أيامٌ معدودات.. للتّسابق في الخيرات
1- أسرار الصّيام، والغاية منه
2- لِنغتنم نفحات المغفرة
مقدمة:
ضيفٌ عزيزٌ حطّ رحاله ببابنا بالأمس القريب، ولطالما انتظرناه بفارغ الصّبر، وعلى أحرّ من الجمر، وذلك لأنّه موسمٌ من مواسم الطّاعة والقرب إلى الله عز وجل، فكم فيه من مزايا ساميةٍ، وخصالٍ رفيعةٍ، تُقرّب العبد إلى الله زلفى، وإنّ نِعم الله تتابع علينا، وإحسانه لنا يكثر حينًا بعد حينٍ، فما تأتي نعمةٌ إلّا وأعقبتها أخرى، يرحم الله بها عباده الفقراء إليه، والمحتاجين إلى عونه وغفرانه وإنعامه، ألا وإنّ من أجلّ هذه النّعم، وأجمل هذه المنن، وأرفع هذه العطايا: إكرام الله لنا، وتشريفنا بأن أكرمنا بشهر رمضان المبارك، فيا لَسعادة من أمسك بزمام نفسه في هذا الشّهر العظيم، وشمّر عن ساعد الجدّ والعمل، وطرح القعود والكسل، فجاهد نفسه حتّى سلك بها سبيل الجنّة، وجنّبها سُبَل النّار والشّقاء فيها، ويا خسارة من سلك بها طُرق المعصية والهوان، وأوردها موارد الهلاك، فأغضب ربّه الرّحمن، رغم أنّ أسباب الهداية ميسرةٌ له لا سيّما في شهر رمضان- فأبواب الجنّة قد فُتّحت، وأبواب النّيران قد أُغلقت، وتسلسلت الشّياطين وصُفّدت، عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ).
1- أسرار الصّيام، والغاية منه
لقد شرع الله تعالى صيام شهر رمضان لحكمٍ بالغةٍ كثيرةٍ، ترجع إلى هدفٍ سامٍ وغايةٍ نبيلةٍ، بيّنها الله عز وجل في قرآنه العظيم، ألا وهي التّقوى، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فالصّيام عبادةٌ تقوّي الوازع الإيمانيّ عند المسلم، وتشكّل له حاجز وقايةٍ يحميه من تتّبع الآثام والشّرور، كما يُعظّم الصّيامُ مراقبة الله لدى النّفس الإنسانيّة، فالصّائم يمتنع عن طعامه وشرابه وما يشتهيه لنيل رضا ربّه.
إنّ مِن أسرار الصّوم: تقوية الإرادة بالصّبر، وتعريف المسلم قدر نعم الله عنده، حيث إنّ الإنسان إذا أَلِفَ النِّعمَ قلّ شعوره بها، فبضدّها تتميّز الأشياء، وبمعرفة هذه النّعم نشعر بجوع الجائعين، فتتعوّد نفسه على البذل لهم والإحسان إليهم، فيغدو المجتمع المسلم مجتمعًا متكاملًا متراحمًا، تسوده معاني الأُلفة والمودّة، ويتحقّق كمال العبوديّة لربّ العالمين.
إنّ شهر رمضان يصنع من البشر ملائكةً، فإنّ المسلم حين يتحرّك بعقيدته الإيمانيّة في مجال الصّوم، فيصوم لله إيمانًا به، واحتسابًا لوجهه الكريم، فإنّه يصير بشرّا ملكًا، حيث إنّ فضائل الصّوم تأخذ مسيرتها في نفس الصّائم، لا متناثرةً متباعدةً، ولكن متعانقةً متشابكةً، يمتزج بعضها ببعضٍ في تتابعٍ وانسجامٍ، حتّى تتشكّل في النّهاية أروع صورةٍ للإنسان الكامل، يخالط النّاس ويأكل الطّعام، ويمشي في الأسواق، فهو هنا بجسمه وسلوكه، ولكنّه هناك في الملأ الأعلى مع الملائكة الكرام في عالمها الأمثل الأفضل، فالصّائم المتحفّظ لا يُلمّ بذنبٍ، فإنّ الصّوم يغسله من ذنوبه فيعود كيوم ولدته أمّه.
عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ).
أرأيت إلى الصّوم الكامل، وهو يصنع من الصّائمين رجالًا بررةً، تجد الجنّة فيهم حشدًا من أهلها وساكنيها، فتفتح أبوابها استعدادًا لاستقبالهم، ولا تجد النّار من يدخلها فتغلق أبوابها، وتعجز الشّياطين عن ممارسة أعمالهم في البيئة الصّائمة، فكأنّهم لبطلان سعيهم قيُّدوا بالسّلاسل والأغلال، وأنّى للشّياطين أن يكون لهم عملٌ في عالم الملائكة الكرام؟! ألا وإنّ الصّوم زكاةٌ وطهارةٌ للنّفس، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ).
2- لِنغتنم نفحات المغفرة
لقد وسع حِلم الله عباده، وأكرمهم بمغفرته ورحماته، حتّى سمّى نفسه الغفّار، من كثرة مغفرته، قال عز وجل: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 66].
وجعل هذه المغفرة مشروطةً بالتّوبة والعمل الصّالح، والتزام طريق الهدى والرّشاد، فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
وجاء اسمه "الغفور" في إحدى وتسعين آيةً، وقد دلّت الآيات القرآنيّة الكثيرة على مغفرة الله لعباده وحطّه خطاياهم، حتّى لو بلغوا أعظم ذنبٍ؛ وهو الشِّرك به، ثمّ تابوا فإنّ الله يتوب عليهم، قال جل جلاله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزّمر: 53].
وإنّ رحمة الله أوسع من ذنوب العباد وظلمهم، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النّجم: 32].
ومِن عظيم رحمة الله بعباده أنّه هو من يبحث عن عباده، ويسعى إليهم ويبشّرهم بمغفرته، شفقةً عليهم وإحسانًا لهم، فيدعوهم إلى التّوبة، ويخبرهم أنّه أكثر تقرّبًا إليهم من تقرّبهم إليه، وأسرع إليهم من سرعتهم إليه، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللهُ: مَنْ جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً).
ولقد قرن الله تعالى بين اسمه "الغفور" واسمه "الودود"، فقال: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14].
وقرن بين اسمه "الرّحيم" واسمه "الودود"، فقال: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90].
وما ألطف هذا الاقتران؟! قد يغفر الرّجل لمن أساء إليه ولا يحبّه، وكذلك قد يرحم من لا يحبّ، والرّب يغفر لعبده إن تاب إليه ويرحمه ويحبّه، فإنّه يحبّ التّوّابين، وإذا تاب إليه عبده أحبّه ولو كان منه ما كان.
وقال الحسن معلّقًا على أصحاب الأخدود: "انظروا إلى الكرم والجود، يقتلون أولياءه ويفتنونهم، وهو يدعوهم إلى التّوبة والمغفرة، فلا ييأس العبد من مغفرته وعفوه، ولو كان منه ما كان، فلا عداوة أعظم من هذه العداوة، ومع هذا فلو تابوا لم يعذّبهم، وألحقهم بأوليائه".
خاتمةٌ:
قال الله جل جلاله عن شهر رمضان: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184].
فلقد وصف الشّهر بالأيّام المعدودات، من باب التّسهيل والتّسلية للمؤمنين، والتّخفيف من معاناة الصّوم، وليس على سبيل تحسيرهم بقلّة أيّامه، وأيضًا إشارةٌ إلى أنّه ما هو إلا أيّامٌ سريعة الزّوال، ويذهب النّصب بعدها ويبقى الأجر، فما بدأ شيءٌ إلا تناقص، وما تمّ شيءٌ إلا زال، فلننتهزها قبل رحيلنا، ولنحذر أن يكون فتورنا في وقت الغنائم وأزمنة السّباق، فإنّ أعظم الغبن تفويت مواطن القربات، فالشّهر قصيرٌ لا يحتمل التّقصير، وقدومه عبورٌ لا يقبل الفتور، فالهمّة الهمّة، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} [المطفّفين: 26].
فالدّنيا مزرعةٌ للآخرة، وهي ساعةٌ يعمرها المؤمن بالطّاعة، فالأنفاس تُعدّ، والرّحال تُشدّ، فالسّعيد من وُعِظ بغيره، والشّقي من وُعظ بنفسه.
شهر رمضان ساحةٌ فريدةٌ، جمعت الكثير من صنوف الطّاعات، من صيامٍ وقرآنٍ وصدقةٍ، وإحسانٍ وذكرٍ ودعاءٍ وقيامٍ، وكلّما انتهى العبد من عبادةٍ كان على موعدٍ مع عبادةٍ أخرى، وهذا معنى قول الله مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشّرح: 7].
فإذا فرغنا من الصّلاة فلننصبْ أنفسنا للذّكر والقرآن والدّعاء ونحوها، فمهما قدّمنا من الطّاعات رأيناه قليلًا يوم القيامة.
ألا ما أحوج أمّتنا -اليوم- إلى أن تستفيد من هذا الشّهر العظيم، فهو موسمٌ للمتّقين، ومتجرٌ للصّالحين، وميدانٌ للمتسابقين، ومغتسلٌ للتّائبينِ، فَلْنُرِ الله من أنفسنا في هذا الشّهر المبارك خيرًا، قبل انفراط عقده، وتصرّم أيّامه، فإنّه أشدّ تفلّتًا من الإبل في عقلها، ولنُقبل على ربٍّ كريمٍ رحيمٍ، بقلوبٍ صادقةٍ خاشعةٍ تائبةٍ، قبل فوات الأوان.