1- إتقان التَّخطيط وحُسْن توظيف الطَّاقات
2- دَور الوحدة في نهضة الأمَّة
مقدمة:
لقد ودّع العالم الإسلاميّ عامًا هجريًّا مضى، واستقبل عامًا هجريًّا جديدًا أقبل، ونحن إذ نودّع عامًا ونستقبل آخر لا بدّ لنا مِن أن نعيش الأمل والتّفاؤل، رغم أنّ أمّتنا الإسلاميّة لا تزال رهينة المآسي والنّكبات، فجسدها مُثخنٌ بالجراح، وأبناؤها يعانون في مختلف الوهاد والبطاح، تُراق فيهم الدّماء، وتتقطّع منهم الأشلاء، إلّا أنّ هذا كلّه لا ينبغي أن يحملنا على اليأس والقنوط، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56].
وإنّ استهلال هذا العام الهجريّ لَيُذكّرنا بحدثٍ عظيمٍ غيّر مجرى التّاريخ؛ إنّه هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام مِن بلد الشّرك إلى بلد الإسلام، فالهجرة حدثُ الأحداث، وقمّة النّصر على الوثنيّة، ومقدّمة عصرٍ جديدٍ في حياة الإنسانيّة، شعاره الإيمان وكرامة الإنسان، وإنّها أعظم فصول التّاريخ إثارةً ونتائج شملت فائدتها العالم كافّةً، حيث كانت مِن مكانٍ يُحاصَر فيه الفكر، وتُفرض فيه شريعة الوثنيّة، لأنّها شريعة الآباء والأجداد، إلى مكانٍ صالحٍ يأمن فيه الإنسان على نفسه ودينه وماله وعرضه، وإنّها لَعملٌ ضروريٌّ لِتَقدّم الحياة والحضارة، فهي طريق رسل الله إلى نشر الرّسالات، وإصلاح الحياة مِن فسادها، وإنّها الطّريق إلى النّور يعقب الظّلام، وإلى الهدى يحطّم الضّلال، وإنّها الحدث الّذي حمل لنا في طيّاته معاني الشّجاعة والتّضحية والإباء، والصّبر والنّصر والفداء، والتّوكل والقوّة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، وإنّه الحدث الّذي جعله الله طريقًا لرفع راية الإسلام، وتشييد دولته، فما كان لنور الإسلام أن يَشعّ في جميع أرجاء المعمورة لو بقي حبيسًا في مهده، ولله الحكمة البالغة في شرعه وكونه وخلقه.
حقًّا: إنّ في هذا الحدث العظيم مِن الآيات البيّنات والعِبَر البالغات، مَالو استلهمته أمّة الإسلام اليوم، وعملت على ضوئه، وهي تعيش على مفترق الطّرق، لَتَحقّق لها عزّها وقوّتها ومكانتها، فهيهات أن يَحلّ أمنٌ وسلامٌ إلّا باتّباع نهج الأنبياء، والهجرة إلى ربّ الأرض والسّماء، فهي سبيل الأمن والرّخاء والفوز والنّجاح، حتى ولو انتهى بالموت أو القتل، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين} [الحجّ:58].
1- إتقان التَّخطيط وحُسْن توظيف الطَّاقات
إنّ التّخطيط -كما نفهمه- هو توظيف كلّ الطّاقات والإمكانات للوصول إلى أهدافٍ محدّدةٍ في زمنٍ معيّنٍ، نستغلّ الموارد المتاحة والفرص السّانحة للوصول إلى الهدف المنشود، ورسم خارطة سيرٍ توضّح أين نحن، وما نصبو إليه مستقبلًا، وبالتّحليل للتّخطيط الاستراتيجيّ الّذي استخدمه الرّسول القائد القدوة، فإنّنا نجده في هجرته قد قام بالدّراسة المسبقة لتحديد الأهداف المرجوّ تحقيقها، آخذًا بالأسباب، محلّلًا للواقع، متطلّعًا للمستقبل، غير لاهٍ عن أيّ هدفٍ أو غايةٍ، بدءًا مِن الإعداد الأمثل للموارد البشريّة والمادّيّة والمعنويّة، مرورًا بغرس الثّقة واليقين بمعيّة الله جل جلاله، قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التّوبة:40].
فلقد حدّد أهدافه، ورسم لكلّ هدفٍ خارطة طريقٍ تجمع كلّ عناصر التّخطيط السّليم، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: فَخُذْ -بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بِالثَّمَنِ)، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلاَمٌ شَابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلاَ يَسْمَعُ أَمْرًا، يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلاَمُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ العِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ، وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا، حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، هَادِيَا خِرِّيتًا، وَالخِرِّيتُ المَاهِرُ بِالهِدَايَةِ، قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ العَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ.
هكذا علّمتنا الهجرة؛ أنّ الحياة تُدار بتخطيطٍ دقيقٍ، وقواعد متّزنةٍ، وأسسٍ ثابتةٍ ينهض عليها المجتمع المؤمن القويّ، فلا ارتجال ولا تخبّط ولا عشوائيّة، ليتكلّل العمل بالنّجاح.
2- دَور الوحدة في نهضة الأمَّة
إنّ الهجرة النّبويّة مِن أهمّ أحداث التّاريخ الإسلاميّ، حيث كانت تهيئةً لإعداد جيلٍ مؤمنٍ قويٍّ متكاملٍ، استطاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من خلالها بناء أمّةٍ وحضارةٍ، والانتقال بالدّعوة مِن مرحلة الضّعف إلى القوّة، ومِن الاضطهاد إلى العزّة، فبنى المسجد، وآخى بين المهاجرين والأنصار، فكانت لهذه الأخوّة الإسلاميّة وائتلاف القلوب أهميّةٌ كبيرةٌ في معادلة تحقيق النّصر والظّفر على الأعداء، فقد ركّز صلى الله عليه وسلم عليها؛ لعلمه بضرورتها في إنشاء مجتمعٍ متماسكٍ، تسوده روح الأخوّة والائتلاف، بعيدًا عن التّفرّق والتّنازع والاختلاف المؤدّي إلى الهلاك والدّمار، وهكذا مضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يربّي أصحابه على هذه البنية الإيمانيّة والنّفحة الأخلاقيّة، الّتي تضمن سلامة المجتمع الإسلاميّ مِن كلّ ما يُهدّد كيانه ويَهدّ أركانه، فكان في تماسك أصحابه وتأخيهم فيما بينهم ضمانةٌ مِن الوقوع في شرَك الشّيطان وحزبه، عَنْ زَكَرِيَّا بْنَ سَلَّامٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: (أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ).
فالاتّحاد يقوّي الضّعفاء، ويزيد الأقوياء قوّةً على قوّتهم، فاللّبنة وحدها ضعيفةٌ مهما كانت متانتها، ولكنّها في الجدار قوّةٌ لا يسهل تحطيمها، كما أشار إلى ذلك الحديث الشريف، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وهكذا كان لرابطة الأخوّة في الله دورٌ هامٌّ في بناء الدّولة الإسلاميّة على الحريّة والعدل والشّورى.
إنّ النّجاحات الباهرة الّتي حقّقتها المسيرة الإسلاميّة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والّتي تمثّلت بإنشاء دار الإسلام الأولى، ومِن ثَمّ حمل رسالة الإسلام للعالم كافّةً، ما كان لها أن تكون بعد توفيق الله عز وجل لولا ذلك التّآخي الحقيقيّ، والوحدة الصّادقة بين أفراد المجتمع الإسلاميّ، ممّا شكّل ركيزةً أساسيّةً في بناء الأمّة الإسلاميّة وتماسكها وصمودها أمام التّحديات الدّاخلية والخارجيّة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ *وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62-63].
ولقد علّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ بناء الأوطان يحتاج إلى قلوبٍ مؤمنةٍ متحابّةٍ تعمل في إطارٍ من التّعاون والأخوّة، لتعلي بنيانه، وتقيم أركانه، فآخى بين المهاجرين والأنصار فضربوا أروع الأمثلة في الوقوف صفًّا واحدًا؛ محتابّين متآلفين، ممتثّلين قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
فالأخوّة الإيمانيّة الصّادقة سببٌ في بناء المجتمع وتحصينه مِن الآفات أو التّصدّع، ويتجلّى ذلك من الهجرة النّبويّة بعقد الإخاء الّذي فعله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه الكرام، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9].
وإنّ أيّ تفريطٍ في أمر العقيدة، أو تقصيرٍ في أخوّة الدّين مآله ضعف الأفراد، وتفكّك المجتمع، وهزيمة الأمّة، فحريٌّ بنا أنّ تتوحّد كلمتنا، وتجتمع أمّتنا على الحقّ، وتتوافق الرّايات تحت مظلّة الإسلام.
خاتمةٌ:
حقّا: لقد كانت الهجرة نقطة تحوّلٍ في تاريخ الإسلام مِن الفكرة النّظريّة إلى التّطبيق العمليّ، الّتي أثبتت جدارة الإسلام وصلاحيّته في قيادة الإنسان، وتوجيه الحياة إلى الصّورة المثاليّة الرّائعة، الّتي أضافها الإسلام إلى الحضارة الإنسانيّة.
ما أحوجنا ونحن نقرأ قصّة الهجرة النّبويّة، أن نفهم دلالاتها وعِبَرها، ونتّخذها نبراسًا نستضيء به في حياتنا وأعمالنا، وأن نُعلّم أولادنا وبناتنا تلك المعاني السّامية والأخلاق الفاضلة ونغرسها في نفوسهم، حتّى يتربّوا على الفضائل، ويكونوا أداةً صالحةً في خدمة مجتمعهم ودينهم، وحريٌّ بنا أن نغذّي بهذه المعاني أجيالنا المتعطّشة للمعرفة والثّقافة الصّافية، فالمنهج الّذي جمع الرّسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصّدّيق رضي الله عنه كان هو معرفة الحقّ، وسلوك طريقه، فأصبح غار ثورٍ مدرسةً تعلّم الصّبر، وترشد إلى السّعادة بدواء {لَا تَحْزَنْ} وتنبئ عن عزّ الدّنيا ورفعة الدّين بعقيدة {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، فلنقتدِ برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ولنوحّد صفّنا، ولنضاعف جهودنا، ولنجمع كلمتنا لمواجهة المخاطر والتّحدّيات، فإنّ هذه الأمّة المسلمة خليقةٌ بأن تأخذ مِن ذكريات الهجرة المدد الّذي لا ينفد، والمعين الّذي لا ينضب، والزّاد الّذي لا يفنى، فتَخْتطّ لنفسها خطّة رشدٍ، ومناهج سيرٍ، ومعالم هدايةٍ، وسبيل سعادةٍ، إذ هي جديرةٌ بأن تبعث في الأمّة المسلمة اليوم ما قد بعثته فيها بالأمس من روح العزّة، وبواعث السّموّ، وعوامل النّصر، وأسباب التّمكين.