الثلاثاء 14 شوّال 1445 هـ الموافق 23 أبريل 2024 م
يومُ حُنينٍ والكَثرة الخادِعة
الأربعاء 20 شوّال 1444 هـ الموافق 10 مايو 2023 م
عدد الزيارات : 736
يومُ حُنينٍ والكَثرة الخادِعة
عناصر المادة
1- نصرٌ بعد الهزيمة
2- سياسةٌ حكيمةٌ، وحبٌّ خالصٌ
مقدمة:
لقد أكرم الله رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلم بالفتح العظيم لمكّة المكرّمة، فخضعت عامّة قبائل العرب، سوى بعض القبائل الّتي تغطرست واستكبرت وأُعجبت بقوّتها، ومنها قبيلة هوازن، الّتي استعلت عن الخضوع للإسلام، ورغبت في السّيادة على العرب بعد سقوط قريشٍ وهزيمتها، فجمعوا جموعهم للقضاء على المسلمين، وطرد الخوف من قلوبهم، حيث ظنّوا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سيغزوهم بعد أن دانت له قريش، فقام مالك بن عوفٍ -سيّد هوازن- ونادى بالحرب، فاجتمعت إليه بعض القبائل، ومنهم ثقيف، وأجمعوا السّير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر جنوده أن يُخرجوا معهم أموالهم ونساءهم وأبناءهم، ليثبتوا ولا يجبنوا، ووصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ ‌زَيْدٍ -يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ- أَنَّهُ سَمِعَ ‌أَبَا سَلَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ‌السَّلُولِيُّ أَبُو كَبْشَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ ‌سَهْلُ ابْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَتْ عَشِيَّةً، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ آبَائِهِمْ بِظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمُ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: (تِلْكَ ‌غَنِيمَةُ ‌الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ..). سنن أبي داود: 2501
إنّه الدّرس العظيم في حُسن الظّنّ بالله، والاستبشار بنصره، وإعلاء كلمته، وتأييد جنده، وإنّه الفأل الحسن مع بذل الجُهد والطّاقة، وإنّه الموعظة البليغة في صِدق التّوكّل على الله والإيمان بموعوده، ولكن لمّا كان من سنّة الله في عباده أن يبتليهم بأنواعٍ من الضّرّاء والسّرّاء {‌أَحَسِبَ ‌النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3].
حصل شيءٌ من هذا في غزوة حنين، الّتي حدثت في شهر شوّال مِن العام الثّامن للهجرة، حيث أُعجب المسلمون بعددهم البالغ اثني عشر ألفًا، قَالُ ابْنُ إسْحَاقَ: "زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَ: لن نُغلَب اليوم مِن قلّةٍ". سيرة ابن هشام: 2/444
والعُجْب آفةٌ مدمّرةٌ، فأراد الله عز وجل أن يُذكّر المسلمين في حنين بأنّ النّصر إنّما يكون بالإيمان الخالص والبذل والتّضحية، لا بكثرة العدد والعتاد، فلقّنهم سبحانه درسًا لا يُنسى، حيث اختبأت هوازن في وادي حنين الضّيّق الوعر، وانحدر المسلمون في ظلام الصّبح، فأمطرتهم هوازن بالسّهام والنّبال، فذهل المسلمون مِن المفاجأة، واضطربت صفوفهم، وتراجع أكثر الجيش تحت هول الصّدمة الّتي أصابتهم، وبدت ملامح الهزيمة، ولكن سرعان ما أعادهم صِدق الإيمان إلى الميدان.
1- نصرٌ بعد الهزيمة
لمّا تمّ ما أراده الله جل جلاله مِن تهذيب نفوس المسلمين -الّذين أعجبتهم الكثرة- ليقوى إيمانهم، ويكون اعتمادهم في كلّ حالٍ على الله وحده، ردّ لهم الكرّة على الأعداء، وأنزل السّكينة على رسوله وعلى المؤمنين، وظلّ ثابتًا على دابّته غير وجِلٍ ولا هيّابٍ، وقد بقي معه نفرٌ مِن المهاجرين والأنصار، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ، فَقَالَ: أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ يَا أَبَا عُمَارَةَ! فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ مَا وَلَّى، وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخِفَّاءُ مِنَ النَّاسِ، وَحُسَّرٌ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ، وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ، فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ، كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَانْكَشَفُوا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ، فَنَزَلَ، وَدَعَا، وَاسْتَنْصَرَ، وَهُوَ يَقُولُ: (‌أَنَا ‌النَّبِيُّ ‌لَا ‌كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ، اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ)، قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا، وَاللَّهِ! إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. صحيح مسلم: 1776
ثمّ اشتدّ القتال، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المعركة، ووصف شدّتها، عَنْ الْعَبَّاسِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَا مَعَهُ إِلَّا أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَزِمْنَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ -وَرُبَّمَا قَالَ مَعْمَرٌ: بَيْضَاءَ- أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نَعَامَةَ الْجُذَامِيُّ، قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارَ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ نَحْوَ الْكُفَّارِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ أَكُفُّهَا، وَهُوَ لَا يَأْلُو مَا أَسْرَعَ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِغَرْزِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (يَا عَبَّاسُ! نَادِ أَصْحَابَ السَّمْرَةِ) قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلًا صَيِّتًا، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمْرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، يَقُولُونَ: يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ، وَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ، فَاقْتَتَلُوهُمُ وَالْكُفَّارُ، فَنَادَتِ الْأَنْصَارُ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ قَصُرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَادَوْا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، قَالَ: فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ) قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: (انْهَزَمُوا ‌وَرَبِّ ‌الْكَعْبَةِ) قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا، حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ.. مصنّف عبد الرّزّاق: 9741
وأنزل الله قوله: {‌لَقَدْ ‌نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التّوبة: 25-26].
ولمّا رجعوا إلى المدينة منصورين، طلب بعض الصّحابة مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَخْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: (‌اللَّهُمَّ ‌اهْدِ ‌ثَقِيفًا). سنن التّرمذيّ: 3942
فاستجاب الله سبحانه دعوته، وجاءت وفود ثقيف تُعلن إسلامها، ولقد كان لهذا النّصر أثره في نفوس كثيرٍ ممّن لم يُسلم مِن أهل مكّة، فأسلموا لمّا عاينوا تأييد الله لنبيّه، وإعزاز دينه، وما أجدر أن نتعلّم مِن غزوة حنين أنّ حُسن التَّوكّل على الله مع الصّبر والثَّبات والجَلد وقت الصِّعاب -كما نمرّ به اليوم- سببٌ لاستجلاب النَّصر المؤزَّر؛ مهما بلغت قوّة الأعداء، وأن يقتدي القادة العسكريّون بالقائد الأوّل: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكونوا على قدرٍ كبيرٍ مِن الشّجاعة في مقدّمة الصّفوف، ثابتين بالميدان حتّى ولو ولّى جنودهم هاربين.
2- سياسةٌ حكيمةٌ، وحبٌّ خالصٌ
لمّا أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، قسم للمتألّفين مِن قريش وسائر العرب ما قسم، ولكنّه لم يعطِ الأنصار منها شيئًا، وكلّ ذلك كان بمقتضى سياسةٍ حكيمةٍ منه صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَمْرو بْنِ تَغْلِبَ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ مَالٌ، ‌فَأَعْطَى ‌قَوْمًا ‌وَمَنَعَ ‌آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقَالَ: (إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وأكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ) فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ حُمُر النَّعم. صحيح البخاريّ: 7097
ولمّا لم يُعطِ الأنصار شيئًا مِن غنائم حنين؛ وجدوا بأنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمعهم ليبيّن لهم سبب منعهم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللهِ مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ، وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْمَقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ وَاللهِ رَسُولُ اللهِ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَّمْتَ فِي قَوْمِكَ، فَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: (فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: (فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ) قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ، فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَوَجْدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا، فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟) قَالُوا: بَلَى، اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: (أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟) قَالُوا: وَمَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: (أَمَا وَاللهِ ‌لَوْ ‌شِئْتُمْ ‌لَقُلْتُمْ، ‌وَلَصَدَقْتُمْ، وَلَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ فِي رِحَالِكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، أَنْ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ) قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَفَرَّقُوا. الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف: 6530
ولقد كان هدف النّبيّ صلى الله عليه وسلم مِن هذا المنهج التّربويّ الفريد الّذي خاطب فيه عقول الأنصار وعواطفهم، تحويل قلوبهم مِن حبّ الدّنيا والطّمع بالغنائم، إلى حبّ الآخرة ونعيم الجنّة، فكانت النّتيجة أن انقادوا طائعين راضين بقسمة الله ورسوله، فهلّا صفت نيّاتنا، وأخلصنا في جهادنا كما أخلص أسلافنا الأطهار؟!
خاتمةٌ:
 ما أجدر ألّا يغيب عن عقول المؤمنين أنّ النّصر مِن الله وحده، يؤتيه مَن يشاء مِن عباده، فيأخذوا بالأسباب مع عدم الاغترار بالعدد والعُدّة، ويعلموا بأنّ ثبات القائد في الأزمات وثقته بالله، لهما أثرٌ كبيرٌ في تحويل الهزيمة إلى نصرٍ، وأنّ المؤمن إن أيقن أنّ الله معه يسدّده وينصره، كان رابط الجأش في الشّدائد والصّعوبات، ثابتًا في الضّوائق والملمّات، وهذا ما نحتاجه دائمًا -لا سيّما ونحن نواجه التّحدّيات- لاستلهام كلّ المعاني الّتي تجعلنا أقوى وأقدر على مواجهة ما يعترضنا في طريق العزّة و النّصر، الّذي لا يملكه إلّا الله وحده ‌{وَمَا ‌النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
إنّ في حوار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأنصار فوائدَ عدّةً، ودررًا جمّةً، تنطوي على حُسن أدب الأنصار في تعاملهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدّة حبّهم لرسول الله وحيائهم، وفيه الحلم واستعطاف المعاتِب، وأن لا يعنَّف عليه، بل يبيَّن له الحقّ بأسلوبٍ رقيقٍ لطيفٍ مقنعٍ، كما يعلّمنا هذا الحديث -أيضًا- أهميّة الحوار والنّقاش، وأنّه السّبيل الأفضل، والعلاج الأمثل لإصلاح البيوت والمجتمع، وإذا ما رأى الإنسان مِن أحدٍ ما يكرهه وينقمه عليه، كان عليه ألّا يكتم ذلك ويخفيه، فيجد ألمًا وحرجًا في قلبه، وسوء ظنٍّ بصاحبه، بل عليه مصارحته بلطفٍ وأدبٍ، وعلى الآخر ألّا يُغضبه ذلك أبدًا، بل يشكره على إهدائه عيبًا كان خافيًا عليه، والمؤمن مرآة أخيه المؤمن.
حقّا: إنّ سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم موضوعٌ شيّقٌ محبّبٌ إلى النّفوس، وما ذاك إلّا لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أحبّ الخلق إلى قلوب المؤمنين، وكلّما قرأ المؤمن مِن سيرته ازداد له حبًّا وشوقًا، فهو أجود النّاس وأشجعهم، وأحلمهم وأجملهم، ولا شكّ أن في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الفوائد والعبَر وترقيق القلوب وربطها بالله مالا يوجد إلّا في القرآن الكريم، ونحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى تعليم أبنائنا وبناتنا ونسائنا، سيرة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، عِوضًا عمّا تُغذّى أدمغتهم مِن تقديس اللّعب واللّهو، وتقدير الفنّ الهابط الماجن، وكلّ ما يسخط الله ولا يرضيه.
1 - سنن أبي داود: 2501
2 - سيرة ابن هشام: 2/444
3 - صحيح مسلم: 1776
4 - مصنّف عبد الرّزّاق: 9741
5 - سنن التّرمذيّ: 3942
6 - صحيح البخاريّ: 7097
7 - الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف: 6530
دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 114) 80%
غير فعال (صوتأ 27) 19%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 143