1- نحو صيامٍ يُحقِّق التَّقوى
2- فُرصٌ ثمينةٌ في أيَّامٍ جليلةٍ
مقدمة:
إنّنا في أيّامٍ مباركةٍ فاضلةٍ، وأزمنةٍ عظيمةٍ جليلةٍ، تُضاعف فيها الحسنات، وتُستجاب فيها الدّعوات، وتُغفر فيها الخطيئات، تُفتح فيها أبواب الجنان، وتُغلق فيها أبواب النّيران، وتضعُف فيها دواعي الشّرّ، ويُنادى فيها: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشّرّ أقصر، عَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ رَمَضَانَ، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَلَمَّا رَآهُ عُتْبَةُ هَابَهُ فَسَكَتَ. قَالَ: فَحَدَّثَ عَنْ رَمَضَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (فِي رَمَضَانَ تُغَلَّقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ، وَتُفَتَّحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُصَفَّدُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ) قَالَ: (وَيُنَادِي فِيهِ مَلَكٌ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَبْشِرْ، يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ)
فالموفّق السّعيد مَن عرف لهذه الأيّام قدرها، فاستغلّ اللّحظات، وأكثر مِن الحسنات، وشغل جوارحه فيما يُرضي ربّ البريّات، والشّقيّ ذاك الّذي يأتي عليه رمضان فلا تتغيّر أحواله، ولا تستقيم أموره، ولم يفهم مِن رمضان إلّا انقطاعًا عن الأكل والشّرب والمفطّرات، ليس إلّا.
لقد جبل الله عز وجل الإنسان على النّقص والتّقصير، ولكن مِن سعة رحمته سبحانه أن يسّر للمؤمن مواسم خيرٍ يسدّ فيها الخلل، ويكمّل فيها النّقص والتّقصير، وإنّ مِن هذه المواسم شهر رمضان، الّذي هو أعظم فرصةٍ ليتدارك المقصّرون تقصيرهم، بل هو فرصةٌ ثمينةٌ لنا جميعًا، لنربّي نفوسنا على معالي الأمور وعالي الهمم، ننزع الكسل والتّقصير عن كواهلنا، ونصقل أنفسنا مِن الأخلاق الرّديئة والعادات المشينة، ونتحلّى بالأخلاق الفاضلة، فنعلو بأنفسنا إلى مقام الصّالحين، ودرجات العابدين، واللّحاق بركب السّابقين.
إنّ شهر رمضان يدعو كلّ واحدٍ منّا أن يُحدث ثورة تغييرٍ في حياته، ضدّ نوازع الشّرّ فيه، ووساوس الشّيطان ونزعاته، الّتي تُعيق سيره إلى الله جل جلاله، فها هي الفرصة قد أتت وقد لا تعود، فلنلتزم بأمر ربّنا، ولنبادر قبل أن نغادر.
1- نحو صيامٍ يُحقِّق التَّقوى
إنّ الإسلام لم يشرع العبادات -أيًّا كانت صورتها- طقوسًا، أو شعائر مجرّدةً مِن المعنى والمضمون، بل إنّها عباداتٌ تحمل في جوهرها حِكَمًا جليلة و قيمًا أخلاقيّة، يُطلب انعكاسها على سلوك المسلم المؤدّي لهذه العبادة، ووضوحها جليًّا في شخصيّته وتعامله مع الغير، وفيما يرسمه لذاته مِن إطارٍ يحرص على الالتزام به ولا يحيد عنه، ولكن هناك من يَهِمُ فيفصل العبادة في الإسلام عن السّلوك، فلم يعد هدف البشر اليوم عند الكثير إلّا أداء العبادة بطقوسها، دون أدنى اهتمامٍ بتحقيق الثّمرة المرجوّة منها؛ ألا وهي: تزكية النّفس، ولو أنّنا طوّفنا حول جميع العبادات لوجدنا الهدف منها إنّما هو تهذيب الأخلاق وتزكيتها، فها هو ربّنا يبيّن الحكمة مِن الصّلاة فيقول سبحانه: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
ويبيّن الحكمة مِن الزّكاة فيقول تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التّوبة: 103].
فالزّكاة تطهيرٌ للنّفس مِن البخل والشّحّ، وغرسٌ لمعاني المحبّة والعطف بين المسلمين، وإنّ جميعنا يعلم أنّ شهر رمضان هو شهر الأخلاق ومدرستها، فهو شهر الصّبر والرّحمة، والجود والصّلة والمراقبة، وكلّ هذه أخلاقٌ يغرسها الصّوم في نفوس الصّائمين ليحقّقوا درجة التّقوى لله، وذلك مِن خلال قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
بكلّ ما تحمل كلمة التّقوى مِن دلالاتٍ ومعانٍ إيمانيةٍ وأخلاقيةٍ، حيث إنّها تأمره بطاعة ربّه جل جلاله، وتمنعه مِن معصيته، وإذا غابت هذه الأخلاق رُدّت الأعمال على صاحبها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ).
فالصّيام تقويةٌ وتعزيزٌ للإرادة، ينمّي الوازع الدّينيّ، ويمدّ المسلم بالقوّة الّتي تقهر الرّغبات والشّهوات، وهذه القوّة الرّوحيّة والمعنويّة تساعد المسلم على أداء ما طُلب منه، ولقد ربّى رسولنا ع الصّائمين على أرفع هذه القيم الخلقيّة وأنبلها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ).
وليس هذا على سبيل الجبن والضّعف والخور، بل إنّها العظمة والسّموّ والرّفعة الّتي يربّي عليها الإسلام أتباعه، وسواءٌ كان هذا القول تلفّظًا صريحًا، أو كان تذكيرًا داخليًّا لنفسه بأنّه صائمٌ، فكلاهما فيه تذكيرٌ للّنفس بحفظ الصّيام مِن اللّغو الّذي قد يفسده.
2- فُرصٌ ثمينةٌ في أيَّامٍ جليلةٍ
إنّ شهر رمضان فرصةٌ ثمينةٌ، تحمل في طيّاتها السّعادة والفرح بفضل الله عز وجل، يتعرّض المسلم لنفحاته، ويحسن التّعامل معها، فيغفر الله ذنبه، ويتضاعف أجره.
بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العزِّ في نيل الفُرَصْ
واغتنم مسعاكَ واعلم أنَّ مَن بادرَ الصَّيد مع الصُّبح قنصْ
إنّ حال المؤمن في شهر رمضان يختلف عنه في الشّهور الأخرى، حيث يُشرق قلبه، وتزدهر أيّامه، وتزدان لياليه بالذّكر والصّلاة، والصّيام والقرآن، فرمضان ربيع القلوب لا ريب، ولكن الشّرخ الّذي نلحظه عند بعض المسلمين ناتجٌ عن عدم فهم هؤلاء لمبادئ هذا الدّين، ومِن ثمَّ عن عدم تطبيقهم لهذه التّعاليم في سلوكهم، حيث إنّ المطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسّلوك، ليست طريقًا مفروشًا بالورود، بل لا بدّ مِن عزيمةٍ قويّةٍ، وقرارٍ حاسمٍ، وسعيٍ للتّغيير، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ..)
أرأيتم حينما وفّقه الله إلى طريق التّوبة، بدأ يبحث عن مخرجٍ ممّا هو فيه، حتّى هيّأ الله له الخلاص، فلا بدّ لنا مِن تربيةٍ عميقةٍ، تستهدف التّغيير مِن الباطن قبل الظّاهر، وتربّي النّفس قبل الجسم، تربيةً إيمانيّةً روحيّةً خلقيّةً، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرّعد: 11].
وتغيير الحال لا يكون بالتّمنّي، ولكن بالعمل الجادّ والسّلوك القويم، وإذا لم نتحقّق بهذه المعاني، ونصلح حالنا في هذا الشّهر المبارك فمتى؟ وإنّ شهر رمضان فرصةٌ ذهبيّةٌ ينبّه المقصّرين في أداء الصّلاة إلى أهمّيّها والمحافظة عليها مع الجماعة، وإنّه فرصةٌ لمِن اعتاد على الفحش في الكلام، فرمضان يوجّهه لضبط لسانه فلا يتكلّم إلّا بخيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ).
فرصةٌ للإقبال على قرآننا الهادي لنا إلى الصّراط المستقيم، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
خاتمةٌ:
لنصلحْ أنفسنا ولنهذّبها، ولنغيّر عاداتنا السّيّئة، ولنصلح قلوبنا ونطهرها مِن أمراضها، في كلّ الأوقات عامّةً، وفي هذا الشّهر المبارك -الّذي تمرّ أيّامه مرّ السّحاب- خاصّة، وإنّ قصر أيّام شهر رمضان وسرعة مرورها تتطلّب منّا عزيمةً صادقةً، وهمّةً عاليةً في ترتيب الأوقات واغتنام النّفحات -وما أكثرها في شهر البركات- وإنّ ترتيب الأوقات في هذا الشّهر مِن أهمّ مفاتيح جني الثّمرات، فلنبادر إلى اغتنام فُرَصه الذّهبيّة، بالإقبال على الطّاعات، وتغيير السّيّء مِن العادات إلى ما فيه الخير والحسنات، ولنطرح الكسل، ولنقم بهمّةٍ إلى كلّ نافعٍ وصالحٍ مِن العمل، قبل فوات الأوان وهجوم الأجل، ملتزمين وصيّة رسولنا المصطفى عليه الصلاة والسلام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تُنْظَرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفَنِّدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).