1- محنٌ تعقبها منحٌ
2- الرّجولةُ مواقفٌ ومبادئٌ
3- تذكيرٌ بالأقصى، والحكمة من الجهاد
مقدمة:
إنّ سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم حافلةٌ بالعبر، مليئةٌ بالعِظات، فما مِن يومٍ قضاه في حياته إلّا وهو درسٌ للمؤمنين، ينهلون من معين سيرته الصّافية، ويرتوون من عذوبة حديثه الجامع، وطيب كلامه النّافع، إنّه خيرة الله من خلقه، قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النّجم: 3-4].
ولئن كانت سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة في حلّه وترحاله، وغزواته وأسفاره، لا يُحيط بها الكثير من الأوراق، ولا يكفي في الحديث عنها طويل السّاعات، فحسبنا جانبٌ من جوانبها العظيمة، وجزءٌ من أجزائها الكثيرة، إنّه رحلة الإسراء والمعراج، والّتي كانت بالرّوح والجسد من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن ثمّ إلى السّموات العلى، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
ألا وإنّ التّأمّل في أحداث هذه الرّحلة العظيمة ومجرياتها، ليقوّي إيمان المؤمن، ويكون سببًا في صلاح قلبه، إذ يرى شيئًا من عظمة الخالق؛ فيخشاه ويحذره، ويبصر آياته ومعجزاته، فيزيده ذلك إيمانًا إلى إيمانه، ويلحظ رحمته بعباده في التّخفيف عنهم، فيقوده ذلك إلى شكر الله على نِعمِه، ويعرف للأنبياء فضلهم، فيزداد حبّه لهم، ويعلم حقّ النّبيّ؛ فيتّبعه طاعةً لله، قال سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النّساء: 80].
فلنستلهم أهمّ الدّروس والعبر من هذه الرّحلة المباركة، لنقتدي بخير البشر في إيمانه ويقينه، وصبره وثباته، لا سيّما في هذا الزّمن الّذي كثر فيه الطّاعنون في دين الله، المشكّكون في وعده ووعيده، من الكفّار والمنافقين.
1- محنٌ تعقبها منحٌ
إنّ من سنّة الله عز وجل في عباده المؤمنين: الابتلاء والاختبار، مِن أجل التّنقية والتّمييز، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].
ولكنّ الله عز وجل -برحمته وحكمته- يثبّت المؤمنين الصّادقين، فلا يحيدون عن دينه وشرعه، مهما اشتدّ بهم الأذى، وعظمت عليهم المحنة، حيث إنّ المنح تُولد من رحم المحن، والفرَج يأتي بعد الشّدّة، وهكذا كان مع أفضل الخلق رسل الله أجمعين، و لعلّه لا يخفى على أحدٍ منّا ما لاقاه رسولنا محمّد صلى الله عليه وسلم من أنواع الأذى والتّعذيب من قِبل كفّار قريش، ومِن حصارٍ وتجويعٍ وحرمانٍ، وما ناله في الطّائف من جراحٍ وآلامٍ، ومع ذلك كلّه، مضى صلى الله عليه وسلم في طريق دعوته صابرًا محتسبًا، ممتثلًا أمر ربّه عز وجل: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35].
وحين تتابع عليه البلاء بموت عمّه وزوجه، واشتدّ به الأذى من قِبَل المشركين، أيّده المولى جل جلاله بالآية الكبرى، والمنحة العظمى، جزاء صبره ويقينه، فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمّ عرِج به إلى السّموات العلى، وكلّمه بلا واسطةٍ في حادثةٍ عظيمةٍ، أجمل ذِكرَها في سورتي النّجم والإسراء، وفصّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سنّته ما رأى.
إنّها منحةٌ ربّانيّةٌ أعطيها النّبيّ صلى الله عليه وسلم في وقتٍ هو بأشدّ الحاجة إليها، إذ سُدّت طرق الدّعوة في وجهه، واشتدّ التّعذيب للمؤمنين، ومات المحامي عنه، ومع بلوغ الكرب مداه، جاءت هذه الكرامة مزيلةً للكرب، مبشّرةً بالفرج، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110].
وكأنّ الله عز وجل يقول له: إنْ كان أهل الأرض لم يعرفوا قدرك، فإنّ أهل السّماء قد عرفوك، وإنْ كان أهل الأرض قد طردوك، فإنّ أهل السّماء يستقبلونك، وهكذا ينصر الله عباده في كلّ وقتٍ وحينٍ، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51].
وإن رحلة الإسراء والمعراج لتعلّمنا بمحطّاتها، كيف نصنع الأمل، ونترقّب ولادة النّور من رحِم الظّلمة، وخروج الخير من قلب الشّر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات، فما بعد اشتداد ألم المخاض إلّا الولادة، وليس بعد ظلمة اللّيل إلّا انبثاق الفجر، قال جل جلاله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [التّين: 5-6].
وكلُّ الحادثاتِ وإنْ تناهتْ فموصولٌ بها الفرجُ القريبُ
2- الرّجولةُ مواقفٌ ومبادئٌ
إنّ من عادة كلّ إنسانٍ أنّه إذا وقع له ما يستغربه أخفاه عن غيره، ولا سيّما إذا لم يملك دليلًا على إثباته، فإن أبتْ نفسه إلا الإخبار به، قصره على أقرب النّاس إليه، وهو على وجلٍ من تكذيبهم له، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ من ثباته وشجاعته ومواقفه العظيمة أن أخبر عن رحلةٍ أرضيّةٍ يستحيل عند النّاس وقوع مثلها في وقته، وأعظم من ذلك يتحدّث عن رحلةٍ سماويّةٍ فيها من العجائب ما فيها، ويحدّث بها من؟ إنّه يرمي بها في نحور أعدائه بكلّ ثقةٍ واطمئنانٍ، ليعلّم الأمّة واجبها تجاه دينها، وكيف يكون يقينها وثقتها بربّها جل جلاله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي، وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ)، فَقَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ بِهِ عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (نَعَمْ) قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: (إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ) قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: (إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ)، قَالَ: (فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ).
يا واصفَ الأقصى أتيتَ بوصفهِ وكأنّك الرّسـامُ والبنّـاءُ
لقد ظهرت حجّة النّبيّ وبانَ صدقه، ولكنّ المصدود عن الحقّ لن يؤمن ولو جاءته كلّ آيةٍ وبرهانٍ، قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111].
وأمّا طلّاب الحقّ فلا يردّهم عن إيمانهم تكذيب المكذّبين، فها هو الصّدّيق الأوّل في هذه الأمّة أبو بكر، بادر إلى التّصديق وبيان حجّته في ذلك، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكِ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِي مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ".
فما أحوجنا أن نتمثّل هذه القدوة في وقتنا الرّاهن، لا نخشى في الله لومة لائمٍ، ولا نلتفت لسخريةٍ أو إيذاءٍ أو صدٍّ أو بلاءٍ، قدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الأخيار، فلكَمْ نحن بحاجةٍ ماسّةٍ لأن نملأ قلوبنا بيقينٍ يعلّمنا أنّ الله جل جلاله يدبّر الأمر كلّه، وأنّه يريد بنا الخير واليسر، ولا يريد بنا الشّرّ والعسر، وأن ما ينفع البشر ويحقّق لهم مصالحهم إنّما هو شرع الله، قال عز وجل: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
إنّه درسٌ -نتعلّمه اليوم- لكلّ صاحب همٍّ، لكلٍّ صاحب قلبٍ مكلومٍ، ألّا يلتفت قلبه لغير الله، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده حمل همّ الدّنيا كلّها، فجاءه الفرج، وأُكرم بالمعجزات والمنح، ولنا فيه أسوةٌ حسنةٌ، فلنمتثلْ كما امتثلْ، لنكرَم كما أُكرمَ.
3- تذكيرٌ بالأقصى، والحكمة من الجهاد
لقد اختار الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون مسراه إلى المسجد الأقصى وعروجه منه، ليدلّل لنا على مكانة المسجد الأقصى وبيت المقدس، وليترك الأثر الكبير في التّاريخ الإسلاميّ، فكما أنّ الله عز وجل ربط أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام بالبيت الحرام، فإنّه ربط بين رسوله محمّدٍ صلى الله عليه وسلم -روحيًّا ودينيًّا- وبين بيت المقدس، عن طريق جعله قبلةً للمسلمين، وبإمامته للأنبياء والمرسلين فيه، وإنّ هذا له ارتباطٌ وثيقٌ بما يدور في المسجد الأقصى ومحيطه من تخريبٍ وفسادٍ يمارسه بنو صهيون ومن يقف معهم، فلم تكن رحلة الإسراء والمعراج مجرّد معجزةٍ إلهيّة وهبها الله لخاتم أنبيائه وانتهت، لا، بل سجّلها الله في كتابه العزيز لتكون منارةً يهتدي بها المسلمون، كلّما تاهت بهم السّبل عن بيت المقدس، وكلّما استعجلها الخطر، واقتحم أرض بيت المقدس، وإنّ التّاريخ قد سجّل منذ زمنٍ بعيدٍ: أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قد فتحها، وأنّ صلاح الدّين الأيّوبيّ قد حرّرها، فلنمضِ في طريق الجهاد، حتّى نحرّر المسجد الأقصى من اليهود المجرمين، ومن تحالف معهم من السّفلة المارقين، فإنّ لله الحكمة الباهرة في تشريع فريضة الجهاد، مع أنّه له جنود السّماوات والأرض، وأمْرهُ: كنْ فيكون، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدّثّر: 31].
ولقد رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في رحلته البيت المعمور وهو في السّماء بمنزلة الكعبة في الأرض تحجّه الملائكة هناك، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ).
فلماذا فرض الله علينا الجهاد إذًا؟ وهو القادر -بأقلّ من طرفة عينٍ- أن يبدّل الحال إلى أحسن حالٍ، وأن ينتصر من اليهود والمجرمين، قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمّد: 4].
ولكنّ الله بيّن الحكمة من ذلك فقال: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمّد: 4].
فالله سبحانه يريد ألّا يتنزّل نصره على أناسٍ عاجزين يبخلون عليه بأنفسهم ودمائهم، يحبّ أن يرى الدّماء تسيل لأجله، والأموال تُبذلَ في سبيله، عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ سَبْيًا، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟، قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: (قَسَمْتُهُ لَكَ)، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: (إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)، فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: (أَهُوَ هُوَ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ)، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: (اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ).
أمنيةٌ يتمنّاها المؤمن بصدقٍ، ابتغاء وجه الله، لا لعرَضٍ دنيويٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا، أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ).
فلنلزم طريق الجهاد ما حيينا فثَمَّ الجنّة.
خاتمةٌ:
تمرّ بنا ذكرى الإسراء والمعراج ونحن نعايش مرحلة التّغيير الأكبر في تاريخ أمّتنا الإسلاميّة، عقب ثورات الرّبيع العربيّ وما تبعها من ثوراتٍ مضادّةٍ، وتكالب قوى البغي العالميّ لدحرها، وتمضي أمّتنا الإسلاميّة قُدُمًا نحو مستقبلٍ عظيمٍ، نترقّبه بعد شدائد ومحنٍ -يكرمها الله سبحانه به مثلما أكرم نبيّها بالفرج بعد الشّدّة- ولا يزال أمامها الكثير من الواجبات والمهامّ والتّضحيات حتّى تنجز كامل أهدافها.
تأتي هذه الذّكرى في ظلّ أجواءٍ ملتهبةٍ، وأحداثٍ متصاعدةٍ، وتطوّراتٍ بالغة الأهمّيّة في أمّتنا الحبيبة، حيث تمرّ بمرحلةٍ عصيبةٍ في تاريخها كما مرّ بها صاحب هذه الذّكرى، فصبرَ وصابرَ، فأكرمه الله عز وجل بالنّصر والعزّة والتّمكين.
ولقد ظهرت أهمّيّة المسجد الأقصى بالنّسبة للمسلمين، ممّا يتوجّب علينا أن نعرف منزلته، ونستشعر مسؤوليّتنا نحوه، بتحريره من أهل الكفر والشّرك.
فلنثقْ بالله وحده، ولنثبتْ على منهاجه وشرعه، ولنجدّدْ إيماننا، ولنمض في طريق جهادنا، فإنّ وراء المحن منحًا، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
ولنعلمْ أنّه كما تجلّت معيّة الله لرسوله في رحلة الإسراء والمعراج، فستتجلّى لنا، ولن يضيّعنا ربّنا، ولكنّه اختبارٌ وتمحيصٌ وابتلاءٌ وتصفيةٌ، والمسؤوليّة عظيمةٌ، فاعملوا، واصبروا، وصابروا، تُفلحوا وتَسعدوا، دنيا وأخرى.