1- فضائلُ في الشّهر الكريم
2- حقيقة الصّيام
مقدمة:
إنّ مِن نعم الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم عظيمةً للخيرات، تكثر فيها الطّاعات، وتُغفر فيها السّيّئات، وتُضاعف فيها الحسنات، وتتنزّل فيها الرّحمات، ومِن أجلِّ هذه المواسم وأكرمها شهر رمضان المبارك، فهو شهر البركات والخيرات، وشهر الصّيام والقيام، وشهر الرّحمة والمغفرة والعِتق من النّيران، وشهر الجود والكرم والبذل والإحسان.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا).
فإذا كان صيام يومٍ واحدٍ يُباعد العبد عن النّار سبعين سنةً، فما بالك بصيام شهر رمضان كلّه؟!
والصّيام طريقٌ إلى الجنّة وبابٌ من أبوابها، عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ).
قال الحسن البصريّ: "إنّ الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قومٌ ففازوا، وتخلّف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضّاحك، في اليوم الّذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون".
1- فضائلُ في الشّهر الكريم
إنّنا على أبواب شهرٍ كريمٍ، جعل الله فيه من الفضائل والمكرُمات ما لم يجعله في غيره من الشّهور.
وأُولى هذه الفضائل أنّ الله تعالى نزّل فيه القرآن الكريم على نبيّنا صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
وهو شهرٌ تُفتح فيه أبواب الجنّة، وتُغلق فيه أبواب النّار، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ).
وهو شهرٌ تُصفّد فيه الشّياطين ومردة الجنّ، ويُعتق الله تعالى من عباده ما شاء؛ وذلك كلّ ليلةٍ من ليالي الشّهر الكريم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ).
وإذا كان التّجّار يستعدون للمواسم الّتي تُضاعف فيها الأرباح، فحريُّ بالعبد الموفَّق أن يستعدّ لهذا الموسم العظيم؛ الّذي تُضاعف فيه الأجور بغير حدٍّ ولا مقدارٍ، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزّمر: 10].
ومِن الصّبر: الصّبرُ على طاعة الله، بل جاء في السّنّة ما يدل على مضاعفة أجر الصّيام بغير حدٍّ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عز وجل: "إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي" لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ).
ومِن فضائل هذا الشّهر العظيم: أنّ الله تعالى جعل المغفرة جائزةً لمن صام رمضان وقامه -مؤمناً محتسباً- عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
2- حقيقة الصّيام
علينا أن نعلم جميعاً أنّ حقيقة الصّوم ليست مجرد ترك الطّعام والشّراب، بل شرع الله تعالى الصّيام لأجل أن نُحصِّل التّقوى، قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
ولذا كان الصّيام الحقيقيّ هو الصّيام عن المعاصي بتركها وهجرها والكفّ عنها، وهو صوم القلب، لا فقط صوم الجوارح، وقد دلّت عموم السّنَّة وخصوصها على ذلك، وكذا جاء في كلام أهل العلم ما يبيّنه ويوضّحه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ).
فالصّائم الّذي يترك الطّعام والشّراب ولا يترك المعاصي فلا فائدة من صوْمِهِ، وليس له من الصّوم إلا الجوعُ والعَطَشُ، والله تعالى غنيٌّ عن جوعه وعطشه؛ فلا يقبل عمله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ).
وقد كان الصّحابة وسلف الأمّة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهْرةً للأنفس والجوارح، وتَنزُّهاً عن المعاصي والآثام، قَالَ جَابِرٌ: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً".
فمَن لم يدَعْ قول الكذب والحَرام والهذيان والتّلّفظ بما لا يعنيه، ومن لم يدع العمل المحرَّم بشتّى صوره وألوانه، ومن لم يدع التّعدّي على حُرمات الله وحُرمات النّاس، من لم يدع هذه المنكرات فليس لله حاجةٌ في مثل هذا الصّيام؛ لأنّه لم يحقّق معنى الصّيام، وهو التّوصل إلى التّقوى، وقد أمر رسول صلى الله عليه وسلم بالكفّ عن أيّ أمرٍ يخدش الصّيام، أو يُذهب معناه، وذلك بقوله: (قَالَ اللَّهُ تعالى: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ).
وفي روايةٍ: (فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ).
خاتمةٌ:
إنّ ممّا يُستقبل به شهر رمضان المبارك أن يتأمّل المسلم في خصائصه وميّزاته وفضائله وبركاته، ليعرف قَدر هذا الشّهر ومكانته، وليتعلّم أيضاً ما ينبغي أن يكون عليه في هذا الشّهر مِن صيامٍ وقيامٍ، ويستذكر ما يختص به من أحكامٍ، ويتأمّل في فوائد الصّيام ومنافعه، وما فيه من عِبرٍ ودروسٍ وعظاتٍ بالغةٍ، ويتأمّل في فضل قيام رمضان وما أعدّه الله جلّ وعلا للقائمين فيه من أجورٍ عظيمةٍ وفضائلَ جمّةٍ، كي لا يكون من المحرومين.
وإنّ ممّا يُستقبل به شهر رمضان المبارك أن يجاهد الإنسان نفسه بإصلاح قلبه وطرح ما فيه من غلٍّ أو حقدٍ أو حسدٍ أو ضغينةٍ أو غير ذلك.
كما يُستقبل هذا الشّهر بالعزم على التّوبة والإنابة، وهجر المعاصي والمنكرات والذّنوب وكلّ ما يُبعد عن رحمة الله تعالى.
فالمحروم من أدرك رمضان ولم يُغفر له، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ).