1- أهمِّيَّة الأسرة المسلمة، ووظيفتها
2- بصلاح أُسَرِنا يصلحُ مجتمعنا
مقدمة:
لمّا كان الدّين الإسلاميّ دين حياةٍ -يشمل كلّ الجوانب الّتي تضمن للإنسان أن يحيا حياةً كريمةً- كان لزامًا أن يتناول اللّبنة الأساسيّة في تكوين المجتمع؛ ألا وهي: الأسرة، وليس مفهوم الأسرة في نظر الإسلام مقتصرًا على ارتباطٍ بين ذكرٍ وأنثى تحلّ له شرعًا فقط، ولا على علاقةٍ نفعيّةٍ أو مادّيّةٍ، أو صلة نسبٍ ودمٍ فحسب، بل هي رباطٌ مقدّسٌ، ومؤسّسةٌ قائمةٌ على الودّ والحبّ، ومبنيّةٌ على العدل والإحسان، ولقد خصّها الإسلام بكثيرٍ مِن الأحكام الّتي تثبّت بنيانها، وتنظّم شؤونها، واهتمّ اهتمامًا لا مزيد عليه بشأنها، وأُسُسِ تكوينها، وأسباب دوام ارتباطها، لتبقى شامخةً يسودها الوئام، وتتلاقى فيها مشاعر المودّة والمحبّة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الرّوم: 21].
ولكي تعيش هذه الأسرة المسلمة وحدة شعورٍ، ووحدة عواطف، قال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].
ولقد بيّن القرآن للأزواج أنّ كلّا منهما ضروريّ للآخر ومتمّمٌ له؛ فقال عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
ولمّا كانت الأسرة اللّبنة الأولى في المجتمع، والأساس لكلّ ما يؤول إليه مِن استقامةٍ أو انحرافٍ، واستقرارٍ أو ضياعٍ، وضع لها المبادئ الأساسيّة الّتي تصونها، وتضمن لها القوّة والبقاء، وألقى على عاتقها دورًا مهمًّا يتجلّى في المحافظة على النّوع الإنسانيّ، وذلك مِن خلال إنجاب الذّرّيّة والأولاد الأصحّاء الأطهار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النّساء: 1].
كما حثّ الإسلام على التّربية الحسنة وبناء النّفس الإنسانيّة المتكاملة، وذلك مِن خلال تلبية الحاجات النّفسيّة والرّوحيّة والعاطفيّة والجسديّة والمادّيّة، ضِمن نطاق أسرةٍ شرعيّةٍ، تُجنّب أفرادها الانزلاق نحو الانحراف، أو الوقوع في براثن الضّياع والاضطراب، وذلك مِن خلال تلبية بعض الحاجات الفطريّة بتشريع الزّواج الحلال، الّذي يُحصّنه مِن الوقوع في مهاوي الفساد، ويحميه مِن الأمراض الفتّاكة الّتي تصيبه نتيجة انتشار الفواحش.
1- أهمِّيَّة الأسرة المسلمة، ووظيفتها
الأسرة هي الخليّة الأولى الّتي يفتح الطّفل عينيه عليها، وتأثيرها فيه يؤدّي دورًا كبيرًا في توجيهه وتكوينه، وهي النّواة الاجتماعيّة الأولى الّتي تُؤَسَّس مِن أجل صناعة الجيل القادم، وتكوين مجتمعٍ سليم البنية، معافى مِن كلّ مظاهر الانحراف والفوضى، وإنّ للأسرة المسلمة في المجتمع المسلم وظائف كثيرةً، لعلّ مِن أهمّها: إقامة حدود الله سبحانه، وتطبيق شرعه، ونيل مرضاته بتأسيس البيت المسلم، قال سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229].
كما أنّ مِن الوظائف المهمّة للأسرة تكثير نسل الأمّة المسلمة وتربيته، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَتَزَوَّجُوا، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ، وَمَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ).
فهل تمارس أُسَرُنا اليوم رسالتها التّربويّة؟ وهل هي مِن القوّة والرّسوخ ما يؤهّلها لمقاومة الغزو الفكريّ؟ بل هل يجلس أفراد الأسرة على موائد القرآن في البيوت يتدبّرون آياته؟ فإن كانوا كذلك فبِها ونِعمَتْ، وإلّا فلنعلمْ أنّ أيّ تقصيرٍ أو إخفاقٍ في قيام الأسرة بدورها التّربويّ ستكون له عواقب وخيمةٌ على سلوك الأولاد، ومن ثَمّ على المجتمع بأسره.
لقد استطاعت الأسرة المسلمة -في الماضي- الّتي تمسّكت بأخلاق الإسلام، أن تُخرج للحياة أبطالًا شجعانًا، وعلماء أفذاذًا، وقادةً مخلصين، ونساءً عابداتٍ، كتبوا صفحة تأريخٍ مجيدةً في حياة المسلمين، فأين هم أولئك الّذين يشعرون بهذه المسؤوليّة اليوم؟ فيتعهّدون أولادهم بالأدب الصّحيح والتّربية الحسنة، ويُلزمونهم بالأخلاق الفاضلة، ويمنعون عنهم أسباب الانحراف، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ نُحْلًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ).
وهي اليوم تواجه حملةً شرسةً لزعزعة أركانها، بفكّ رباط الأسرة ونبذ قيمها. ولقد تفكّكت عرى كثيرٍ مِن الأُسَر المسلمة اليوم، نتيجة السّقوط في حمأة التّقليد الأعمى للغرب، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ)، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ).
فنتج عن هذه التّبعيّة العمياء دمار البيوت، وكثرة الطّلاق، وانتشار الجرائم الفظيعة.
2- بصلاح أُسَرِنا يصلحُ مجتمعنا
الأسرة المسلمة نواة المجتمع الصّالح، فصلاح الفرد مِن صلاح الأسرة، وصلاح المجتمع بأسره كذلك مِن صلاح الأُسَر، وإنّ مِن الحقائق المشاهدة أنّ الأفراد الصّالحين النّافعين لأنفسهم ولمن حولهم لا يخرجون إلّا مِن أُسَرٍ صالحةٍ مستقيمةٍ.
إنّ الأسرة هي المحضن المُخرِج للذّريّة الصّالحة أو الفاسدة، فصلاح حال المسلمين يبدأ بصلاح أُسَرهم، ولقد جاءت الأحاديث النّبويّة الّتي تبيّن أهميّة الأسرة، وشدّة تأثيرها على مَن يخرج منها صلاحًا أو فسادًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ).
فالمولود يُولد على التّوحيد الخالص لله سبحانه، فما إن يشِبّ عن الطّوق حتى تقع عليه تأثيرات أسرته، قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58].
فإن كان للفرد أسرةٌ صالحةٌ تحوطه وتصونه، وتحفظه وتوجّهه، فإنّها تقلّل مِن تأثير المجتمع الفاسد عليه إلى الحدّ الأدنى، وإنّ أدلّ دليلٍ على أنّ الأسرة الصّالحة قادرةٌ على صيانة أفرادها مِن الضّياع والانحراف، هو أنّ الله جل جلاله قد فرض على الأسرة فعل ذلك وكلّفها به، والله لا يأمر إلّا بمستطاعٍ، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التّحريم: 6].
وإنّ كلّ إنسان مرهونٌ بعمله، ومسؤولٌ عن نفسه وأهله، فواجبٌ عليه أن يُنقذ نفسه أوّلًا بتزكيتها وإصلاحها، وأن يُنقذ أسرته مِن أهلٍ وأولادٍ بحسن الرّعاية والتّهذيب، وكمال التّربية والتّأديب، مع الحزم واتباع أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، والصّبر على توجيه النّصح والأمر، قال عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
وهذا أمرٌ نبويٌّ -أيضًا- موجّهٌ إلى الأسرة، ومحمّلًا إيّاها مسؤوليّة إصلاح أفرادها، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ).
وهكذا كلّف الإسلام الأسرة برعاية أولادها وتهذيبهم، وحمايتهم مِن كلّ شرٍّ، فلتقمْ أُسَرنا بواجبها خير قيامٍ، لأنّها ستحاسب عليه أمام ربّها يوم الدّين.
خاتمةٌ:
إنّ بناء الأسرة -على الوجه السّليم- ليس أمرًا سهلًا، بل هو واجبٌ جليلٌ، وحملٌ ثقيلٌ، يحتاج منّا إلى إعدادٍ واستعدادٍ، كما أنّ الحياة الزّوجيّة ليست لهوًا ولعبًا، وليست مجرّد تسليةٍ واستمتاعٍ، بل هي تبعاتٌ ومسؤوليّاتٌ وواجباتٌ، فمَن تعرّض لها دون صلاحٍ وقدرةٍ كان جاهلًا غافلًا عن حكمة التّشريع الإلهيّ، ومَن أساء استعمالها، أو ضيّع عامدًا حقوقها، استحقّ غضب الله وعقابه، ولذلك ينبغي أن يُهيّئ الإنسان نفسه ليكون صالحًا لهذه الحياة، قادرًا على النّهوض بتبعاتها، وعلينا-جميعًا- أن نعلم صلاح مجتمعاتنا بصلاح أُسَرنا، و أنّ أيّ انتكاسةٍ تصيب الأسرة فإنّ أثرها عظيمٌ، وبلاءها جسيمٌ، وجرحها لا يندمل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. [التّغابن: 14-15].