1- الأمر بالمعروف نجاةٌ، وتركه هلكةٌ
2- كيف تُعالَج المنكرَات؟
مقدمة:
إنّ الإسلام قد أمر بكلّ معروفٍ وخيرٍ، ونهى عن كلّ منكرٍ وشرٍّ، وأوصى بالعدل والإحسان، وحرّم الفجور والعصيان، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النّحل:90].
ولقد أثنى الله سبحانه على هذه الأمّة يوم أن كانت متمسّكةً بتعاليم دينها، وكان الإسلام يُرى بحسنه وجماله في معاملة أبنائها وأخلاقهم، فكان هدفهم الأسمى استئصال جذور المنكر وإماتته، وتنمية المعروف في نفوس طبقات المجتمع، طامعين في المنزلة الّتي وُعد بها المؤمنون بقوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التّوبة: 71].
وراجين التّمكين في الأرض بعد تحقيق الشّرط الّذي اشترطه الله جل جلاله عليهم بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحجّ: 41].
ولذا فإنّ خيريّة هذه الأمّة ليست نابعةً عن اختصاصٍ بلا مسوّغٍ، بل هي منبثقةٌ عمّا ذكره الله سبحانه عنها في كتابه، حيث قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران: 110].
فمناط الخيريّة في أمّة الإسلام موصول العرى بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، المنبثق مِن الإيمان بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمَن اتّصف مِن هذه الأمّة بهذه الصّفات، تحقّقت فيه الخيريّة وإلّا فلا، وإنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لهما القطب الأعظم للدّين، ومِن أجلهما بعث الله سبحانه المرسَلين، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157].
فهما سببٌ لدفع العقوبات العامّة ورفعها، وتركهما نذير شؤمٍ، وعلامة قرب الهلاك.
1- الأمر بالمعروف نجاةٌ، وتركه هلكةٌ
سنّةٌ مِن سنن الله عز وجل في الأمم والمجتمعات بيّنها ديننا الحنيف، تتجلّى في أنّ الأمّة الّتي يقع فيها الظّلم والفساد فينهض لهما مَن يدفعهما وينكرهما، هي أمّةٌ ناجيةٌ، لا يأخذها الله جل جلاله بالعذاب والتّدمير، أمّا الأمّة الّتي يظلِم فيها المستبِدُّون، ويُفسد فيها المفسِدون، ثمّ لا يكون فيها مَن يُنكر المنكر ويُجابه الفساد، فهي أمّةٌ مهدّدةٌ بالدّمار والعقاب العامّ، ومِن هنا كان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر صِمَام أمانٍ وسبب نجاةٍ، قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116].
فبهما ينقمع الفساد وأهله، ويخنس الشّيطان وجنده، ويندحر الشّرّ وحزبه، فكلّما نشط الخير ضعف الباطل، وكلّما أشرع المعروف أعلامه، طوى الشّرّ والفساد شراعه، ولقد ضرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثلًا للآمرين بالمعروف والنّاهين عن المنكر بأنّهم سبب نجاة المجتمع مِن الهلاك، عَنْ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا).
فإذا فشا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عُرف الحلال مِن الحرام، ونشأت النّاشئة على المعروف وألفته، وابتعدت عن المنكر واشمأزّت منه، وإنّ صاحب البصيرة لمدركٌ أنّ ما أصاب بلاد الإسلام اليوم، مِن جهلٍ بالسّنن والواجبات، ومِن وقوعٍ في المنكرات والمحرّمات، ومِن تركٍ للصّلوات، وتعاطٍ للمخدّرات، وكثرةٍ للخبائث، وما هو دون ذلك وأكثر منه ما هو إلّا بسبب تقصير أهل العلم والدّعاة في هذا الجانب على سبيل الخصوص، والاستحكام السّيّئ في مناهج التّعليم والتّربية، حتّى نشأت الأجيال لا تعرف معروفًا، ولا تُنكر منكرًا، وإذا تعطّلت هذه الشّعيرة، ودُكّ هذا الحصن، وحُطّم هذا السّياج، فعلى معالم الإسلام السّلام، وويلٌ يومئذٍ للفضيلة مِن الرّذيلة، وويلٌ لأهل الحقّ من سفه المبطلين.
نعم: لا تكون ضعة المجتمع ولا ضياع الأمّة إلّا حين يُترك للأفراد الحبل على الغارب، يعيشون كما يشتهون، يتجاوزون حدود الله سبحانه، ويعبثون بالأخلاق، ويقعون في الأعراض، وينتهكون الحرمات، مِن غير وازعٍ أو ضابطٍ، وبذلك تسود الفوضى، وتستفحل الجريمة، ثمّ يحيق بالقوم مكر الله جل جلاله، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ).
2- كيف تُعالَج المنكرَات؟
إنّ الإسلام دعوة الخير والمعروف، ومنهج الحقّ والعدل، لِمَحْقِ الباطل والمنكر بجميع الأشكال والصّور، ولا ينهض بدعوته إلّا رجالٌ مؤمنون يأمرون بالمعروف، ويكافحون البغي والفساد بما آتاهم الله سبحانه مِن منطقٍ وقوّةٍ وعلمٍ، وشجاعةٍ أدبيّةٍ، يرفع الله جل جلاله العذاب مِن أجلهم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
فإصلاح النّاس سلامةٌ مِن لعنة الله عز وجل القائل في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عليهم وأنا التّوّاب الرّحيم} [البقرة: 159-160].
وإنّ صلاح المجتمع يحتاج إلى وقايته مِن المنكرات مِن قِبل جميع الفئات، وبذلك تُفتح أبواب الخير، وتُغلق أبواب الشّرّ، وتُنشر الفضيلة، وتزول الرّذيلة، ويَظهر الحقّ، ويُمحق الباطل، فالمنكر عامل هدمٍ للأسر والمجتمعات، وعامل إفسادٍ للأمم والشّعوب، وإنّ معالجته تكون على درجاتٍ: أوّلها وأقواها: تغييره باليد لإزالته بالكلّيّة ومنع النّاس منه، وهذا يكون للأمراء والأولياء الّذين يتولّون رعيّةً، ولهم ثواب التّغيير وزوال المنكر، وعليهم إثم بقائه، لأنّهم رضوا به مع القدرة على إزالته، ومَن عجز عن الإنكار باليد فدونه الإنكار باللّسان، وهذا يتوجّب على كلّ مَن تعلّم علمًا يُنكر به، ويكون ذلك بالمواعظ، فإنّ الله جل جلاله أمر بها فقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذّاريات: 55].
والمواعظ للقلوب كالسّياط للأبدان، تستيقظ بها وتتحرّك، وتسمع بها وتُبصر، ومَن عجز عن الإنكار باليد واللّسان، فلا يعجز عن الإنكار بالقلب، وذلك ببُغض المنكر وكراهيته، وببُغض أهله وكره أفعالهم، فبُغضهم مِن أصل عقيدتنا، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ؟)... قَالَ: (إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ).
وقد نُهينا أن نجلس مجالس المنكر، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النّساء: 140].
والإنكار بالقلب أضعف الإيمان، ولا يُعذَر به مسلمٌ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ).
خاتِمةٌ:
فلنستيقظ مِن غفلتنا، ولْنصحُ مِن رقادنا، ولْنعد إلى رُشدنا، ولنقمْ بواجباتنا، والّتي مِن أهمّها وأوجبها: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإنّ أولى الخَلق بهذا الواجب؛ هي: نفسنا، لتصبح لوّامةً، تلومنا على ترك الطّاعة، وعلى فعل المعصية، فنكون قدوةً للآخرين، لا كالّذي حدّث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ؟ فَقَالَ: أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ؟ وَاللهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلَا أَقُولُ لِأَحَدٍ، يَكُونُ عَلَيَّ أَمِيرًا: إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ).
ويأتي بعد النّفس: أهلنا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التّحريم: 6].
والعمل على إصلاح الأهل أولى مِن تأمين حاجاتهم الضّروريّة؛ مِن كسوةٍ ومسكنٍ وطعامٍ وشرابٍ، ويلي الأهل :المجتمع كلّه، وهو في هذا الزّمان أوجب لانتشار الغفلة، والاغترار بالدّنيا، وتسلّط الشّيطان، وكثرة الانحراف والضّلال، والتّشبّه بالأعداء، وفشوّ المنكرات، وليت الأمر وقف عند هذا الحدّ، بل تعدّاه إلى ما هو أدهى وأمرّ، حيث أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والباطل حقًّا والحقّ باطلًا، واعتبرت النّصيحة فضيحةً، وغدا الدّاعي إلى المعروف والخير كالنّافخ في رمادٍ، وكالصّائح في وادٍ، بينما أصبح الدّاعي إلى جهنّم، والمنادي على الضّلال والإثم مسموع الكلمة، مجاب الدّعوة، يتهافت النّاس على دعوته وصوته تهافت الذّباب على لبنٍ آسنٍ، والمشتكى إلى الله وحده.