1- الثّبات على الطّاعات
2- تجاه المسجد الأقصى مسؤوليّاتٌ وواجبات
مقدمة:
لَقَد ودَّع المؤمنون مَوْسِماً عظيماً فاضلاً، أَقْبلتْ فيه القلوب عبادةً وطاعةً، وتنافس فيه العِباد بأنواع القُربات وصُنوف العبادات؛ فذاك حريصٌ على خَتْم القرآن، وآخر متفقِّدٌ حاجةَ المساكينِ والأراملِ والأيتامِ، وثالثٌ مقبِلٌ على العبادةِ والصّلاةِ والقيامِ، ورابعٌ يَجْمَعُ لنفسهِ من صنوف الخيرات وأبواب العبادات ما تَيَسَرَ لهُ منها، ولكلٍّ في الخير وجهةٌ هو مولِّيها، متسابقون في الخيرات والطَّاعات.
وإنَّ مِنْ علاماتِ قبول الطَّاعة: طاعةٌ بعدها، والحسنة تنادي أختها، وإنّ مِن علامة قبول طاعة الصِّيام والقيام في شهر رمضان: أن تكون حال العبد بعد رمضان حال سكينةٍ ووقارٍ وشكرٍ لله تبارك وتعالى، وإحسانٍ في الإقبال على الله جل جلاله، فإذا كان العبد كذلك فإنّ ذلك مِن أمارات القبول وعلامات الخيريّة، أمّا إذا كانت حالُ العبد بعد رمضان تحوُّلاً من الطَّاعة إلى الغفلة وإقبالاً على المعاصي والآثام فليس ذلكم من أمارات الخير.
وإنَّ ربَّ الشُّهور واحدٌ، فربُّ رمضان هو ربُّ شوّال وربُّ الشُّهور كلِّها، فكن ربَّانياً ولا تكن رمضانيّاً، أي لا تكن طاعتك لله وعبادتك له سبحانه وتعالى محدودةً بهذا الشَّهر، بل حياتك كلّها موسمٌ لطاعة الله جلّ وعلا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
وكما أنَّ الله تعالى هو ربُّنا وربُّ الشُّهور كلِّها وربُّ كلِّ شيءٍ، فينبغي علينا أنْ نتحقّق بمقام عبوديّتنا لله تعالى، فلسنا عبيداً بوقتٍ دون وقتٍ، ولا شهرٍ دون شهرٍ، قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
ونحنُ في أيّام تجلّي العبوديّة لله تعالى -بأبهى معانيها- نستذكر أنّ الله تعالى وصف النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آية الإسراء الّتي تتحدّث عن دخوله المسجد الأقصى -للمرّة الأولى- بالعبوديّة، وذلك في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1].
وكذلك في مطلع سورة الإسراء عند الحديث عن معركة دخول بيت المقدس يقول تعالى: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً} [الإسراء: 5].
فقد وصف الّذين دخلوا المسجد في المرّة الأولى بأنّهم عبادٌ له سبحانه.
1- الثّبات على الطّاعات
إنَّنا وقد ودّعنا شهر رمضان المبارك، لينبغي أنْ نُذكِّر أنفسَنا بأنَّ انقضاء شهرِ رمضان لا يعني انقضاء موسم المحافظة على العبادات -فرضها ونفلها- بل إنَّ العمر كلَّه موسمٌ لعبادة الله تعالى، وميدانٌ لطاعته، ولا حدَّ للعبادة ولا للاجتهاد فيها إلَّا بالموت.
وإنَّ بعض النَّاس كان في رمضان محافظاً على الصَّلاة المفروضة، بل محافظاً على صلاة الجماعة وعلى صيام الفريضة وعلى قيام اللَّيل وعلى تلاوة القرآن، وربّما ختم القرآن مرّاتٍ ومرّاتٍ، وما إِنْ يخرج الشَّهر حتّى يعود كما كان قبل رمضان أو أسوأ، لا يكاد يصلّي فريضةً، فضلاً عن شهود الجماعة، فضلاً عَنْ نوافل الصَّلاة والتِّلاوة.
ولا شكَّ أنَّ المعصيةَ بعدَ الطّاعةِ والضعفَ بعدَ الاجتهادِ ليست علامةً طيّبةً، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَافَرَ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ).
والحَوْرُ بعد الكَوْرِ أي الكفر بعد الإيمان أو المعصية بعد الطّاعة أو الضّلالة بعد الهدى أو النّقص بعد الزّيادة.
ولقد مدح الله تعالى أهل الاستقامة وبشَّرهم بالبشائر العظيمة، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصّلت: 30-31].
لأنَّ أهل الاستقامة هم الّذين توافيهم الآجال وهم مؤمنون متّقون صالحون، بخلاف مَنْ كان على عملٍ صالحٍ ثمّ انحرف وضلّ، ففاجأه الأجل على حال أهل التَّفريط والإهمال والتَّضييع -والعياذ بالله- ولقد كان مِنْ هدي نبيّنا صلى الله عليه وسلم ديمومة العبادة والعمل، دون انقطاعٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَخْتَصُّ مِنَ الأَيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: "لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُطِيقُ".
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ).
2- تجاه المسجد الأقصى مسؤوليّاتٌ وواجبات
مع وداع المسلمين لشهر رمضان المبارك واستقبالهم لبهجة العيد وأفراحه، كان الحقد اليهوديّ حاضراً -باقتحامهم للمسجد الأقصى- وقَدْ جهَّزوا لهذا الاقتحام ألفي مغتصِبِ محتَلٍّ مِنْ أحفاد القردة والخنازير، وقد تجمَّع الأخيار والأطهار مِنْ المرابطين مِنْ أبناء الأقصى المبارك ليصدّوا هجمه الصّهاينة المعتدين.
ولئن تجمّع هؤلاء الأطهار للقيام بواجبهم الّذي فرضه الله تعالى عليهم؛ مِنْ حماية المقدَّسات والدِّفاع عن الحُرمات، فما هو الواجب علينا تجاه أقصانا الحبيب وتجاه إخواننا المرابطين؟!
أوَّل الواجبات وأولاها: أَنْ نجاهد بأنفسنا وأموالنا لردّ عادية اليهود عَنْ أقصانا المبارك، فإن تعذَّر الجهاد بالنَّفس -لصعوبة الوصول وانعدام القدرة عن المشاركة بالقتال- فلا بدّ وأَنْ نبذل المال لنصرة إخواننا وللدِّفاع عَن مقدّساتنا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72].
ولنعلم أَنَّ ما نقدمه مِنْ مالٍ وغيره مِن المساعدات، ليس نافلةً أو تفضُّلاً أو تبرّعاً أو تطوّعاً، وإنّما هو واجبٌ وحقٌّ.
ومِن الواجب علينا أيضاً: فضح اليهود وتعريتهم وبيان مخطّطاتهم، والعمل على كشف باطلهم، بكلّ الوسائل المتاحة، إمّا بحملاتٍ منظَّمةٍ، أو بمظاهراتٍ، أو بوسائلِ الإعلام المتنوّعة، ففي ذلك شدٌ لأزر المرابطين وإساءةٌ لوجوه الصّهاينة الغاصبين، قال الله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 6].
فالمناصرة في حقِّنا واجبةٌ بلا شكٍّ، والتّقصير فيها عارٌ في الدّنيا والآخرة، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ).
وعَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ).
وفي الوقت الّذي نرى فيه المرابطين في القدس والمسجد الأقصى المبارك يُسرجونه بالدّم والأرواح، يسأل كلّ واحدٍ منّا نفسه: ماذا سأبعثُ للمسجد الأقصى المبارك من جهدٍ ماديٍّ ومعنويٍّ؟ وما الّذي سأُسرج به قناديل مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
خاتمةٌ:
تستمرّ الطَّاعات والعبادات طوال السّنة، ولا تنحصر بشهر رمضان أو بموسمٍ معيّنٍ، فيجدر بالمسلم تحقيق المراقبة الذَّاتيّة، واستشعار مراقبة الله له، بأَنْ يستشعر أنَّ الله معه، مُطّلعٌ على عمله، وأنّه حاضرٌ وشاهدٌ لِما يفعله؛ فيحرص على طاعته وطلب مرضاته، في قَوْله وفِعْله، وسرِّه وعَلَنهِ، فيُقبِل على عبادة الله كأنّهُ يراه، ومِنْ الأمور التي يُطْلَب الاستمرار عليها بعد رمضان: استقامة السُّلوك، فمَنْ تضاعفت جهوده في رمضان، حريٌّ به ألَّا يتراجع بعد رمضان، فَيَبتَعِد عَن الذُّنوب والزَّلات، ولا يغفل عَن الطَّاعة وفعل الخير، وإِنْ أخطأ أو أذنب؛ عاد واستغفر وأناب، كما يجدر بالمسلم الحرصُ على أن يَخْتِمَ أجله بالخير، ومِن الأعمال الّتي يجدر بالمسلم المداومة عليها: تلاوة القرآن الكريم، ومُدارسته؛ بحيث يجعل المسلم وقتاً خاصَّاً لذلك مِن يومه، فلا يَهْجره، ويَستمرَّ أيضاً في مواساة الفقراء والضُّعفاء، وتَفقّد أحوالهم، وتقديم المساعدات لهم.
ولا ننسى أَنْ نؤكد على موقفنا تجاه أقصانا الحبيب، وأَنْ يكون في أُولى اهتماماتنا، وأَنْ ننصره بما نستطيع، وأَنْ نبذل الوقت والمال لذلك، وأَنْ نعمل على فضح اليهود وما يخطّطونه للمسجد الأقصى، وما يقومون به مِن أعمالٍ وحشيّةٍ لا ترعى حُرمةً لأولى القبلتين، وأَنْ لا يكون موقفنا هذا ردّةَ فعلٍ آنيّةٍ مرتبطةٍ بما ينقله الإعلام لنا عبر الصَّفحات أو المرئيّات، بل لا بدّ وأَنْ يكون تحرّكنا نابعاً مِنْ معتقداتنا وقناعاتنا أَنَّ المسجد الأقصى مِنْ أقدس مقدّساتنا الّتي يجب العمل على تحريرها مِن رجس اليهود.