1- وجهٌ قاتمٌ، ووجهٌ ناعمٌ
2- الآيات المنظورة، والآيات المسطورة
مقدمة:
بين يدينا كنزٌ عظيمٌ يغفل عنه كثيرٌ مِن النّاس، مصدرٌ للبركة -وما أحوجنا إليها- يرِده طالب السّكينة والرّحمة، وأعظِم بهما مِن أمرين، إنّه القرآن الكريم، وجّهنا الحقّ جل جلاله إلى أنّ فيه البركة؛ إذ قال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155].
وقال: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الأنبياء: 50].
وقد قرن بين بركته وطلب تدبّره؛ فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقد أنكر على مَن لا يتدبّره؛ فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النّساء: 82].
واشتدّ النّكير في قوله سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمّد: 24].
وقد نصّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على آثار تدارس القرآن، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رشي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ).
فتأمل هذا الفضل العظيم لتدبّر كتاب الله في بيت الله جل جلاله.
1- وجهٌ قاتمٌ، ووجهٌ ناعمٌ
يُكثر الأئمّة مِن قراءة سورة الغاشية والأعلى في صلوات الجُمع والأعياد، وهم إذ يفعلون ذلك يقتدون بسنّة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ"، قَالَ: "وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ).
ونظرًا لما في تدبّر كتاب الله جل جلاله مِن عظيم الفضل الّذي سبق ذكره؛ نقف مع بعض دروس سورة الغاشية، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ}، فَقَامَ يَسْتَمِعُ وَيَقُولُ: (نَعَمْ قَدْ جَاءَنِي).
نلاحظ هنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعيش مع النّصّ القرآنيّ ويتجاوب معه، فيجيب عن سؤاله، ويستمع له باهتمامٍ، قارِن هذا إن شئت بمن يمرّ على الآية لا يتنبه هل هي سؤالٌ أم تقريرٌ.
ومِن هديه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ إذا مرّ بآيةٍ فيها ذكر العذاب، وأن يسترحم إذا مرّ بآيةٍ فيها الرّحمة، فعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: (سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ)، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: (سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى)، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ.
وهذه السّورة في قسمها الأوّل تعقد مقارنةً ومفارقةً كبيرةً بين حال أهل النّعيم وحال أهل الجحيم، أمّا مَن عصى فوجهه يوم القيامة ذليلٌ، وقد عملوا وتعبوا في الدّنيا لكنّهم لم ينتفعوا مِن تعبهم، وسيذوقون النّار شديدة الحرّ، ويعطشون فيشربون الحميم الّذي يقطّع الأمعاء، ويجوعون فيأكلون الشّوك الّذي لا يردّ جوعهم فيزدادون عذابًا مِن كلّ وجهٍ، وفي المقابل يظهر النّعيم على وجه وليّ الله، ويغمر قلبه الرّضا لما قدّم مِن عملٍ صالحٍ، فمقامه جنّةٌ عالية المقام منزّهةٌ حتّى عن لغو الكلام، فيها ألوان النّعيم؛ مِن الماء الجاري والسّرر والحور العين ولذيذ الشّراب وما يلزم للاتّكاء على السّرر والبسط الّتي تملأ الأرجاء.
فالبَون شاسعٌ بين الوجه النّاعم، والوجه الخاشع القاتم.
2- الآيات المنظورة، والآيات المسطورة
بعد أن بيّن الحق جل جلاله منازل أهل الجنّة ومنازل أهل النّار؛ ساق الدّليل الحسّيّ على البعث بعد الموت، وكأنّ الكافر استدرك على الآيات السّابقة أنّ ما هذا إلّا غيبٌ، فكيف لي أن أؤمن بالغيب دون دليلٍ، فجاءه النّصّ القرآنيّ يأمره بالتّفكّر في الآيات المنظورة أمامه مِن الكون ليصل إلى صدق الآيات المقروءة بين يديه مِن القرآن الكريم {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17-20].
وإذا كنّا قد نُدبنا إلى تدبّر آيات القرآن -كما سبق بيانه- فقد نُدبنا أيضًا إلى تدبّر آيات الكون مِن حولنا، ليقودنا هذا التّدبّر إلى صفات الخالق العظيم.
أيا عجباً كيف يُعصى الإلَـ ـهُ أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كلّ تحريكةٍ وتسكينةٍ فاعلمن شاهدُ
وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ تدلّ على أنّه واحدُ
فهذه دعوةٌ للأعرابيّ أن ينظر في كلّ ما يقع تحت بصره، وما تراه يرى سوى ناقةٍ تحمله وسماءٍ تظلّه وأرضٍ تقلّه وعلمٍ منصوبٍ أمامه، فيتفكّر فيها، فإن كان المخاطَب بالنّصّ القرآنيّ مِن بيئةٍ أخرى فلينظر في كلّ ما يقع تحت بصره مِن مخلوقات الله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [غافر: 62].
ماذا لو جحد الكافر بعد أن صدّقت آياتُ الكون آياتِ القرآن؟ هنا تسليةٌ لفؤاد الدّاعية المناظر أنْ إنّما مهمّتك البيان والتّذكير، وليس بمقدورك أن تحشر الإيمان في قلوبهم حشرًا، فاليوم دعوةٌ وبيانٌ، وغدًا جنّة ونيرانٌ، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29].
وهذا يعود بنا إلى آيةٍ حوَت حبكةً أدبيّةً، متناهية الرّوعة فائقة الجمال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النّساء: 82].
خاتِمةٌ
يفد المصلّي كلّ يوم جمعةٍ إلى المسجد، يستمع الذّكر وتغشاه الرّحمة، ولا ينصرف حتّى يذكّره الإمام -مِن خلال آيات سورة الغاشية- أنّه لم يخلق عبثًا، ويلفت انتباهه إلى التّفكّر في خلق الله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36-40].
ويذكّره أنّ الّذي سيحيي الموتى سيحاسبهم، وسينتظمون في فريقين، فريقٌ في الجنّة مع سردٍ مشوِّقٍ لنعيمها، وفريقٌ في السّعير مع سردٍ منفِّرٍ مِن جحيمها، رجاء أن ينتظم أسبوع المصلّي بهذه القِيَم، فيجعلها نصب عينيه دائمًا، عالمًا أنّنا جميعًا صائرون إلى وجهٍ ناعمٍ أو وجهٍ خاشعٍ قاتمٍ، نسأل الله السّلامة، فليختر كلّ امرئٍ طريقه مِن الآن.