1- النَّهي عن التَّسوُّل
2- للضَّرورة أحكامٌ
مقدمة:
جعل الله جل جلاله البشر متفاضلين في الرّزق، ابتلاءً للغنيّ بغناه؛ أيشكر أم لا، وابتلاءً للفقير بفقره؛ أيصبر أم لا، ولو كان النّاس في رتبةٍ واحدةٍ مِن الغِنى لما أنفق غنيٌّ على فقيرٍ، لكنّ الله سبحانه ابتلى بعضنا ببعضٍ، وحثّ الغنيّ على الإنفاق، كما حثّ الفقير على التّعفف؛ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ، أَمَّا هُوَ فَحَبِيبٌ إِلَيَّ، وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي، فَأَمِينٌ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: (أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟) وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟) فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟) قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: (عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا) -وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً– (وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا) فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ: (مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ).
وقد نبّهت النّصوص إلى حرص ابن آدم على المال، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ).
وعَنْه رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ).
والحلّ في غنى النّفس، إذ لن تنفكّ النّفس ابتداءً عن حبّ المال وقد جُبلت عليه، لكن في النّاس مَن تستغني نفسه بالله عز وجل فيقنع، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ).
1- النَّهي عن التَّسوُّل
جاءت نصوصٌ كثيرةٌ تحثّ المسلمين ألّا يطلبوا مِن النّاس أموالهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ، قَالَ: (إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ) ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ، يُرِيدُ بِهَا صِلَةً، إِلَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ، يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إِلَّا زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً).
وفي حديث آخر يُقسم صلى الله عليه وسلم على ما يشجّع النّاس على النّفقة الخالصة لله مِن جهة، وعلى ما ينفّر مِن المسألة مِن جهةٍ أخرى، عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ)، قَالَ: (فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: فَإِنَّهُ مَا نَقَّصَ مَالَ عَبْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ بِمَظْلَمَةٍ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا، وَلَا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَ فَقْرٍ)، وَأَمَّا الَّذِي أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ)، قَالَ: (فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ) قَالَ: (وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا؟) قَالَ: (فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ) قَالَ: (فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ)، قَالَ: (وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ) قَالَ: (وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا، وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ)، قَالَ: (هِيَ نِيَّتُهُ، فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ).
وفي الحديث الآتي تنفيرٌ مِن المسألة؛ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ).
وفي حديثٍ آخر مقارنةٌ بين العمل الحرّ وبين المسألة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ).
وفي حديثٍ آخر بيانٌ لمآل المسألة؛ عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْمَسَائِلُ كُدُوحٌ يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا).
فمن شاء أن يستبقي ماء وجهه سالمًا فلا يسألن.
2- للضَّرورة أحكامٌ
في الحديث السّابق بيانٌ لاستثناءٍ مِن الحكم الأصليّ للمسألة، والاستثناء هو أن يسأل الرّجل ذا السّلطان في أمرٍ لا بدّ منه، وهنا قيدان يجدر التّنبه لهما، أحدهما في المسؤول؛ أن يكون ذا سلطانٍ لا مِن عامّة النّاس، والثّاني في موضوع المسألة وهو ما لا بدّ منه، وقد مرّ قيدٌ آخر في الأحاديث النّاهية عن السّؤال، والقيد ظاهرٌ في لفظ "تكثّرًا" فمن سأل النّاس وقصده التّكثّر مِن المال فهذا هو الّذي يسأل جمر النّار، أمّا مَن لم يكن هذا شأنه فليس هذا حكمه، فربّ مقلٍّ يسأل لا تكثّرًا وإنّما لسدّ خلّته فهذا حكمه مختلفٌ، وهناك حالاتٌ أخرى أباحت فيها الشّريعة المسألة، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: (أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا)، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: (يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ رَجُلٍ، تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا).
كما يجوز أخذ العطاء ما دام عن غير مسألةٍ؛ عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه قال: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ).
وقد بيّن عمر رضي الله عنه ذلك لمن استعمله؛ عَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ الْمَالِكِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا، وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ، أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ، وَأَجْرِي عَلَى اللهِ، فَقَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ، فَكُلْ وَتَصَدَّقْ).
فمَن جاءته سلّة الإغاثة عن غير سؤالٍ وحاجةٍ فليأكل وليتصدّق، هذا ولو كان السّؤال حرامًا مطلقًا لما أُبيح إعطاء سائلٍ قطّ، لكن الشّريعة نهت أن ننهر السّائل؛ لأنّه ربّما كان محتاجًا بحقٍّ {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضّحى: 6-11].
فتأمّل كيف ذكّر الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم بيتمه وفقره، وكيف امتنّ الله عليه بالإيواء والإغناء والهداية، ثمّ كيف كلّفه بعد ذلك ألّا ينهر سائلًا وألّا يقهر يتيمًا، وعلى هذا فلا يحقّ للقائمين على المنظّمات الإغاثية أن ينهروا سائلًا يستحقّ العطاء، ولا يحقّ لهم مِن باب أولى إذلاله بنشر صورته وهو يأخذ ما رزقه الله عن طريقهم، وفي المقابل لا يحل لكلّ أحدِ أن يدّعي الفقر ويتوجّه إلى مكاتب الإغاثة يتسوّل منها وقد أغناه الله عز وجل.
خاتمةٌ:
مَن أراد الجنّة فلا يسألن إلّا الله جل جلاله، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه -قَالَ: وَكَانَ ثَوْبَانُ رضي الله عنه مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يَكْفُلُ لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟)، فَقَالَ ثَوْبَانُ: أَنَا، فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا.
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ، لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالْغِنَى، إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى عَاجِلٍ).
هذا هو جوهر الإسلام؛ أن نتوجّه إلى الله سبحانه أغنياء وفقراء، فلا نسأل إلّاه، فمتى أعطانا الله لم يستطع أحدٌ منع عطاء الله عزوجل.
ونختم بكلام أبي حامدٍ الغزاليّ: في المسألة: "ولو كان السّؤال حرامًا مطلقًا لما جاز إعانة المتعدّي على عدوانه، والإعطاء إعانة، فالكاشف للغطاء فيه أن السّؤال حرامٌ في الأصل، وإنّما يباح بِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مُهِمَّةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الضَّرُورَةِ، وإنّما قلنا إنّ الأصل فيه التّحريم لأنّه لا ينفكّ عن ثلاثة أمورٍ محرّمةٍ:
الأوّل: إظهار الشّكوى مِن الله تعالى؛ إذ السّؤال إظهارٌ للفقر وذكرٌ لقصور نعمة الله تعالى عنه، وهو عين الشّكوى، وكما أنّ العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعًا على سيّده فكذلك سؤال العباد تشنيعٌ على الله تعالى، وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحلّ إلّا لضرورةٍ كما تحلّ الميتة.
الثّاني: أنّ فيه إذلال السّائل نفسه لغير الله تعالى، وليس للمؤمن أن يذلّ نفسه لغير الله، بل عليه أن يذلّ نفسه لمولاه فإنّ فيه عزّه، فأما سائر الخلق فإنّهم عبادٌ أمثاله، فلا ينبغي أن يذلّ لهم إلّا لضرورة، وفي السّؤال ذلّ للسّائل بالإضافة إلى المسؤول.
الثّالث: أنّه لا ينفكّ عن إيذاء المسؤول غالبًا؛ لأنّه ربّما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلبٍ منه، فإن بذل حياءً مِن السّائل أو رياءً فهو حرامٌ على الآخذ، وإن منع ربّما استحيا وتأذّى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء، ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه، وكلاهما مؤذيان، والسّائل هو السّبب في الإيذاء، والإيذاء حرامٌ إلّا بضرورةٍ.