ليقضي له حاجته، فيقول: "مَا أَصْبَحْتُ وَلَيْسَ بِبَابِي صَاحِبُ حَاجَةٍ، إِلاَّ عَلِمْتُ أَنَّهَا مِنَ المَصَائِبِ الَّتِي أَسْأَلُ اللهَ الأَجْرَ عَلَيْهَا".
وقد حذّرنا نبيّنا صلى الله عليه وسلم من الإعراض عن قضاء حوائج النّاس: عن عَمْرَو بْنٍ مُرَّةَ، أنّه قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: يَا مُعَاوِيَةُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا مِنْ إِمَامٍ أَوْ وَالٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ، وَالْمَسْكَنَةِ، إِلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ، دُونَ حَاجَتِهِ، وَخَلَّتِهِ، وَمَسْكَنَتِهِ) قَالَ: فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ.
حقّاً: إنّ قضاء حوائج النّاس والسّعي في مصالحهم عبادةٌ من أعظم العبادات وقربةٌ من أعظم القربات، وبابٌ عظيم لتأكيد المودّة والمحبّة بين الخلق، وسببٌ لكلّ خيرٍ، ومفتاحٌ للمحبّة من الله ونبيّه صلى الله عليه وسلم.