1- الرّضا جنّة المؤمن في الدّنيا قبل جنّة الآخرة
2- صورٌ مِن الرّضا في حياة الأنبياء والصّالحين
مقدمة:
عند ازدياد الكُربات، وتكاثر الأزمات، واشتداد المدلهمّات، وتآمر الأعداء، وإحاطة البلاء، وأمام رؤية الأشلاء المتناثرة، والمساجد والبيوت المدمَّرة، وأمام تكالب الأعداء لقتالنا، وتخلّي الصّديق عنّا، عندئذٍ قد نسمع مِن بعض النّاس الشّكوى والتّسخّط على أقدار الله سبحانه وتعالى، فهذا يشكو مرضًا وفقرًا وتهجيرًا، وآخر يشكو غلاءً ووباءً وضيقًا، ويا تُرى، لمِن يشتكي هؤلاء؟ أيشكون الخالق القويّ الغنيّ، للمخلوق الضّعيف الفقير، الّذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؟ فكيف يملك ذلك لغيره؟! ولكن إذا نظرت نظرة متأمِّلٍ في أحوال هؤلاء جميعًا، تجد أنّ القاسم المشترك هو: أنّ القلوب حُرمتْ نعمة الرّضا، الّتي هي بحاجةٍ ماسّةٍ إليها، حاجة الأحياء إلى الماء، وحاجة الإنسان للهواء، والمريض للدّواء، لتطرد عنها الوهن والقلق والسّخط.
الرّضا: هو: عكس السّخط، والرّضا: هو سكون القلب لما اختاره لك الرّبّ جل جلاله، واليقين بأنّ الخير فيما قضاه الله وقدّره.
الرّضا: هو السّياج الّذي يحمي المسلم مِن تقلّبات الزّمن، وهو البستان الوارف الظّلال الّذي يأوي إليه المؤمن مِن هجير الحياة، وبدونه يقع فريسةً لليأس، و تتناوشه الهموم والغموم مِن كلّ حدبٍ وصوبٍ، ولن يجد ملاذًا ولا راحةً مِن أمراض القلوب، وسخط علّام الغيوب، إلّا بالرّضا بما أراده سبحانه، وإنّ ما نشاهده اليوم مِمّا حلّ بأمّتنا الإسلاميّة، مِن ضعفٍ وشتاتٍ، وفقرٍ ولألواءٍ، ومحنٍ عظيمةٍ، ومآسٍ شديدةٍ، تزيد مع زيادة الأيّام، وما تتعرّض له الأمّة مِن نكباتٍ ونكساتٍ، يحدث كلّ هذا عندما تستبدل الأمّة رضا ربّها برضا دنياها وشهواتها، و تسعى لطلب رضا أعدائها، فيزداد شقاؤها، و يا ليتها تعود -اليوم- إلى طريقها المستقيم، لتعود لها خَيريّتها ومكانتها، ويرضى عنها خالقها، ويبقى كلّ مسلمً يناجي ربّه سبحانه قائلًا: "اللهمّ أرضني بقضائك، وبارك لي في قدرك"، حتّى يكرمه الله بذلك، فيصبح عنده وقتئذٍ المرّ حلوًا، والصّعب سهلًا، والمنع عطاءً، والتّقتير سعةً.
نسأل الله بما يقضي الرّضا حسبي الله، بما شاء قضى
قد أردنا، فأبى الله لنا وأراد الله شيئًا فمضى
ربّ أمرٍ، بتُّ قد أبرمتُه ثمّ ما أصبحتُ إلا فانقضى
1- الرّضا جنّة المؤمن في الدّنيا قبل جنّة الآخرة
لقد شاء الله جل جلاله بحكمته، ألّا تكون حياة النّاس يُسرًا خالصًا، أو عُسرًا محضًا، بل خيرًا وشرًّا، غِنىً وفقرًا، صِحّةً وسقمًا، فرحًا وحُزنًا، فدوامُ الحالِ من المُحالِ.
ثمانيةٌ تجري على النّاس كلّهم ولا بدّ للإنسان يلقى الثّمانية
سرورٌ وهمٌّ، واجتماعٌ وفرقةٌ وعسرٌ ويسرٌ، ثمّ سقمٌ وعافيةٌ
وكلّ ذلك ابتلاءٌ مِن المولى جل جلاله لعبده، ولكن ما يُهوّن هذا البلاء على الإنسان -مهما عظُم واشتدّ- هو رضاه عن خالقه، ويقينه أنّ ما قدّره الله هو خيرٌ له، وإنّه لعربون محبّةٍ من الله لعبده، أن يحبّه ربّه سبحانه وتعالى فيبتليه ثمّ يصطفيه، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: (الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ).
لذا كانت نعمة الرّضا مِنّةً ربّانيّةً، وعبادةً قلبيّةً، رفيعةَ الشّأن، وراحةً نفسيّةً لا ينالها إلّا من عمر قلبه بالإيمان، وهي بوّابةٌ لرضا الله سبحانه عن عبده، قال تعالى في وصف المتّقين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التّوبة: 100].
فالرّضا أساسُ كمال الإيمان، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا).
وما أجمل نداء الرّحمن، لعباده في الجنان، ليخبرهم بالرّضوان، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا). فهل بعد هذا من إكرامٍ؟
إنّ نعمة الرّضا مطلب كلّ مؤمنٍ، لأنّ مَن نالها عاش حياته سعيدًا، مطمئنّ البال، في نعيمٍ دائمٍ، قال ابن القيِّم: "الرّضا باب الله الأعظم، وجنّة الدّنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبّين، ونعيم العابدين، وقرّة عيون المشتاقين".
وإنّ ممّا يعين العبد على الوصول إلى مقام الرّضا، أن يقنع بما قسم الله له في دنياه، وأن ينظر إلى مَن هو دونه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ).
2- صورٌ مِن الرّضا في حياة الأنبياء والصّالحين
الرّضا خُلقٌ كريمٌ، تخلّق به الأنبياء والصّالحون، فهذا إسماعيل عليه السلام قال الله سبحانه فيه: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55].
وهذا موسى عليه السلام كان يعجل إلى رضاء ربه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
ولقد كان سليمان عليه السلام يسأل ربّه سبحانه في دعائه؛ الرّضا عن عمله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النّمل: 19].
ولقد دعا زكريّا عليه السلام ربّه أن يرزقه ولدًا يكون مرضيًّا، قال تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5-6].
وأخبر الله عز وجل نبيّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم أنّه سيعطيه حتّى يرضيه، فقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضّحى: 5].
والرّضا كان دَيدنَ آل إبراهيم عليه السلام، عَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنه قَالَ: "لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ، خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إِسْمَاعِيلَ، وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ، فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ، قَالَتْ: رَضِيتُ بِاللَّهِ".
ألا ما أكثر المواقف المشرقة النّاصعة في حياة الصّحابة والصّالحين، والّتي تُتَرجم كمال الرّضا عن الله جل جلاله إلى واقعٍ عمليٍّ، فهذا سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه لمّا قدم إلى مكّة، وكان قد كُفّ بصره، فجاءه النّاس يُهرَعون إليه، كلّ واحدٍ يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا، ويدعو لهذا، وكان مُجاب الدّعوة، قال عبد الله بن أبي السّائب رضي الله عنه: "فأتيته وأنا غلامٌ، فتعرّفتُ عليه، فعرفني، وقال: أنت قارئُ أهل مكّة؟ قلت: نعم، فقلت له: يا عمّ: أنت تدعو للنّاس، فلو دعوت لنفسك، فردّ الله عليك بصرك، فتبسّم، وقال: يا بنيَّ: قضاء الله عندي، أحسن من بصري".
ولمّا نزل بحذيفة بن اليمان رضي الله عنه الموت، جزع جزعًا شديدًا، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: "ما أبكي أسفًا على الدّنيا، بل الموت أحبّ إليّ، ولكنّي لا أدري على ما أقدم، على الرّضا أم على سخطٍ".
وهكذا نجد أنّ نِعمة الرّضا تُثمر الرّاحة النّفسيّة للإنسان، وتُنزل على قلبه الطّمأنينة والسّكينة، وتُبعد عنه أزمات القلق والتّوتّر، لأنّ مَن ملأ قلبه مِن الرّضا بما قدّر الله وقضاه، ملأ الله سبحانه صدره غنىً وأمنًا، ومَن فاته حظّه مِن الرّضا؛ امتلأ قلبه بضدّ ذلك، واشتغل عمّا فيه سعادته وفلاحه.
خاتمةٌ:
بعد أنْ علمنا أنَّ مَن كان راضيًا عن الله سبحانه في السّرّاء والضّرّاء، وفي العُسر واليُسر، وفي جميع الأحوال، كان ممّن أكرمهم الله عز وجل بنعيم العاجلة، قبل نعيم الآخرة، وبعد أن عرفنا أنّ نعمة الرّضا خُلق الأنبياء والصّالحين والمقرّبين، فما أحوجنا أن نتمثّل بهذا الخلق العظيم، ونسلّم لأمر الله وقضائه، لا سيّما ونحن نتجرّع شتّى أنواع الغُصص والمصائب الجمّة، الّتي حلّت بنا، ممّا تقشعرّ لها الأبدان، وتشيب لأجلها الرّؤوس، فإذا ما أكرمنا الله بهذا الخُلق، عشنا في راحة بالٍ، وانشراح صدرٍ، وطمأنينة قلبٍ، رغم كلّ ما يصيبنا، ولكنْ علينا أنْ نعلم أنّ الرّضا لا يعني السّلامة الذّليلة، والرّاحة البليدة، والتفرّغ مِن دوافع التّطلّع والتّجربة والمعرفة، فهذا لَعمرِي سقوطٌ للهمّة، وانحناءٌ للهامة، بل الرّضا هو الاطمئنان لحكمة الله وقدَره، من غير سخطٍ ولا اعتراضٍ، ومحرّكٌ في الوقت ذاته للجِدّ والعمل، والسّعي للارتقاء بالأمّة إلى سدرة المجد.