1- طريق الفوز
2- ثمرةٌ يانعةٌ
مقدمة:
في زمنٍ يعجّ بالماديّة والمصالح الآنيّة يُعتبر الحديث عن الأخلاق والقِيم غريبًا مرفوضًا لدى أرباب الدّنيا، لأنّ القيمة الأعلى في زمنٍ كهذا هي الرّبح، لكنّ إعادة ضبط البوصلة، وصياغة تعريفٍ جديدٍ للرّبح أمرٌ بالغ الأهمّيّة، بل هو تذكيرٌ بتعريفٍ قديمٍ للفوز، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
ستّة مواطن في القرآن تصف النّجاة مِن النّار ودخول الجنّة بأنّه الفوز العظيم، فهو معنًى مكرّرٌ في القرآن بغرض تأكيده في النّفوس، ومتى تأكّد سعى المرء إليه السّعي الحثيث، ومتى استقرّ في النّفس حبّ ذلك الفوز جعل المرءُ يتلمّس الطّرق الموصلة إليه، فتطالعه أحاديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي تربط بين حُسن الخلق والجنّة، وكذلك يمرّ في طريقه على أحاديث تشير إلى أهمّيّة حُسن الخلق لاستقامة حياة النّاس ومعاشهم، فالمجتمع دون أخلاقٍ مجتمعٌ تتهدّده أخطارٌ عظيمةٌ، وللوقوف على حقيقة هذا المعنى: لنتخيّل مجتمعًا مِن أسسه الّتي قام عليها أنّ الكذب فضيلةٌ وأنّ الصّدق رذيلةٌ، ما المآلات الّتي يؤول إليها مجتمعٌ كهذا، أو لنفترض مجتمعًا آخر فيه العفّة أمرٌ مَعيبٌ يوصف صاحبها بالجُبن أو التّخلّف وقلّة الجرأة، أمّا الشّذوذ والانحراف والانغماس في حمأة الشّهوات المحرّمة فهو المغامرة المحمودة والشَّجاعة والتّقدّم، كيف يكون استقرار مجتمعٍ كهذا؟ وهل يُعرف فيه نسبٌ؟ وهل يُقرّ أبٌ بانتماء ابنٍ له؟ وإنّك ما نزعت أسباب عطف الآباء على الأبناء فقد فكّكت المجتمع ونقضت أهمّ الأسس الّتي ينبني عليها.
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمًا وعويلًا
إنّ أبرز جنايات الإلحاد على المجتمعات أن يهدم المرجعيّة الّتي تحدّد الأخلاق -حسنها وقبيحها- أمّا لدينا فالأمر بالغ الوضوح، قال الحق سبحانه في نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ".
1- طريق الفوز
أحاديث كثيرةٌ تلك الّتي ربطت بين دخول الجنّة وبين حُسن الخلق؛ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ).
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ: (تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ)، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: (الفَمُ وَالفَرْجُ).
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: (المُتَكَبِّرُونَ).
وعَنْ أَبِي يَحْيَى، مَوْلَى جَعْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه يَقُولُ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَفِي لِسَانُهَا شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا سَلِيطَةٌ، قَالَ: (لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ فِي النَّارِ) وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ).
وقد بين الله سبحانه منزلة الأبرار: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطفّفين: 22-28].
تدفع هذه الآيات المرء أن يسأل عن البرّ، ليقوم به فيكون مِن الأبرار، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ).
ولحرص النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفوز الصّحابة بمنزلة الأبرار أمرهم بحسن الخلق، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ).
2- ثمرةٌ يانعةٌ
الخلق الحسن ثمرةٌ يانعةٌ مِن ثمار العبادات الّتي شرعها لنا ديننا الحنيف، وأبرز العبادات وعمادها الصّلاة {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
وقد كان نبيّنا صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بطلب حسن الخلق مِن ربه سبحانه، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ).
وكذلك يُنتظر مِن الصّائم أن يحسّن خلقه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ).
بل ربّما صامت المرأة وصلّت ثمّ ساء خُلقها فما انتفعت مِن صيامٍ ولا مِن صلاةٍ فدخلت النّار، وربّ امرئٍ حسّن أخلاقه على قلّةٍ منه في صيام النّافلة وقيامها فأدرك ما كان منه قليلًا، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ).
فأنت ترى أنّ العبادات لها مقاصد تحقّقها، كصلة العبد بربّه جل جلاله، ولها أيضًا ثمراتٌ يُنتظر ظهورها في المجتمع، وهي الأخلاق الفاضلة، وكذلك جعل الإسلام الأخلاق ثمرةً للإيمان وعلامةً عليه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا).
هذا وللأخلاق الحسنة ثمراتٌ دنيويّةٌ نصّت عليها أحاديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: (إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ).
إنّ مصطلح عمران الدّيار يفيد بشكلٍ قاطعٍ أنّ خرابها فرعٌ عن غياب الأخلاق الحسنة، فمجتمعٌ تغيب عنه أمّهات الأخلاق الحسنة انتظرْ تفكّكه وضياع الجيل القادم منه.
خاتمةٌ:
أمر الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلُق، تعليمًا لنا وتنبيهًا إلى أهمّيّته: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88].
ودلّنا في أكثر مِن موطنٍ مِن القرآن على أخلاقٍ حسنةٍ يجدر بنا أن نتمثّلها: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصّلت: 34-35].
هذا مبدأٌ عظيمٌ مِن مبادئ صناعة العلاقات الاجتماعيّة وصيانتها، وهي أن ندفع الخلق السّيئ وأن نقاومه بالخلُق الحسن، لكنّ النّصّ هنا يبيّن أنّ أمرًا كهذا عسيرٌ على النّفوس، ولا بدّ مِن ترويضها حتّى تطيقَه، ومِن وصايا لقمان الحكيم لابنه أن أوصاه ببعض الأخلاق الحسنة: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
وعلى العموم فإنّ نشر الأخلاق الحسنة مِن مقاصد بعثة نبيّ آخر الزّمان صلى الله عليه وسلم، عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إنَّما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ).
فلنسر على خُطا نبيّنا صلى الله عليه وسلم في التّمثل بأحسن الأخلاق، ولننشرها في النّاس فإنّه متى انتشر العدل والرّحمة والتّعاون والأمانة والحياء والعطاء والانضباط فانتظر حينها مجتمعًا أرقى المجتمعات.
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النّفس بالأخلاق تستقم