1- لنعظِّمْ ما عظَّم الله جل جلاله
2- فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
مقدمة:
نتفيّأ في هذه الأيّام ظلال الأشهر الحُرُم الّتي عظّمها ربّنا عز وجل في كتابه، وبيّن فضلها، ونهى عن الظّلم فيها؛ فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التّوبة: 36].
ولقد بيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم حرمة هذه الأشهر وسمّاها بأسمائها، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ).
كما عظّمت العرب -قبل الإسلام- هذه الأشهر اقتداءً بخليل الرّحمن إبراهيم عليه السلام، فكانت تُطفئ فيها نار الحروب، وتسود فيها أحوال المودّة والألفة، ولعلّ مِن الحِكمَ في وقف القتال فيها: أنّها أشهر الحجّ إلى بيت الله الحرام، والّذي كان -أيضًا- معظّمًا حتّى عند المشركين، ولقد كان لشهر ذي القعدة -الّذي نعيش أيّامه- نصيبه مِن هذا الفضل العظيم الّذي قرّره الله جل جلاله في القرآن الكريم؛ فقال: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].
حيث نزلت هذه الآية الكريمة في بيان عزّة المسلمين، وإظهار فضل الله سبحانه عليهم أن أعادهم إلى بيته الحرام معتمرين، بعد أن منعتهم قريش مِن العمرة يوم صلح الحُديبة، فكانت عمرتهم في شهر ذي القعدة قضاءً لعمرتهم مِن العام الفائت في نفس الشّهر، ولقد جاءت هذه الأشهر لمزيد فضلٍ واختصاصٍ مِن الله عز وجل منذ خلق السّماوات والأرض، وأُمرنا بتعظيم أيّامها ولياليها، والاجتهاد فيها بالطّاعات والقربات، والابتعاد عن المعاصي والمنكرات، حيث جعل الله سبحانه الظّلم فيها أعظم خطيئة ووزرًا مِن الظّلم فيما سواها، وإنّ في قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} إشارةً إلى أنّ المجتمع في أخوّته جسدٌ واحدٌ، وأنّ العبث بأيّ مكوِّنٍ مِن مكوّناته تهديدٌ للأمّة بأجمعها، ولكن -وللأسف- في الوقت الّذي كان أهل الجاهليّة على جاهليّتهم يعظّمون الأشهر الحُرُم، فإنّنا نجد مِن المسلمين مَن ينتهك حرمتها، ويتجاهل حقّ الله جل جلاله فيها، وكان الأولى بهم أن يعظّموا ما عظّم الله سبحانه، ويصونوا أنفسهم عن ارتكاب المعاصي الّتي يزداد إثمها بدخول الأوقات الفاضلة.
1- لنعظِّمْ ما عظَّم الله جل جلاله
إنّ مِن تقوى الله سبحانه تعظيم شعائره وشرائعه، وأوامره ونواهيه، فالمؤمن الحقّ يُعظّم ما عظّم الله جل جلاله، فيعمل الصّالحات، ويسارع في الخيرات، ويبتعد عن المحرّمات، ويستشعر هيبة الله عز وجل وخشيته في قلبه، ويُذعن لجلاله، ويخاف غيرته على حرماته، عَنِ المُغِيرَةِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي).
فمَن عظّم الله سبحانه عظّم حُرُماته فلم ينتهكها، ووقف عند حدوده فلم يتعدّاها، ولو خالف ذلك هواه ومشتهاه، وتتأكّد الأحكام الشّرعيّة بحسب تأكيد الشّارع الحكيم عليها، وتكون النّواهي مغلّظةً -أيضًا- إذا غلّظها الشّرع الحنيف، وليس ذلك لمخلوقٍ مهما علا شأنه، بل هو من اختصاص ربّنا سبحانه، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
وكلّما علا منسوب الإيمان والتّقوى في قلب الإنسان كان أكثر تعظيمًا لشعائر الله جل جلاله، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحجّ: 32].
فتأمّل كيف جعل الله عز وجل الأمور الظّاهرة -وهي تعظيم شعائر الله سبحانه- علامةً على وجود أمرٍ باطنيٍّ وهو التّقوى، وإنّ مِن أعظم ما يدلّ على هذه التّقوى: حرص العبد على اجتناب ما حرّم الله عز وجل، فإذا قام في قلب العبد الخوف مِن الله سبحانه، صعب عليه أن يقرب ما حرّم الله جل جلاله عليه، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحجّ:30].
وما سمّيت هذه الأشهر بالحُرم إلّا لعِظَم حرمتها وحرمة الذّنب فيها، ولقد بيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع أنّ تعظيم الحرمات يتضاعف بحسب الأوقات والأمكنة والأزمنة، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ) -قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: (وَأَعْرَاضَكُمْ- حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا -أَوْ ضُلَّالًا- يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلِّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ)، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟).
فلذا كان مِن الواجب على كلّ مسلمٍ أن يعرف لهذه الأشهر الحُرُم قدرها، ويرعى لها مكانتها، ويتّقي الظّلم فيها، بل ينبغي أن يُنشّأ الصّبية والصّغار في بيوتنا -أيضًا- على مراعاة حرمة هذه الشّهور العظيمة، وأن يُبيَّن لهم قيمتها، وأنّ الواجب فيها الاقبال على الطّاعات، والابتعاد عن المنكرات.
2- فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
إنّ الظّلم أصل كلّ الشّرور، بل هو فسادٌ للدّين والدّنيا، ولذا حرّمه الله سبحانه على نفسه وجعله محرّمًا على عباده، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا).
ونهى عنه في كلّ الأوقات، لا سيّما في الأشهر الحُرُم، وإنّ القتال فيها مِن أعظم الظّلم ولو كان جهادًا في سبيله، ولقد سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم -سؤال استهزاءٍ- عن قتالهم في الشّهر الحرام، فأمر الله جل جلاله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يبيّن ذلك فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} [البقرة: 217].
وإنّ المسلمين ليتمسّكون بالحقّ، ولا يتعدّون حدود الله جل جلاله، وأمّا المنافقون والكافرون فإنّما يتّبعون أهواءهم؛ غير مبالين بأوامر الله سبحانه ونواهيه، فلقد كان مشركو العرب يتلاعبون بحرمة هذه الأشهر فيؤجّلون حرمة شهر الله المحرّم إلى صفَر إذا أرادوا قتالًا فيه، فبيّن الله جل جلاله نسيئهم بأنّه زيادةٌ في الكفر، وإمعانٌ في الضّلالة، ولذا يجب استشعار حرمة هذه الأشهر الحرم، والحذر مِن ظلم النّفس فيها باجتراح السّيئات، ومقارفة الآثام، امتثالًا لأمر الله جل جلاله، حيث إنّ الذّنب في كلّ زمانٍ سوءٌ وظلمٌ للنّفس، ولكنّه في هذه الأشهر أشدّ سوءًا، وأعظم شؤمًا، وأفدح ظلمًا، لأنّه يجمع بين الذّنب وبين امتهان حرمة ما حرّم الله عز وجل وعظّمه، فما بال بعض المسلمين يقتتلون فيها من أجل لعاعةٍ من الدّنيا، وتسيل بينهم الدّماء المعظّمة المعصومة الّتي نوّه الملائكة بذكرها مِن بين سائر وجوه الإفساد الكثيرة، قال تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30].
فهل جهل هؤلاء فظاعة جريمة القتل، وأنّها كان أوّل ذنبٍ عظيمٍ وقع من بني آدم؟ حينما قتل أحد ابني آدم أخاه ظلمًا وعدوانًا، فذكر الله سبحانه قصّتهم العجيبة لأهمّيّتها، وجاءت الآيات بعدها لتبيّن منزلة الدّماء عند الله؛ فقال: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
فكيف يكون عقاب مَن انتهك حرمة هذه الأشهر الحرم؟ أم كيف يكون جزاء مَن قتل نفسه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا).
خاتمةٌ:
حرّيٌ بمن سمع آيات الله سبحانه تُتلى عليه وهي تبيّن فضل هذه الأشهر العظيمة أن يعظّم ما عظّم الله جل جلاله، وأن يقف عند حدوده، حاجزًا نفسه عن الانغماس في وحل الذّنوب، نائيًا بها عن مزالق الخطايا، مانعًا لها عن التّلوّث بأرجاس الآثام، مترفّعًا بها عن دواعي الهوى؛ في كلّ الأوقات عامّةً، وفي مثل هذه الأوقات الفاضلة والأشهر العظيمة خاصّةً، حيث إنّ كلّ زمانٍ أو مكانٍ جعل الله سبحانه له حرمةً، كانت المعصية فيه أعظم وأفظع، فلمّا حرّم الله عز وجل مكّة وجعلها حرمًا آمنًا قال عن حَرَمِها: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحجّ: 25].
فكذلك الأشهر الحرم يَعظم فيها الذّنب ويتضاعف عقابه.
حقًّا: إنّ السّعيد من سمت به نفسه إلى طلب أرفع المراتب، وارتقاء أعلى الدّرجات مِن رضوان الله جل جلاله ومحبّته، باتّباع ما أمر الله سبحانه، واجتناب ما نهى عنه، فلنعظّمْ ما عظّم الله سبحانه، ولنتداركْ ما فات، ولنغتنمْ ما بقي مِن الأزمنة الشّريفة والأوقات الفاضلة المباركة، ولنلتزمْ المسلك الرّاشد والنّهج السّديد في هذه الأشهر الحرم، وفي كلّ شهور العام؛ بالإقبال على موائد الطّاعة، ورياض القربات، واجتناب أماكن الفسق والفجور، لنسعد في الدّنيا، ونفوز في الآخرة.