أُمَّةٌ جريحة.. مَن لا تُؤدِّي النَّصيحة
1- كيف أنصح لله جل جلاله وللقرآن وللنّبيّ صلى الله عليه وسلم؟
2- النُّصح حقٌّ عليك لأخيك
مقدمة:
اعتنت الشّريعة بالغ العناية بأعمال القلوب، وأوْلتها عظيم الاهتمام، وذلك لمكانة القلب مِن بقيّة الأعضاء، فهو الملك، وهي تبعٌ له، فإن استقام استقامت، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ- (إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ).
وعَلّق الله جل جلاله النّجاة ودخول الجنّة يوم القيامة على سلامة القلب وإنابته، قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشّعراء: 88-89].
وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 31-34].
بَيْن يدينا حديثٌ مِن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يحُثّنا على عملٍ مهمٍّ مِن أعمال القلوب، ويُبَيّن شدّة أهمّيّته، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْـمـُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ).
وقد أشار أبو داود -صاحب السّنن- إلى أهمّيّة هذا الحديث؛ فقال: "الفِقْهُ يَدُورُ عَلَى خَمْسَةِ أَحَادِيثَ: (الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)، وَقَوْلِهِ: (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)، وَقَوْلِهِ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ)، وَقَوْلِهِ: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ)".
فما عَلاقة النّصيحة بأعمال القلوب؟ وكيف أنصح لله سبحانه ولكتابه؟ وكيف يَبْلُغُ نُصْحي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟
1- كيف أنصح لله جل جلاله وللقرآن وللنّبيّ صلى الله عليه وسلم؟
جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الدِّين -كلَّ الدِّين- داخلًا في مفهوم النّصيحة، ونحن نعلم أنّ دينَنا عقيدةٌ وعبادةٌ وأخلاقٌ، إسلامٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، فكيف تَدخل كلّ هذه المفردات في معنى النّصيحة، والمعنى المتبادر عادةً مِن النّصيحة هو التّوجيهُ إلى فعل الخير، فيقول النّاسُ: نصح الأبُ ابنَه، ويَعنون: وجّه الأب ابنَه أن يفعلَ الخير، فكيف تَجمع النّصيحةُ بهذا المعنى كلّ الدِّين، وكيف تكون النّصيحة لله وللقرآن وللنّبيّ صلى الله عليه وسلم إن فهمناها هكذا؟
نحن هنا بحاجةٍ إلى بيان معنى النّصيحة في اللّغة، وهي دائرةٌ على معانٍ، مِنها إرادة الخير للمنصوح له، لكنّ هذا لا يستقيم في جَنْبِ الله، فالخير كلُّه في يد الله، ولا يَصحّ أن يكلّفَنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بإرادة الخير لربّنا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ).
أمّا معنى النّصيحةِ الّذي يناسب هذا المقامَ هو الخلوص، يقول ابن رجبٍ: "وَأَصْلُ النُّصْحِ فِي اللُّغَةِ الْخُلُوصُ، يُقَالُ: نَصَحْتُ الْعَسَلَ: إِذَا خَلَّصْتُهُ مِنَ الشَّمْعِ، فَمَعْنَى النَّصِيحَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ: صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ: الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبَذْلُ الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَنَهَى عَنْهُ".
وبهذا نُدرك دخولَ العقائد في هذا الحديث، فالنّصح للحقّ سبحانه توحيدٌ وإخلاصٌ، والنّصح للقرآن إيمانٌ وعملٌ، ثم النّصح للنّبيّ صلى الله عليه وسلم طاعةٌ له، فهل يخرج شيءٌ مِن مفردات الدِّين عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ عن تطبيق ما في الكتاب والسّنّة؟ هكذا يكون الدِّين -كلُّ الدّينِ- داخلًا في مفهوم النّصيحة، وتكون النّصيحة في أصلِها عملًا مِن أعمال القلب، وهو خلوصه للمنصوح له، أو إرادة الخير له.
ومِن النّصح لله أن تربّيَ بَنِيكَ على حبّه وكثرة ذِكره ومراقبته وتحقيق الإحسان...
ومِن النّصح لكتاب الله أن تتْلوَه وتفهمَه وتتدبّره، وتُعَلّقَ به مَن تعولُ، فيَحفظونه حقّ الحفظ...
ومِن النّصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحبّه، وتصلّيَ عليه، وتقتديَ به، وتتعلّم سيرته وتُعلِّمَها من تعول، وأن تسمع حديثه وتفهمه وتطبّقه وتسعى في نشر هديه في النّاس قولًا وفعلًا...
2- النُّصح حقٌّ عليك لأخيك
يُضاف إلى الجانب السّابق مِن معنى النّصيحة وتطبيقاتها قسمٌ آخرُ مهمٌّ يتعلّق بحياتنا اليوميّة، في تعاملنا مع إخواننا، إنّه النّصح لهم، وهنا يصدق تعريف النّصيحة على أنّها إرادة الخير للمنصوح له، فهو ابتداءً عملٌ قلبيٌّ، هو أن يخلوَ قلبُك عن الغِشِّ لإخوانك، مهما كان موقعهم، أئمّةً أو عامّةً، أمّا في نصح الأئمّة: فَوَرَدَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (نَضَرَّ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ بَلَّغَهَا، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ).
وإذا كانت الشّريعة قد أمرتِ الأفرادَ بالنُّصح لمن تولّى أمرَهم، فقد أمرتِ المسؤولين بالنُّصح للأفراد كذلك؛ قَالَ مَعْقِل بْن يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ رضي الله عنه: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ).
ويدخل في معنى الأمير: المديرُ والمسؤول والوزير؛ فالنُّصح لهم واجبٌ على الرَّعيّة، ونصحهم للرَّعيَّة واجبٌ عليهم.
وفي النُّصح لعامّة المسلمين وَرَدَ عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".
وقد جعل البخاريُّ: هذا الحديث في كتاب البيوع؛ تنبيهًا منه إلى وجوب نصحِ البائع للمشتري إذا اسْتَنْصَحَه، وفي الباعة مَن إذا اسْتَنْصَحَه المشتري استغلّ غفلتَه وجهلَه بالمبيع فَحَمَّله أسوأَ ما لديه، أمّا هذا فقد غشّ قلبُه لأخيه ولم ينصح، وثَلَمَ في دينه ثُلمةً، وأهدر لأخيه حقًا يوشِك أن يطالبه به يوم الدّين {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشّعراء: 88-89]،
وفي الجملة "فالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ فِي رِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَمُجَانَبَةُ الْوُثُوبِ عَلَيْهِمْ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَحَثُّ الْأَغْيَارِ عَلَى ذَلِكَ. وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إِرْشَادُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ، وَتَعْلِيمُهُمْ أُمُورَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَسِتْرُ عَوْرَاتِهِمْ، وَسَدُّ خَلَّاتِهِمْ، وَنُصْرَتُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَالذَّبُّ عَنْهُمْ، وَمُجَانَبَةُ الْغِشِّ، وَالْحَسَدُ لَهُمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُهُ لِنَفْسِهِ، وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ".
خاتِمةٌ:
لا بدّ للمسلم أنْ يَرعى حقوق إخوانه، وأن يريدَ قلبُه الخيرَ لهم، فلا ينْطوي على غشّهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا).
ولو انْتشر هذا الخلق في مجتمعاتنا، وفي أسواقنا ومدارسنا ومؤسّساتنا؛ لانْتشرتِ الثّقة بين النّاس، واستقرّت معاملاتهم، ولاطْمأنّ المسلم للمسلم، ما أحسنَه مِن مجتمعٍ؛ ذاك الّذي لا غشّ فيه.
كما لا بدّ للمسلم أن يرعى حقّ ربّه في قلبه؛ فيخلص له، ولا ينطوي قلبُه على الرّياء وحبّ السّمعة، وأن يعتنيَ قلبُه بكتاب الله، وبمحبَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان منه كلُّ ذلك فقد قام بالنَّصيحة على أكملِ وجوهِها، مِن جميع جوانبها، ويكون كذلك في الوقت نفسه قد أقام الدِّين في العبادة والمعاملات والعقيدة والأخلاق، ويكون بفعله قد نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّق حديثه (الدِّينُ النَّصِيحَةُ).