1- بِشارةٌ بالوليد، واسمٌ فريدٌ
2- نبيٌّ منتصِرٌ حاسرٌ، وحاكمٌ مدرَّعٌ خاسرٌ
مقدمة:
القصّة أسلوبٌ قرآنيٌّ للتّربية وغرس القيم، وما أكثرَ القصص الّتي وردت في القرآن، بل إنّ قصص القرآن هي الأحسن بين القصص، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].
وهي الأصدق، خلاف قصص التّاريخ الّتي لا تعرف صِدقها مِن كذبها، فالقصّة القرآنيّة مصدرها الله جل جلاله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النّساء: 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النّساء: 87].
وممّا تمتاز به القصّة القرآنيّة عن سواها: سموُّ المقصد، وعلوُّ الهدف، فهي لا تكون لقصدِ السّمر وإضاعة الوقت كما كان دأب القصّاصين، بل غَرضها غرسُ القيم، ونشرُ الوعي، والتنبيهُ إلى العبرة، وبهذا ختم الله السّورة الّتي احتوت أطول قصّةٍ في القرآن، واقتصرت عليها وعلى العبر منها، يقول الحقّ سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
وختم قصّة إهلاك فرعون بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النّازعات: 26].
وحثّنا الله عز وجل على الاعتبار فقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
ووَقفة اليوم مع نبيٍّ من أنبياء الله، نَصَبَ الله لنا قصّته في القرآن عبرةً نعتبرها، ودرسًا نتعلّم منه، نطاقها الجغرافيّ بلاد الشّام، أو قل إن شئت فلسطين ودمشق تحديدًا، ونطاقها الزّمنيّ قبل ألفي سنةٍ من الآن، أي قرابة ميلاد المسيح عليه السلام، حيث كان حاكمٌ ظالمٌ يحكم دمشق، فما كان موقف ذلك النّبيّ منه؟ ومَن هو النّبيّ؟ وما قصّة ميلاده؟ وما قصّة وفاته؟
1- بِشارةٌ بالوليد، واسمٌ فريدٌ
آل عمران عائلةٌ لها شأنٌ عند الله، سمّى باسمها سورةً مِن القرآن، وتحدّث عن قصص أفراد هذه الأسرة، كمريمَ ابنتِ عمرانَ، وأمِّها زوجةِ عمرانَ لـمّا نذرت لله ما في بطنها محرّرًا، وعيسى ويحيى ابني الخالة سِبْطي عمران، وزكريّا صهر عمران، ومنه نبدأ: لمّا بلغ من الكِبَر عِتيًّا، فدعا ربّه أن يهب له وليًّا يرثه، قال تعالى: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 1-6].
يريد نبيّ الله زكريّا عليه السلام مِن بعده مَن يرث عنه حَمل الرّسالة وتبليغها للنّاس، كما ورث سليمانُ داود، وكما ورث إسماعيلُ وإخوته إبراهيم، وكما ورث يوسفُ يعقوب، وليست الوراثة هنا وراثة المال، فقد كان زكريّا عليه السلام يكسب مِن عمل يده، كما في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا).
ولم يكن بصاحب مالٍ يخشى عليه فيطلب له الوارث، فميراث الأنبياء العِلم، قَدِمَ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ بِدِمَشْقَ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ، أَيْ أَخِي؟ قَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِحَاجَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: مَا قَدِمْتَ إِلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ).
وهنا نتنبّه إلى النّيّة الصّالحة الّتي استحضرها نبيّ الله زكريّا عليه السلام عندما دعا بالولد، ففي النّاس مَن يرجو الولد ليرفعَ ذِكرَه في النّاس، وليباهيَ به في الخلق؛ إذ يُنسب إليه؛ فيُقال: فلان بن فلانٍ، وهذه ليست بالنّيّة الصّالحة، فلنَقْتَدِ بأنبياء الله في طلب الذّريّة الصّالحة لتقومَ بأعباء الدِّين.
ما نتيجة دعائه؟ قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89-90].
هكذا كانت ولادة نبيّ الله يحيى عليه السلام الّذي نتحدّث عنه، في أسرةٍ مشهودٍ لها بالخير، {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12].
2- نبيٌّ منتصِرٌ حاسرٌ، وحاكمٌ مدرَّعٌ خاسرٌ
أوتي نبيُّ الله يحيى عليه السلام الحكمة صبيًّا، وكان طاهرًا مُزكًّى تقيًّا، بارًّا بوالديه، ولم يكن جبّارًا عصيًّا، يقول الله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 12-15].
وهذه النَّشأة الصَّالحة ستترك أثرها لـمّا يشتدّ عوده ويسعى في نشر دين الله، سعيَ أبيه وابن خالته ﻹ، يبْلُغُه أنّ حاكم دمشق يريد أن يتزوّج من ابنة أخيه، وتعلمون أنّ هذا مِن زواج المحارم الّذي حرّمه الله تعالى، فهل سيسكت نبيّ الله عن منكرٍ سيكون في بلاط الحاكم؟ لنتذكّر أنّ أباه دعا به يوم دعا ليحملَ الدّعوة إلى الله، ليأمرَ بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا تطبيقٌ لما رجاه الأب من ابنه، إنّ صدق الدّعاوى تظهر على المحكّ يوم التّطبيق العمليّ، أمّا مقالات اللّسان فما أسهلها على الإنسان، ترى في النّاس مَن يقول: فداك نفسي يا رسول الله، ثمّ يرى مَن يسبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عِرضه، ويتّهم زوجه بالزّنا، يراهم يُهاجمون بلاد المسلمين فلا يحرّك ساكنًا، فما صِدق دعواه بافتدائه النبيَّ صلى الله عليه وسلم بنفسه؟ وإذا أراد ابنُه أن يقفَ في وجه أولئك القوم منعه مِن ذلك، أين ذلك الأب مِن أبوّة زكريّا ليحيى عليهما السلام؟
جاءه ابنه على تقدمٍ في العُمُر ووهنٍ في العظم واشتعالٍ في شيب الرَّأس:
وَاِشتَعَـلَ المُبيَـضُّ فـي مُسـوَدِّهِ مِثلَ اِشتِعالِ النّارِ في جَزلِ الغَضـى
وتعلمون أن حالًا كهذا يكون الأب أشدّ ما يكون تعلّقًا بابنه، لكنّه مع ذلك لم يمنعه أن يقف مواقف الشّرف والبطولة، يتوجه نبيّ الله إلى بلاط الحاكم فيقول كلمة الحقّ، فتَنْقِم منه ابْنة أخي الملك الّتي يريد أن يتّخذها زوجةً، وكانت تطمع بزواجها منه أن يصير لها شأنٌ في الحكم، فاستغلّت لحظة رضًى مِن الملك، وأعلمته أنّ لها طلبًا، فوعدها بما يرضيها، فطلبت رأس نبيّ الله يحيى عليه السلام، وأرسلت الجند إليه، فدخلوا عليه في محرابه، واجتزّوا رأسه، وذهبوا به إليها ، لقد قدّم نبيّ الله عليه السلام نفسه لله، وهكذا الوقوف في وجه الحُكّام الظّلمة والكفرة، ضريبته في الدّنيا عاليةٌ، لكنّ أجره عند الله عظيمٌ.
وقد يتبادر للمرء: لمَ سُمّي (يحيى) مع أنّه سيموت؟ وقد نبّه القرآن إلى تسميته! {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [طه: 7].
ولعلّ هذا عائدٌ إلى طبيعة الميتة الّتي سيموت، إنّها الشهادة في سبيل الله، يقول الحقّ جل جلاله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
خِتامًا:
في هذه القصّة مجموعةٌ مِن المعاني العظيمة؛ منها: أهميّة الدّعاء والتّضرع إلى الله واللّجوء إليه، فهذا نبيّ الله يرجو الولد على سنٍّ قد تقدّمت وامرأةٍ قد عقرت، ومع ذلك: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
لقد نادى زكريّا ربّه نداءً خفيًّا، متضرّعًا مستضعفًا محسنًا الظّنّ بربّه: {ولَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]، وهذه مِن آداب الدّعاء.
ولْنتعلم مِن نبيّ الله زكريّا عليه السلام استحضار النّيّة الصّالحة عند الرّغبة بالولد، مع الصّدق فيها، فإنّ المواقف العمليّة محكٌّ؛ تظهر عليه حقائق النّوايا مِن زائفات الدّعاوى.
وَالدَّعَـاوِى مَا لَـمْ تُقِيـمُـوا عَـلَـيْـهَـا بَـيِّـنَــاتٍ أَبْـنَـاؤُهَــا أَدْعِـيَـــاءُ
وإنّك ما رأيتَ حاكمًا ظالمًا غشومًا يسوم النّاس الخسف والنّكال فلا عليك أن تقف في وجهه، ولو أودى ذلك بدنياك، فهذا نبيّ الله يحيى عليه السلام، تراه يحيا بطاعة الله، ويحيا إذ يُقتل في سبيل الله، ولا تظنّنّ يومًا أنّ كلّ مَن وقف في وجه ظالمٍ انتصف منه في الدّنيا، بل قد يؤخّر الله الظّالمين ليومٍ تشخص فيه الأبصار، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
واعلم أنّ هذا الوقوف يحتاج لزادٍ كبيرٍ ورصيدٍ عالٍ من الإيمان، وأنّ هذا طريق الأنبياء، فمن شاء سلك.