1- الحاكم المستحقّ للطّاعة
2- النِّفاق والخِذلان مِن عُلماء السّلطان
مقدمة:
مُنْذُ خَمسينَ عاماً -أو يزيدُ- تسلَّط على رقاب الشّعب السّوريّ طاغيةٌ باطنيٌ ظالمٌ، باسم رئيس الدّولة السّوريّة، عَن طريق انقلابٍ دمويٍّ، وأكمَل مسيرته الإجراميّة؛ بعدّة مجازر جماعيّةٍ واعتقالاتٍ تعسفيةٍ واغتيالاتٍ فرديةٍّ، على مرِّ عقودٍ مِنْ حُكمه الظَّالم، واتَّسم حُكمه بالقمع والإكراه والظُّلم والاستبداد، وتَدْجِين الشَّعب بسياساتٍ مرسومةٍ، يُنفِّذها جملةٌ مِن المنتفعين والحمقى والمغفّلين، على مرِّ سنواتٍ طويلةٍ، وفي كلِّ دورةٍ انتخابيّةٍ نرى تجديد البيعة، وتحويل المشهد إلى مهرجاناتٍ وأعراسٍ وطنيّةٍ ومسرحيّاتٍ تُكتبُ فُصولها في أقبية المخابرات المظلمة، ثمَّ قهر الله تعالى حافظ الأسد بالموت -كما قهر غيرَه مِن الجبابرة والطُّغاة- واستقرَّ الحُكم لشيطانٍ آخر مِن شياطينِ الإنسِ، وورث كرسيَّ الرِّئاسةِ عَن والده كأنَّه تركةٌ خاصّةٌ مِن ترِكة والده الطَّاغية، وأكمل الولد مسيرةَ والدهِ بطريقةٍ مُشابهةٍ؛ في تجديد الحُكم مرّةً بعد مرّةٍ، عن طريق مسرحيّاتٍ هزليّةٍ ومهرجاناتٍ راقصةٍ ودَبَكَاتٍ ماجنةٍ واجتماعاتِ زمرةٍ مِن الحمقى و المغفَّلينَ والمُصَفِّقِينَ والمُطَبِّلِينَ وأَصْحابِ الضَّمائرِ المأجورةِ والمُنْتَفِعينَ، ومِن أبرز هذه الشَّخصياتِ الّتي تصدَّرت الحَمَلاتِ الانتخابيّةِ الزَّائفةِ: ثُلَّةٌ مِن الفاسدينَ مِن أهل الضَّمائرِ والعمائم المأجورة، ومِمَّن انْتسب زوراً وبهتاناً إلى العِلمِ وأهله، وممّا يزيد الأسفَ أسفاً أَنَّا نَرَاهُم تصدَّروا المشهدَ بغالبيّةِ فُصُولِهِ -في اجتماعاتٍ ومهرجاناتٍ- مؤكّدينَ تجديدَ بيعتهم العفنةِ للطّاغيةِ المجرمِ، وكأنَّهم يوقّعونَ على إعدامِ وتهجيرِ ما تبقّى مِن الشَّعب المكلومِ، فبأي دينٍ يتحدّثونَ؟! وعَن أي مسخٍ يُدافعون؟! عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ تِسْعَةٌ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعَةٌ أَحَدُ العَدَدَيْنِ مِنَ العَرَبِ وَالآخَرُ مِنَ العَجَمِ فَقَالَ: (اسْمَعُوا، هَلْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ؟ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيَّ الحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الحَوْضَ).
1- الحاكم المستحقّ للطّاعة
صِنفانِ مِن النَّاس تصلُح الأُمّة بصلاحهما وتفسُد الأُمّة بفسادهما؛ العالِم والحاكِم، فالعالِم يُصلِح دِين النّاس بالنُّصح والتّعليم والتّوجيه، والحاكِم يُصلح دُنيا النّاس بتدبير أمورهم وإصلاح شؤونهم.
والحُكم أمانةٌ عظيمةٌ، يجعلها الله تعالى في عُنق من يشاء من عباده، فيجب على الحاكِم أن يكون ناصحاً أميناً عادلاً، يؤدّي حقوق رعيّته، وينصح لهم ويعدِل بينهم، ويسوس أمورهم، ويُدير شؤونهم، ويُصلح حالهم، وهذا ما دلّت عليه صريح الآيات وصحيح الأحاديث ومحاسن المأثور.
فالنُّصح: للحاكم والمحكوم واجبٌ، ولكنّه أشدُّ وجوباً لكلّ حاكِمٍ، عَنْ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ رضي الله عنه قَاْلَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ، وَيَنْصَحُ، إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ).
وعَنْ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ رضي الله عنه قَاْلَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ).
ويجب أن يكون الحاكم قويّاً أميناً على حقوق من هم تحت سلطانه، فالخائن والضّعيف لا يصلحان لتولّي شؤون النّاس، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا).
والعدل: واجبٌ على عامّة النّاس وخاصّتهم، ولكنّه على الحُكّام أشدّ وجوباً، فلقد أمر الله تعالى به عندما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النّحل: 90].
وجاءت البشرى النّبويّة للحاكم العادل بظلّ عرش الرّحمن في يومٍ عبوسٍ عصيبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ).
وبشّره بجنّةٍ عرضها السّماوات والأرض، فقد ورد عَنْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنّه قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: (أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ).
2- النِّفاق والخِذلان مِن عُلماء السّلطان
وأنت تُتابع المسرحيَّة الانتخابيَّة الهزليَّة لطاغية الشَّام، يشدُّ انتباهك ويَبعث في نفسك الدّهشة: جموعٌ غفيرةٌ وعمائمٌ كثيرةٌ اجتمعت في محافلَ، وجُهْدُها واجْتِهادُها تلميعُ صورةِ ذلك المجرم، وقد عَمِيَتْ أعينُهم عَن الملايين مِن الأبرياء؛ بين قتيلٍ ومعتقلٍ ومُهجَّرٍ ومشرَّدٍ وأرملةٍ ويتيمٍ، وعَن مجزرةٍ تتلوها مجزرةٌ بشتَّى أنواع السّلاح، وتغافلوا عن شُذَّاذ الآفاق وملوك الإجرام والارتزاق الّذين جلبهم بشَّارُ الأسدِ لقتل شعبه الأعزل الضَّعيف، فما بقي سلاحٌ إلا وتمّ استخدامهُ وتجريبهُ على شعبٍ لا حول له ولا قوّة، بل صُمَّت آذانهم عَن صُراخ المعتقلَات والمغتصبّات مِن الحرائر الطَّاهرات العفيفات، لقد بلغ ظُلم طاغية الشَّام مُنتهاهُ، فتعجز الكلمات عن وصف قبح هذه الحرب وبشاعتها؛ الّتي كان ضحيّتُها شعبٌ ضعيفٌ مكلومٌ أعزلٌ، وبعد كلِّ هذا، نرى جموعاً مِن عُلماء السُّوء، ومِمَّن انتسب إلى العلم الشَّرعيّ زوراً وبُهتاناً، وارتفعت أصواتُهم لتكملَ شلَّال الدَّم الطَّاهر الّذي أجراه الطَّاغيةُ ابن الطَّاغيةِ على أرض سوريّة، يرفعون أصواتهم بِقال الله تعالى، ويتحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يجدّدون بيعة الظُّلم للظَّالم، فبشِّرهم ببُعدهم عن الله ورسوله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السُّلْطَانِ دُنُوًّا إِلَّا ازْدَادَ من اللَّهِ بُعداً).
وبشِّرهم بحِرمانهم من رائحة الجنّة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
لقد خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّته منكم -يا أئمّة الضّلال- عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ).
فنوصيكم بالتّوبة والعودة عمّا أنتم عليه، فأنتم على خطرٍ عظيمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا).
خاتمةٌ:
إنَّ مِن أشراط السَّاعة الّتي تأتي على النَّاس بالشّرِّ المُسْتطير: أَنْ يتولَّى الحُكم مَنْ ليس أهلاً له، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ).
ومِن أَخْطر ما يفعلُه مَن تولَّى أمر العامّة أَنْ يَحِيَد عَن الحقِّ عناداً، ويعصي الله فِيهم استكباراً، ويحكم فيهم بالأهواء الشَّيطانيّة والرَّغبات الّتي تُمْلِيها عليه نفسه الأمَّارة بالسُّوء.
وفي الوصيَّة الرَّائعة الّتي أرسلها التّابعيُّ الجليل الحسنُ البصريُّ، إلى الخليفة العادل الصَّالح عمرَ بنِ عبد العزيز، وصفٌ دقيقٌ للحاكمِ العدلِ الرّحيمِ الشّفيقِ، حيث قال: في وصيّته: "والإمام العادل -يا أمير المؤمنين- كالأبِ الحاني على وَلدِه، يسعى لهم صغاراً، ويعلّمهم كباراً؛ يكتسبُ لهم في حياته، ويدَّخِرُ لهم بعدَ مماتِهِ.
والإمام العدل -يا أمير المؤمنين- كالأمِّ الشفيقةِ البرَّةِ الرَّفِيقَةِ بولدها، حملتهُ كُرْهَاً، ووضعتهُ كُرْهَاً، وربَّتهُ طِفْلاً تسهرُ بسهرِهِ، وتسكنُ بسكونِهِ، ترضعُهُ تارةً وتفْطمُهُ أخرى، وتفرَحُ بعافيتِهِ، وتغْتَمُّ بشكَايَتِهِ.
والإمام العدل -يا أمير المؤمنين- وَصِيُّ اليتامى، وخازنُ المساكينِ، يُرَبِّي صغيرَهم، ويمونُ كبيرَهُم.
والإمام العدل -يا أمير المؤمنين- كالقلبِ بينَ الجوارِحِ، تَصْلُحُ الجوارحُ بصلاحِهِ، وتَفْسُدُ بفسادِهِ".
لمثل هذا الحاكم تُجدَّدُ البيعاتُ وتُعقدُ الاجتماعاتُ، لا كاجتماعاتِ وبيعاتِ علماء السُّوء والضَّلال؛ لقاتِلٍ ظالِمٍ مجرِمٍ طاغيةٍ، فقد الإنسانيّة والرَّحمة وانسلخ من فِطرته البشريَّة.