1- هل نِلنا شهادة التَّقوى؟
2- فلنفرح بفضل الله
مقدمة:
يودّع المسلمون -اليوم- شهر القرآن والإحسان، بقلوبٍ يملؤها الحزن العميق، ونفوسٍ يعتصرها الألم على فقده وفراقه، ولكم تمنّى المؤمنون أن يكون رمضان العام كلّه، لِما يعلمون فيه مِن الرّحمات والبركات، والخيرات والمكرمات، مِن ربّ الأرض والسّماوات، فلقد زكّى النّفوس وطهّرها، وضاعف الله فيه الأجور وزادها، وعاش المؤمنون فيه في جوٍّ مِن السّكينة والطّمأنينة، والحبّ والإخاء، والقُرب والصّفاء، وارتفع بأرواحهم إلى أنفاس الملائكة المقرّبين، فكانت رحلته بعيدة المدى في بعث الرّوح، وتهذيب الخلق، وتعويد الصّبر، وتعليم القناعة والرّضا، وشعور المسلم بإخوانه، وتمرين المسلم على أداء العبادات في أوقاتها، وتدريبه على الإكثار مِن نوافلها، ليحظى بالقرب مِن خالقه ومولاه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأعطينَّه، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأعيذنَّه، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يكره الموت وأنا أكره مساءته).
وإنّ شهرًا غرس هذه الآثار الطّيّبة كلّها في نفوس المؤمنين، لجديرٌ بهم أن يفرحوا للقائه، ويحزنوا لوداعه، وأن تبقى فيهم هذه الظّاهرة الإيمانيّة والأخلاق الفاضلة -الّتي علّمهم إيّاها شهر القرآن- ما عاشوا.
1- هل نِلنا شهادة التَّقوى؟
لقد كان شهر رمضان مدرسةً للإيمان والتّقوى، والطّهر والأخلاق، والمعرفة والرّضوان، والقناعة والإحسان، وها هو قد مرَّ مرور السّحاب، وذهب بدون شعورٍ ولا حسابٍ، وكلّ أيامنا تنقضي، وأعمارنا تنتهي، وقلّ مَن يتنبّه للعبر {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
فهل حققّنا الغاية مِن الصّيام؟ وهل أصبحنا مِن المتّقين حقًّا؟ وهل استفدنا مِن الصّوم وتأمّلنا روحانيّاته، وتدبّرنا فيه مراقبة الله وخشيته؟ وهل تعوّدنا فيه الصّبر على الملمّات، والعزيمة على الشّدائد والصّعوبات، والرّضا بقضاء الله -حلوه ومرّه وخيره وشرّه وعمل الحساب ليوم الحساب؟ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
فطوبى لعبدٍ خرج مِن شهر رمضان بتلك الحصيلة مِن الخير والبرّ، وعمل المعروف والصّالحات مِن الأمور، واغتنم فرصة حياته قبل مجيء يومٍ لا ينفع نفسًا عملها لم تكن قد عملت مِن قبل خيرًا {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].
ويا لسعادة عبدٍ ذاق حلاوة العبادة، وطعِم طعْم الإيمان، وتمتّع بطاعة الرّحمن، فتمسّك بحبل التّقوى، وظلّ مقبلًا على مائدة الطّاعة، فتنوّر وجهه، وانشرح صدره، ولم يترك ذلك الطّعام الطّيب مِن موائد الرّحمن، حتّى نال الدّرجات عند مليكٍ مقتدرٍ، فإنّ للطّاعة نورًا يُرى في الوجه، وضياءً يُبصر بالعين، ومحبّةً تصل العبد بمولاه، وتربط بينه وبين عباد الله.
2- فلنفرح بفضل الله
لقد خلق الله الإنسان، وجعل الفرح والسّرور طبيعةً فطريّةً له، وأمره بأن يضبط فرحه بضوابط الشّرع الحكيم، حتّى لا يغويه الشّيطان فيهلك مع الهالكين، ولقد ضرب لنا ربّنا مثلًا في قصّة قارون الذّي طغى في فرحه، فكان فرحه مذمومًا وممقوتًا {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76].
وبيّن لنا أنّ الفرح المقيّد بفضل الله ورحمته فرحٌ محمودٌ ومأمورٌ به {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
ولذا أخبرنا عن الشّهداء أنّهم فرحون عند ربّهم بما آتاهم مِن النّعيم {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170].
فجمع لهم بين نعيم البدن بالرّزق، ونعيم الرّوح والقلب، بالفرح بما أنعم عليهم، فتمّ لهم النّعيم والسّرور، وهكذا تعلّمنا من هذه الآيات أن نفرح بكلّ خيرٍ يوفّقنا الله إليه، لا سيّما ونحن على أعقاب شهر رمضان، يحقّ لنا أن نفرح بما أكرمنا الله به مِن إتمام شهر الصّيام، وتوفيقه لما قدّمنا فيه مِن الأعمال والقربات، من أوّله إلى آخره، إلى أن ودّعنا راحلًا إلى ربّه، شاهدًا -عند الله- لكلّ مَن أحسن ضيافته ووفادته، ليكون شفيعًا له بين يدي مولاه، وعندئذٍ يفرح المؤمن بصومه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ).
فلقد بيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ ثمّة فرحةً معجّلةً في الدّنيا، والأخرى في الآخرة، فأمّا فرح المؤمن في الدّنيا فهو أمرٌ جبلّيٌّ، لأنّ الإنسان محتاجٌ للطّعام والشّراب، فإذا مُنع عنه ثمّ سُمح له به فَرِح، لا سيّما عند اشتداد حاجة الإنسان إليه، كما حدّث بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ).
وأمّا الفرحة الثّانية الّتي يدركها الصّائم ففرحةٌ عند لقاء ربّه، بما يجده مِن ثواب الصّيام كاملًا لم ينقص منه شيءٌ، وهو أحوج ما يكون إليه في ذلك الموقف الرّهيب.
خاتِمةٌ:
ما أجمل أن يشكر العبد ربّه على ما وفّقه إليه مِن القُربات والطّاعات، وفعل الخيرات وعمل الصّالحات، وأن يظهر أثر ذلك على لسانه ثناءً واعترافًا، وفي قلبه فرحًا ومحبّةً وشهودًا، وعلى جوارحه طاعةً وانقيادًا، فلا يُبطل ما أسلف في شهر الصّيام مِن صالح الأعمال ،بل يظلّ مقبلًا على ربّه، مترجمًا كلّ ما تعلّمه في رمضان إلى سلوكٍ عمليٍّ، محترسًا مِن عدوّه الّذي كان مأسورًا مهانًا في شهر القرآن، حيث إنّ العبد يعلم أنّه كان محميًّا عن الشّيطان بصيام الفرض، وقيام الشّهر، واليوم -وقد رحل رمضان وجاء الفِطر- فُكّ أسر هذا العدوّ الماكر، وبدأت المعركة بين الشّيطان وأهل الإيمان، فلنكن على حذرٍ شديدٍ، ويقظةٍ تامّةٍ، ولنلجأْ إلى ربّنا ليحمينا مِن شِراك شياطيننا، ولنطلبْ منه قبول ما قدّمنا مِن طاعاتٍ، ومضاعفة ما وفّقنا إليه مِن قرباتٍ، وتكفير ما جنينا مِن خطيآتٍ، ولنسألْه الثّبات على ذلك حتّى الممات.