1- قيمة الوقت، والعبرة من انقضائه
2- أهمّيّة الوقت في القرآن والسّنّة، وعند سلف الأمّة
3- خطر ضياع الوقت على الفرد والمجتمع
مقدمة:
يا نائمًا غافلًا قد غرّه الأملْ إلى متى برقاد اللّيل تشتغلْ
إنّ الرّقاد يميت القلب كثرته فلا يغرنّك التّسويف والأملْ
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا فيا ندامة من قد فاته العمل
إنّ أغلى ما يملكه الإنسان وقته، فهو عمره وحياته، وإنّ العاقل من يعرف قيمة وقته، وشرف زمانه، فلا يقضي ساعةً من عمره إلّا في خيرٍ للدّين، أو للدّنيا، حتّى لا يتحسّر عليها يوم يندم النّادمون، ويطلبون الرّجوع فلا يجابون، فلقد أخبرنا عز وجل عن أهل النّار الّذين ضيّعوا أوقاتهم في اللّهو واللّعب، والمعاصي والمنكرات فقال: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].
أوقاتنا هي رأس مالنا في هذه الحياة، ومن فرّط في وقته فقد فاته خيرٌ كثيرٌ، فأيّام الله تتسارع، والأزمنة تتلاحق، وكلّ شيءٍ من حولنا يذكّرنا بقيمة الزّمن الّذي نعيشه، فطلوع الشّمس وغروبها، ومنازل القمر وتقلّباته، وحركة الكون والكواكب، واختلاف اللّيل والنّهار، كلّها لتذكّرنا بقيمة الوقت الّذي هو رأس مالنا، ممّا يُوجِب علينا أن ننتهز فرصة أعمارنا بما يفيدنا وينفعنا، قبل أن تنتهي حياتنا فنتأسّف على ماضينا، كما ذكر ربّنا سبحانه في كتابه عن أهل الحسرة فقال: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24].
ورحم الله ابن القيّم إذ قال: "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادّة حياته الأبديّة في النّعيم المقيم، أو مادّة معيشته الضّنك في العذاب الأليم، وهو يمرّ مرّ السّحاب، فمَنْ كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم".
1- قيمة الوقت، والعبرة من انقضائه
ينبغي للمؤمن أن يتّخذ من مرور اللّيالي والأيّام عبرةً لنفسه، فإنّ اللّيل والنّهار يُبليان كلّ جديدٍ، ويُقرّبان كلّ بعيدٍ، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصّغار، ويفنيان الجميع، كما قال أحدهم:
أشاب الصّغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشيّ
إنّ مضيّ الزّمان، واختلاف اللّيل والنّهار، لا يجوز أن يمرّ بالمؤمن وهو في ذهولٍ عن الاعتبار به والتّفكير فيه، ففي كلّ يومٍ يمرّ، بل في كلّ ساعةٍ تمضي، تقع في الكون والحياة أحداثٌ جديدةٌ شتّى، منها ما يُرى، ومنها ما لا يُرى، من أرضٍ تحيا، وجنّةٍ تنبت، ونباتٍ يزهر، وزهرٍ يثمر، وثمرٍ يُقطف، وزرعٍ يصبح هشيمًا تذروه الرّياح، أو من جنينٍ يتكوّن، وطفلٍ يولد، وولدٍ يشبّ، وشابٍ يكتهل، وكهلٍ يشيخ، وشيخٍ يموت، ومن أحوالٍ تدور على النّاس، كلّما دار الفلك من فوق، أو دارت الأرض من تحت؛ بين يسرٍ وعسرٍ، وغنىً وفقرٍ، وصحّةٍ وسقمٍ، وسرورٍ وحزنٍ، وشدّةٍ ورخاءٍ، وسرّاءٍ وضرّاء، وفي كلّ ذلك آيةٌ لمن كان له لبٌّ، وذكرى لمن كان له قلبٌ، وعبرةٌ لمن كان له بصرٌ، أمّا من حُرم تفكّر أولي الألباب، وإحساس ذوي العقول، ونظر أولي الأبصار، فلن يفيده اختلاف اللّيل والنّهار، قال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190].
وقال جل جلاله: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44].
يجدر بالمؤمن الّذي يقدّر قيمة الوقت وأهمّيّته، أن يغمره بفعل الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ولكن لا يكفي أن ينهض إلى الخير في تثاقلٍ وتكاسلٍ، أو يؤدّي بعضه ويؤجّل بعضه، أو يؤخّره كلّه من يومٍ لآخر.
ولا أؤخر شغل اليوم عن كسلٍ إلى غدٍ إنّ يوم العاجزين غد
ومن ثَمّ فقد أمر القرآن الكريم باستباق الخيرات، والمسارعة إليها قبل أن تشغل عنها الشّواغل، أو تعوق العوائق، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
وقال معقّبًا على أهل الكتاب وما أنزل عليهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48].
وقال مرغّبًا في الجنّة ونعيمها: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
فهو يأمر بالمسارعة إلى جنّة الله عز وجل ومغفرته، أي: إلى أسبابها، من الإيمان والعمل الصّالح، وإنّ التّنافس هنا محمودٌ ومطلوبٌ، قال سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].
2- أهمّيّة الوقت في القرآن والسّنّة، وعند سلف الأمّة
لقد عُني القرآن الكريم والسّنّة المطهّرة بالوقت من نواحٍ شتّى، وبصورٍ متنوّعةٍ، حيث أقسم الله سبحانه به في مطالع سورٍ عديدةٍ فقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1-2].
وقال سبحانه: {وَالْفَجْرِ} [الفجر: 1]، وقال: {وَالضُّحَى} [الضّحى: 1].
ومعلومٌ أنّ الله إذا أقسم بشيءٍ من خلقه، دلّ على عِظم أمر المُقسَم به، وليلفت الأنظار إليه، وينبّه على جليل منفعته، ولقد جاءت السّنّة النّبويّة لتؤكّد ما جاء في القرآن الكريم من أنّ الوقت من نعم الله على عباده، وأنّهم مأمورون بحفظه ومسؤولون عنه.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ).
ومعنى قوله (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي أنّ الّذي يُوفَّق لذلك قليلٌ، فقد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرّغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعت الصّحة والفراغ ثمّ غلب عليه الكسل عن الطّاعة فهو المغبون، والغُبن أن يشتري بأضعاف الثّمن، أو يبيع بدون ثمن المثل، فالصّحة والفراغ رأس مالٍ، وينبغي لمن أوتيهما أن يستغلّ وجودهما عنده، بما فيه خيري الدّنيا والآخرة، ولقد كان النّبيّ من أشد النّاس حرصًا على وقته، فلا يمضي له وقتٌ في غير عملٍ لله، أو فيما لا بدّ له منه لصلاح دينه أو دنياه، ولقد اقتدى به السّلف الصّالح فكانوا أحرص ما يكونون على أوقاتهم.
قال الحسن: "أدركت أقوامًا كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه".
وقال ابن الجوزي: "لو قلت إني قد طالعت عشرين ألف مجلّدٍ، كان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب، فاستفدت بالنظر فيها".
هكذا كان حرصهم البالغ على أوقاتهم بالعمل الدّائب، ولقد كانوا يحاولون التّرقّي من حالٍ إلى حالٍ أحسن منها، بحيث يكون يوم أحدهم أفضل من أمسه، وغده أفضل من يومه، فلا يرضى أحدهم أن تمرّ به برهة من الزّمن وإن قصرت، دون أن يتزوّد منها بعلمٍ نافعٍ، أو عملٍ صالحٍ، أو إسداء نفعٍ للغير حتى لا تتسرّب الأعمار سدىً، وتضيع هباءً، وتذهب جفاءً، وهم لا يشعرون، وكان داود الطّائي يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز، فقيل له في ذلك، فقال: بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية.
فلنقتدِ بهم في الحرص على استثمار هذا الوقت الثّمين، وعدم التّفريط في لحظةٍ واحدةٍ منه.
3- خطر ضياع الوقت على الفرد والمجتمع
لقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إلى العمل قبل حلول العوائق، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تُنْظَرُونَ إِلاَّ إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفَنِّدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).
فإنّ حال الإنسان لا يخلو من وقوع المعوّقات؛ مِن مرضٍ أو هرمٍ أو موتٍ أو نحو ذلك، ممّا يقف حائلًا دون أداء الأعمال أو إتمامها، فوجب على الإنسان الحذر، ومَن ينظر في واقع المسلمين -اليوم وللأسف- مع أوقاتهم، يجد تفريطًا كبيرًا وإهمالًا عظيمًا من شباب المسلمين، حيث التّضييع للأوقات، والتّبديد للسّاعات؛ في غير ما يرضي ربّ الأرض والسّماوات.
إنّ الصّحة والفراغ هي الأبواب الّتي تلج منها الشّهوات المستحكمة، ويتربّع في فنائها الهوى المهلك، فكم كان الفراغ سببًا في الانحراف والفساد، وإنّ العجب ليزداد يومًا بعد يومٍ من فرح المضيّعين لأوقاتهم، حيث يقول بعضهم لبعضٍ: تعال لنقتل الوقت، وما علموا أنّهم في الحقيقة ما يقتلون إلّا أنفسهم وما يشعرون، لأنّ الوقت هو عمرهم الّذي يعيشونه، فمالهم في غفلتهم ساهون؟! والعبد مسؤولٌ بين يدي الله عن أوقاته، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ).
فلئن كان الفراغ من النّعم العظيمة، فإنّه إذا ضُيّع كان معول إفسادٍ، وأداة تحطيمٍ للجسد والرّوح، أفسد أناسًا، ودمّر قلوبًا، وشتّت أسرًا، وهدّم بيوتًا، فكم من أوقات فراغٍ لم تُحفظ، ولم تُستغلّ في طاعة الله، غفل عنها الغافلون، فنتج عن ذلك الجرائم والويلات المهلكات.
خاتمةٌ:
احفظوا أوقاتكم، واحذروا تضيعها في غير فائدةٍ، فإنّ أعظم الإضاعة إضاعة الوقت، الّتي تحدث العجز والكسل، واحذروا السّهر في متابعة الأفلام السّيئة، والمسلسلات الإجراميّة، فما أكثر العوائق والقواطع التي تضيّع على المسلم وقته، وتكاد تذهب بعمره كلّه، إذا لم يفطن إليها ويحاول التخلّص منها، ورأس تلك العوائق وأسّها: الغفلة والتّسويف، فهما سلاحان ماضيان من أسلحة الشّيطان، الّتي تفتك بالإنسان، فالتّسويف عجزٌ وكسلٌ، ومن أخذه شعارًا له، تمكّن من قلبه، حتّى تتقطّع الآمال، وتنقطع الآجال، فيأتيه ملك الموت فجأةً، وعندئذٍ يطلب الرّجوع فيحال بينه وبين الاسترجاع، وأنّى له التّناوش من مكانٍ بعيدٍ.
فالمبادرة المبادرة باغتنام أوقاتنا في طاعة ربّنا، وتقديم ما ينفعنا لأنفسنا وأمّتنا، قبل انتهاء آجالنا، والحذر الحذر من التّسويف والكسل، فإن كلمة "سوف" مهلكةٌ، وكم في المقابر من قتيل سوف.
نسأل الله صلاحًا عاجلًا إنّما الغافل في البلوى هلك
وكفانا ما مضى من بؤسنا ربّنا اكشف ما بنا فالأمر لك