1- درسٌ مِنْ استجابة الخليل لأمر الله الجليل
2- الأُضحية سنَّة أبينا إبراهيم عليه السلام
مقدمة:
لقد أظلَّنا يومٌ عظيمٌ مباركٌ، هو أعظم أيَّام العام وأشرفها، إِنَّه يوم النَّحر، ويوم الأضحية، ويوم الحجّ الأكبر، هو خير الايَّام عند الله تعالى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ).
في هذا اليوم نتذكَّر قصَّة أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، عندما سأل إبراهيمُ ربَّه أَنْ يرزقه ولداً صالحاً يكون عوناً له ومؤنساً، فجاءته البشرى بولده إسماعيل عليه السلام، فَلمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وصار شابّاً يافعاً قويّاً، جاء الأمر الإلهيُّ لأبينا إبراهيم بذبح ولده إسماعيل، قال الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ} [الصّافّات: 102].
كيف يذبح الوالد ولدَه؟ وخصوصاً أَنَّه رُزِقَ به بعد طول انتظارٍ وإلحاحٍ في الدُّعاء والطَّلب مِن ربِّ الأرض والسَّماء، إِنَّه امتحانٌ عظيمٌ ظهرت نتائجه الباهرة، فلقد صدَّق إبراهيمُ الرُّؤيا وصدَّق إسماعيل أباه، قال الله تعالى: {فَلَمَّآ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ * وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ * قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ} [الصّافّات: 103-105].
هذا هو الإسلام الصَّادق والإيمان الرَّاسخ، إِنَّها الطَّاعة لله تعالى والتَّسليم لأمره، وهذا ما يُرِيده الله تعالى مِن العباد، فلمَّا ظهر التَّسليم والطَّاعة مِن أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل إ جاء الفداء بالذِبْحِ العظيم، وكان الفداء كبشاً مِن الجنَّة.
1- درسٌ مِنْ استجابة الخليل لأمر الله الجليل
في قصَّة أبينا إبراهيم مَع ولده إسماعيل دروسٌ وعبرٌ عظيمةٌ، ولَكِنْ سنقف عِنْدَ درسٍ واحدٍ مِنْ هذه الدُّروس، ألا وهو استجابة إبراهيم عليه السلام لربِّه جل جلاله عندما أمره أَنْ يذبح ولدَه الوحيد، ولنا أَنْ نتخيَّل هذا الموقف عِنْدَما نَعْلَمُ أَنَّ إبراهيم -الشَّيخ الكبير، المقطوع مِن الأهل والقرابة، المهاجر مِن الأرض والوطن- قد رزقه الله تعالى بغلامٍ حكيمٍ حليمٍ بعد أَنْ جاوز الثَّمانين مِنْ عُمُرِهِ، ولطالما تطلَّع إليه، وألحَّ على ربِّه بدعواتٍ أَنْ يرزقه ربُّه بغلامٍ.
مع صعوبة الموقف وثِقَلِ الأمر على النَّفس، وأيُّ أمرٍ هذا؟! أَنْ يذبح الأبُ ابْنَهُ بعد أَنْ طال انتظارُهُ له، ولَكِنَّ خليل الرَّحمن لم يتردد ولم يُفكِّر، وإِنَّمَا سارع لتطبيق أمر الله تعالى مسلِّماً مؤمناً محتسباً، فالدَّرس الّذي يعلِّمنا إيَّاه نبيُّ الله إبراهيم: أَنَّ شأن العبد أَنْ يُبادر إلى الائتمارِ بأمر مولاه؛ دُوْنَ تردُّدٍ وسؤالٍ، وإِنَّما شأنه كما قال ربنا سبحانه: {وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} [البقرة: 285].
فإبراهيم عليه السلام سارع لما أمره الله تعالى به، مع أَنَّ ما أُمِرَ به شاقٌّ على النَّفس ولا يُطِيُقُه بشرٌ، دُوْنَ أَنْ يجد في نفسه حرجاً، وهكذا أمرنا ربّنا جل جلاله أَنْ نتعامل مع أوامره ونواهِيْهِ وأحكامه قال ربنا سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} [النّساء: 65].
وأَمَرَ ربُّنا تبارك وتعالى بالاستجابة لله ولرسوله، لأَنَّ في ذلك السَّعادة في الدُّنيا والآخرة، قال الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} [الأنفال: 24].
فَمَنْ أطاع الله ورسوله دخل الجنَّة، ومن عصى الله ورسوله دخل النَّار، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى).
في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله كلّ الخير، ويظهر أثر الطَّاعة في الدُّنيا قبل الآخرة، كما حدث في قصَّة إبراهيم عليه السلام، سارع لذبح ولده عندما أمره ربُّه بذلك، ففداه ربُّه بِذِبْحٍ عظيمٍ، وكانت بعد ذلك سنَّة الأضحية متجددةً كل عامٍ، سنَّةً باقيةً إلى قيام السّاعة.
2- الأُضحية سنَّة أبينا إبراهيم عليه السلام
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: (سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) قَالَ: قُلْنَا: فَمَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: (بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالصُّوفُ؟ قَالَ: (فَكُلُّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ).
فكما أَنَّ الأضحية سنَّة أبينا إبراهيم عليه السلام، فكذلك هي سنَّةٌ سنَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، باشرها بنفسه صلى الله عليه وسلم، وأمر بها وحثَّ عليها وذكر ما فيها مِن الأجر والثَّواب، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا".
والأضحية في يوم النَّحر مِن أحبِّ الأعمال إلى الله تعالى، لذا أوصانا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أَنْ نضحِّي بِطِيْبِ نفسٍ وأَنْ تكون الأضحية تامَّةً لا نقص فيها ولا عيب، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا تُقُرِّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ النَّحْرِ بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ وَأَنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَيَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا).
وإِنَّ مِن تمام رحمة الله تعالى علينا أَنْ شرع الأضحية وحثَّ الأمَّة عليها بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ} [الكوثر: 2].
وخصوصاً لمَنْ لم يدرك فضل الوقوف على جبل عرفاتٍ، فعندما يَفِيْضُ النَّاس مِن عرفاتٍ وقد غفر الله لهم ذنوبهم، فهناك قلوبٌ تمنَّت لو أدركتها رحمة الله تعالى وكانت مع مَنْ وقف في عرفاتٍ وأدَّى مناسك الحجِّ ولكِنْ حَبَسَهُ حابِسٌ عَن هذا الخير العظيم، لذلك جبر الله خواطر هؤلاء العباد بأَنْ شرع الله تعالى الأضحية، فبهذا الُّنسك العظيم يغفر الله تعالى للمضحِّي مع أول قطرة دمٍ تقطر مِنْها، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (قَوْمِي إِلَى أُضْحِيَّتِكَ فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا يُغْفَرُ لَكِ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبُكَ) قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ خَاصَّةً أَوْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: (بَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً).
خاتمةٌ:
إِنَّ الأضاحي سنَّة الخليلين مِن الأنبياء؛ إبراهيم ومحمّد عليهما الصَّلاة والسَّلام، سنَّةٌ كانت يوم أَنْ استجاب إبراهيم عليه السلام لأمر ربِّه وقام ليذبح ولده إسماعيل، ففداه الله تعالى بكبشٍ مِن الجنَّة، وكانت سنَّة الذَّبح في يوم النَّحر بعدها، ثمَّ أمر الله تعالى نبيَّه -والأمر لأمّته مِن بعده- فقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ}، فأصبح الذَّبح في يوم النَّحر سنةً باقيةً إلى يوم القيامة.
وها نحن معاشر المسلمين سنذبح الأضاحي ذكرى لهذا الحدث العظيم، ذكرى لعظمة الاستسلام والانقياد لربّ العالمين، وذكرى للتّضحية، ثمَّ الفداء مِن الرَّبِّ الرَّحيم، فَلْنَحْمَد الله تعالى على أَنْ وفَّقنا لطاعته، ولنذكر أبا الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل إ، ولنتعلّم منهما المبادرة إلى طاعة ربِّنا عز وجل، دون تردِّدٍ أو سؤالٍ، حتّى وإِنْ كان الأمر الإلهيُّ شاقّاً على النَّفس ثقيلاً عليها.
فلنسارع لذبح الأضاحي عن طيب نفسٍ، مضحِّين بما يليق بهذا النُّسك العظيم مِن جيد النَّعم وسمينها وكاملها، فلقد ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين وسمَّى وكبَّر، وأّنْ لا نبخل ونتكاسل عن هذه السّنَّة، ففيها مِن الأجر والثّواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى.