1- ختامه مِسكٌ
2- الإقبال على الله
مقدمة:
رمضان زمان التّقرّب إلى الله عز وجل، والتّزلّف بأنواع العبادات، أشهر عباداته الصّوم والصّبر، لكن معها عباداتٌ أخرى تزيد المرء قربًا مِن الله، كالصّلاة -إذ فيه صلاة التّراويح- والقرآنِ -إذ أُنزل فيه- والصّدقة على الفقراء -إذ لا يُختم رمضان إلّا بدفع زكاة الفطر- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ".
وفي رمضان اجتناب قول الزّور والعمل به، وغير ذلك مِن العبادات الجليلة والأخلاق الفاضلة الّتي يحرص المسلم على الالتزام بها في شهر رمضان، لتنطبع فيه؛ فيثابر عليها بعد رمضان، فيلتزم بما وجب منها كاجتناب قول الزّور، ويجتهد ما أمكنه في نافلتها، وإن كان يعسر أن يبقى على ذات السّوية الّتي كان عليها في رمضان.
إنّ الّذي يعرض للسّائرين إلى الله المتقرّبين إليه في رمضان: الكسل والفتور، إذ تكون الهمم ابتداءً أعلى ما تكون وأوفر وأشدّ ما تكون، ثمّ ما تلبث تخبو شيئًا فشيئًا، وهذا طبعٌ في الإنسان، لكنّ رمضان يزداد فيه الخير كلّما اقتربت مِن نهايته، فقد شربتَ مِن كأسه اللذيذة ثلاثة أرباعها، وبقي الرّبع الألذّ، فختامه مسك، وفي ذلك يكون التّنافس.
ممّا يعالج به المرء فتوره في نهاية رمضان -مع فضل تلك النّهاية- هو اطّلاعه على أحاديث الفضائل، فقراءة أحاديث فضائل الأعمال عمومًا تشعل الهمّة للأعمال، ومِن ذلك فضائل خاتمة الشّهر الفضيل، ومِن الأحاديث ما يكون محفوظًا مِن قبل، لكنّ التّذكير وظيفة الأنبياء وحملة ميراثهم، {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطّور: 29].
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9].
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21].
1- ختامه مِسكٌ
أفضل الشّهر عشره الأخيرة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة في رمضان ما لا يجتهده في سواه، ويجتهد في العشر الأخير ما لا يجتهده في صدر الشّهر، أمّا اجتهاده في سواه: فعَنْ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ المُغِيرَةَ رضي الله عنه، يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ -أَوْ سَاقَاهُ- فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: (أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).
يتجافى جنبه صلى الله عليه وسلم عن المضجع مع دفئه، مصداقًا لقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السّجدة: 16-17].
كيف سيكون قيامه صلى الله عليه وسلم في سائر سنته وعنه رُوي الحديث الآتي: عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ).
كيف سيكون قيامه صلى الله عليه وسلم وعليه أُنزل {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 16-17].
تصف أمّ المؤمنين حاله في العشر الأخير، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ".
وعنها رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَقِيَ عَشْرٌ مِنْ رَمَضَانَ، شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَاعْتَزَلَ أَهْلَهُ".
إنّ مِن دواعي زيادة الهمّة في العشر الأخير اشتماله على الليلة المباركة {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدّخان: 1-4].
الليلة الّتي سُمّيت باسمها السّورة المعروفة، الليلة الّتي مَن حرمها فقد حُرم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (... فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ).
الليلة الّتي يغفر قيامها الذّنوب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
الليلة الّتي نكثر فيها طلب العفوِ مِن الرّبّ العفوّ.
2- الإقبال على الله
نقبل على ربّنا عز وجل في العشر الأخير لعلّنا نصادف ليلة القدر، فالثّابت في القرآن أنّها في رمضان؛ لأنّ زمن نزول القرآن في رمضان {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
ونزوله في ليلة القدر {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
والجمع بين الآيتين يقتضي أن تكون ليلة القدر في رمضان يقينًا، فمَن قام كلّ رمضان إيمانًا واحتسابًا فقد صادف ليلة القدر بلا شكّ، لكنّ نصوص الأحاديث -وهي عمومًا ظنّيّةٌ الثّبوت- تحدّد الأمر بشكلٍ أدقّ، فهي في العشر الأواخر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد تحرّيًا لليلة القدر، فاعتكف العشر الأولى، يطلبها، ثمّ اعتكف الثّانية يطلبها، حتّى أوحي إليه أنّها في العشر الأخيرة -الّتي نحن فيها- فهل مِن مشمّرٍ؟ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه فَقُلْتُ: أَلاَ تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ نَتَحَدَّثُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: قُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ القَدْرِ، قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فِي وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ) وَكَانَ سَقْفُ المَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزَعَةٌ، فَأُمْطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ.
أحاديث أخرى أكثر تحديدًا تجعلها في الوتر مِن العشر الأخير، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ).
وعَنْ عُبَادَةَ ابْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ، وَهِيَ لَيْلَةُ وِتْرٍ تِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ خَامِسَةٍ أَوْ ثَالِثَةٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ لَا بَرْدَ فِيهَا، ولَا حَرَّ وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ، وَإِنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ).
فهذا زمانها، وهذه أماراتها، وهذا فضلها العظيم، عشرة مفاتيح لخزنة كنزٍ، هل يقتصر العاقل على تجربة أحدها، أم يجرب العشرة؟
خاتِمةٌ:
اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سبق بيانه- في العشر الأواخر، واعتكفت نساؤه مِن بعده، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِه".
والاعتكاف انقطاعٌ عن النّاس، عن الدّنيا ومشغلاتها ليتفرّغ القلب للرّبّ عز وجل، فينوّره الله بنوره {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النّور: 35-36].
هناك صلةٌ تصويريّةٌ بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا، على طريقة التّناسق القرآنيّ في عرض المشاهد ذات الشّكل المتشابه أو المتقارب، وهناك صلةٌ مثلها بين المصباح المشرق بالنّور في المشكاة، والقلوب المشرقة بالنّور في بيوت الله، تلك البيوت {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} -وإذن الله هو أمر للنّفاذ- فهي مرفوعةٌ قائمةٌ، وهي مطهّرةٌ رفيعةٌ، يتناسق مشهدها المرفوع مع النّور المتألّق في السّماوات والأرض، وتتناسق طبيعتها الرّفيعة مع طبيعة النّور السَّنيّ الوضيء، وتتهيّأ بالرّفعة والارتفاع لأن يُذكر فيها اسم الله {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وتتّسق معها القلوب الوضيئة الطّاهرة، المسبّحة الواجفة، المصلّية الواهبة، قلوب الرّجال الّذين {لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ}.
فإذا كان النّور في بيوت الله عز وجل، فالمعتكف يستحقّه، ولذا نقول عند ذهابنا إلى بيوت الله عز وجل: (اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا).