1- آدابٌ راقيةٌ
2- مِن هديه صلى الله عليه وسلم في الاجتماع على الطَّعام والشَّراب
3- اليد المباركَة
مقدمة:
خلق الله سبحانه الإنسان وله احتياجاتٌ يوميّةٌ مِن الطّعام والشّراب والنّوم وسواه، ولمّا كان الإسلام دينًا كاملًا -أُعلن يوم عرفة كماله- فقد نظّم للإنسان كيفيّة تعاطيه مع هذه الحاجات {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وهو كذلك دِين اليسر، كما أعلن يوم النّحر ذلك (افْعَلْ وَلَا حَرَجَ).
ومِن يُسره أن لم يشقّ على الإنسان، فأباح له الطّعام والشّراب {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-32].
بل جعل أيّامًا في السّنة هي أيّام أكلٍ وشربٍ، يأكل الغنيّ والفقير فيها اللّحم، عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ).
وفي هذه الأيّام يحرص العبد الصّالح على وظائفه تجاه خالقه سبحانه، فلا يغفل عنه، فتحجبه النّعمة عن المنعم، ويحجبه المخلوق عن الخالق عز وجل، بل يظلّ قلبه معلّقًا بالله، يحمده ويثني عليه، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا).
ومَن لا يحفظ الحديث الآتي! عن عُمَرَ بْن أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه، يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ).
ومثله عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِهَا)، قَالَ: وَكَانَ نَافِعٌ يَزِيدُ فِيهَا: (وَلَا يَأْخُذُ بِهَا، وَلَا يُعْطِي بِهَا).
1- آدابٌ راقيةٌ
قبل أن يباشر المرء طعامه يجدر به أن يقوم بعدّة أمورٍ؛ منها: أن يغسل يديه قبل الطّعام، فهو سنّةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقايةٌ مِن الأمراض السّارية، وأن يجلس فلا يأكل قائمًا، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، (أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا)، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْنَا فَالْأَكْلُ، فَقَالَ: (ذَاكَ أَشَرُّ أَوْ أَخْبَثُ).
إلا أن يكون المشروب ماء زمزم؛ فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه شربه قائمًا، ونحن في هذه الأيّام على موعدٍ مع وصول حجّاج بيت الله بسّلامة إن شاء الله يجلبون معهم ماء زمزم، فمن شربه قائمًا لم يخالف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: (سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ).
وإذا ذكرنا الشّراب فلنعرّج على بعض آدابه، ومنها: ألّا يتنفّس في الإناء؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ).
فكيف نفهم الحديث الآتي؟ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا).
يشرحه الحديث الآخر الّذي ينصّ على أنّ التّنفّس أثناء الشّرب مطلوبٌ، لكنّ المرفوض أن يكون النّفس في الإناء، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا، وَيَقُولُ: (إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ)، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: (فَأَنَا أَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا).
ومِن آداب الطّعام والشّراب: أن يسمّي الله جل جلاله قبل طعامه وشرابه، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ، وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ، فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ).
وعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا).
2- مِن هديه صلى الله عليه وسلم في الاجتماع على الطَّعام والشَّراب
تنقل لنا كتب السّنّة آدابًا تتعلق باجتماع النّاس على الأطعمة والأشربة، ومنها أن يُقدَّم الشّراب لكبير المجلس ثمّ يُقدّم لمن هو عن يمينه، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرٍ، وَمَاتَ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ، وَكُنَّ أُمَّهَاتِي يَحْثُثْنَنِي عَلَى خِدْمَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا دَارَنَا فَحَلَبْنَا لَهُ مِنْ شَاةٍ دَاجِنٍ، وَشِيبَ لَهُ مِنْ بِئْرٍ فِي الدَّارِ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ شِمَالِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ، فَأَعْطَاهُ أَعْرَابِيًّا عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ).
قَالَ أَنَسٌ: (فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ).
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: (أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟) فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا وَاللهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِه.
ومنها: أنّ المولِم يُستأذن عند ازدياد عدد القادمين، كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شُعَيْبٍ رضي الله عنه، وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَرَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَرَفَ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَقَالَ لِغُلَامِهِ: وَيْحَكَ، اصْنَعْ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةِ نَفَرٍ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، قَالَ: فَصَنَعَ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ وَاتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ)، قَالَ: لَا، بَلْ آذَنُ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ).
ومنها: ألّا يذبح المُضيف الحلوب، وفي الأضحية ذبح الذَّكر أولى مِن الأنثى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ -أَوْ لَيْلَةٍ- فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: (مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟) قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا)، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيْنَ فُلَانٌ؟) قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ)، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ).
3- اليد المباركَة
تطالعنا في كتب السّنّة أحاديثُ تبيّن لنا بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الطّعام، عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، يَقُولُ: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ لَهَا: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ، قَالَ: فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، فَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ: فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَتْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ فِي نَفَرٍ مَعَكَ، فَصَاحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: (يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ)، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَتَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ)، فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْدَمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لِي، فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينَتَنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: (ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا) وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَتَنَا -أَوْ كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ-: لَتُخْبَزُ كَمَا هُوَ.
فاللّهمّ صلّ على النّبيّ المبارك، الّذي جاع وتعب حتّى تصلنا دعوة الحقّ، وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ: قَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟)، قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: (أَلِطَعَامٍ؟)، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: (قُومُوا)، قَالَ: فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتْ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ حَتَّى دَخَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلُمِّي، مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟) فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَآدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ)، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ)، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) حَتَّى أَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلًا أَوْ ثَمَانُونَ.
إذا جاع فقراء الأمّة ثمّ أكلوا اللّحم يوم العيد فلا يبتئسوا؛ فقد جاع قبلهم سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم.
خاتمةٌ:
دلّنا النّبيّ المبارك صلى الله عليه وسلم على مفاتيح البركة؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا) أَوْ (يُلْعِقَهَا).
وعَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا".
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: (إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ).
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ).
فتأمّل هذه الأحاديث تحرص على النّعمة وتداريها، وترى اليوم بعض الموائد يأكل الأغنياء منها طرفًا ويلقون سائرها في القمامة، فهل تبقى بعد ذلك بركةٌ في طعامٍ وشرابٍ!
فلنخشَ مِن مخالفة الآداب النّبويّة، فقد خالفها امرؤٌ يومًا -كِبرًا- فشُلّت يمينه، عن سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّ أَبَاهُ رضي الله عنه، حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: (كُلْ بِيَمِينِكَ)، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: (لَا اسْتَطَعْتَ)، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ.
كلوا واشربوا هنيئًا مريئًا، فهي أيام أكلٍ وشربٍ، لكن لنعرف حقّ الله سبحانه فيما أنعم علينا، فحقّه أن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُذكر فلا يُنسى، فهو المنعم {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24-32].
الآية الأخيرة تجمع بين الآدميّ والأنعام، ويفصل بينهما الحمد، فمَن أكل فلا سمّى ولا شكر أفلا يكون كالأنعام تتمتّع! {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44].
فالحمد على نعمائه.