1- كيف نحوِّل الصَّيف إلى ربيعٍ
2- دَور الوَليِّ في صيانة وقت الصَّبيِّ
مقدمة:
انتهى العام الدراسيّ، وبدأت العطلة الصّيفيّة، وفي هذا تنبيهٌ لنا على مرور الأيّام والشّهور، وبالتّالي انقضاء الأعمار، فما الإنسان إلا مجموعةٌ مِن الأنفاس يتنفّسها في هذه الحياة، وكلّما خرج نفسٌ اقترب مِن الحفرة الّتي سيصير إليها، يقول ابن القيّم: "السَّنة شَجَرَة، والشهور فروعها، وَالْأَيَّام أَغْصَانهَا، والسّاعات أوراقها، والأنفاس ثَمَرهَا، فَمن كَانَت أنفاسه فِي طَاعَةٍ فثمرة شجرته طيّبَة، وَمن كَانَت فِي مَعْصِيّةٍ فثمرته حنظلٌ، وَإِنَّمَا يكون الجداد يَوْم الْمعَاد، فَعِنْدَ الجداد يتَبَيَّن حُلْو الثِّمَار مِن مرّها".
يحتاج الإنسان بعد أوقات الجدّ والاجتهاد إلى التّرويح عن النّفس، وذلك لتقوم نشيطةً إلى العمل الجادّ التّالي، فعلى المرء إذ يروّح عن نفسه أن يستحضر نيّةً صالحةً في هذا التّرويح، فقد كان الصّالحون يحتسبون الأجر في نومتهم، كما يحتسبونه في قومتهم، والنّوم راحةٌ، والقيام جهدٌ، لكن لمّا كان السّبيل إلى ذلك الجهد لا يكون إلا بتلك الرّاحة كانت النّومة محلّ احتساب المحتسبين، ويشهد لهم أنّ الشرع رتّب على مواقعة الرّجل أهله الأجر، لأنّه بذلك سلك سبيل الحلال، وأبعد نفسه عن الحرام، فهو مأجورٌ بذلك.
العطلة الصيفيّة بابٌ لخير عظيمٍ إن أحسنّا استثماره، ومدخل لشرٍّ عظيمٍ -كذلك- إن لم نحسن إدارتها، فاجتماع الفراغ والشباب سببٌ للمفاسد العظيمة إن لم نتنبّه، يقول أبو العتاهية:
علمتَ يا مجاشعُ بنَ مَسْعَدَهْ... أنَّ الشبابَ والفراغَ والجِدَهْ... مَفْسَدةٌ للمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهْ
1- كيف نحوِّل الصَّيف إلى ربيعٍ
الصّيف فرصةٌ ذهبيّة لحفظ القرآن، ومراجعة المحفوظ القديم، وفهم آياته وتدبّرها، فبيوت الله سبحانه مفتوحةٌ لهذا الشّأن، وفيها تجد الرّحمة والسّكينة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ).
وقد شجّع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يردوا المسجد فيتعلّموا فيه القرآن؛ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: (أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطْحَانَ -أَوِ الْعَقِيقِ- فَيَأْخُذَ نَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ بِغَيْرِ إِثْمٍ بِاللَّهِ عز وجل، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟) قَالُوا: كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَلَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَإِنْ ثَلَاثٌ فَثَلَاثٌ مِثْلُ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ).
وجعل الخيريّة في تعلّم القرآن وتعليمه، عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ).
وفي فترة التّعلم يتعتع الطّالب ويعاني فيبشره الحديث بالأجرين، أجر التّلاوة وأجر التّعتعة؛ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ، مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ).
كما حثّ على تعاهد المحفوظ مِن القرآن لئلا يتفلّت مِن صاحبه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثْلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِذَا عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أُطْلِقَتْ ذَهَبَتْ).
ولبيان كرم القرآن وفضله جعل تعليمه مهرًا؛ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ)، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: (أَعْطِهَا ثَوْبًا)، قَالَ: لاَ أَجِدُ، قَالَ: (أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ)، فَاعْتَلَّ لَهُ، فَقَالَ: (مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟) قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ).
فهل سنستغلّ العطلة فنعمر بها قلوبنا بنور القرآن؟ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِبِ).
فإن فعلنا ذلك فالفوز العظيم نجده أمامنا يوم القيامة، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يُقَالُ -يَعْنِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ-: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا).
2- دَور الوَليِّ في صيانة وقت الصَّبيِّ
يفرح الأولياء بالذّريّة إذ يرزقهم الله سبحانه منها، ويقولون هذه مِن زينة الحياة الدّنيا {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].
وهم محقّون في هذا، لكن ينبغي ملاحظة المسؤوليّة الّتي تترتّب على هذا النّعمة، فالابن يولد على الفطرة، ورُبّ أبٍ غفل عن ابنه فوجد أن الفطرة انحرفت في وقت فراغ الابن وانشغال الأب، والعطلة الصّيفيّة ظرفٌ لمثل هذا فلنحذر؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ).
مشى الطّاووس يومًا باختيالٍ فقلّده بمشيته بنوه
وينشأ ناشيء الفتيان منّا على مَا كَانَ عوّده أَبوهُ
وقد أمر القرآن المؤمنين أن يتّقوا النّار هم وأبناءهم وأهليهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. [التّحريم: 6].
والصّبا زمن التّأديب والصّيانة، فإذا غفلنا عن أبنائنا في هذه العطل لا يفجؤونا إلا وقد اكتسبوا مذموم الصّفات مِن مصادرها المعروفة:
قد ينفع الأدب الأحداث في مهل وليس ينفع بعد الكبرة الأدب
إنَّ الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت ولن تلين إذا قوَّمتها الخشب
يحرص الآباء على طعام أبنائهم ولباسهم، ويغفلون أحيانًا عن رأس مال الصّبيّ وهو عمره، يغفلون عن أنّه ماضٍ على كلّ حالٍ، والواجب استثماره في التّعلم والتّأدب بآداب الإسلام، فنعلّم أبناءنا أن الفراغ نعمة، ينبغي أن تُحمد فتُصرف فيما يُرضي الله عز وجل، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ).
ولنعلّمهم أيضًا أنّنا مسؤولون غدًا عن أعمارنا وعن شبابنا كيف أمضيناه؛ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ).
فما كنت مسؤولًا عنه غدًا لتحرص عليه مِن اليوم، ولتعدّ للسّؤال جوابًا، وفي هذا رحمةٌ مِن ربّنا وعناية إذ يحثّنا بذلك على استثمار أوقاتنا، فسبحانه مِن ربّ يربّي عباده.
خاتمةٌ:
حرص القرآن على بيان أهمّيّة استثمار الوقت مِن خلال تصوير حال المفرّط في الآخرة وأنّه يرجو أن يعود ليعمل الصّالح {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10-11].
وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27].
وقال أيضا: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزّمر: 58].
وقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
وإنّ العجب ليعتري المرء عند رؤية احتفال الأهل بأعياد ميلاد أبنائهم، وهو -لو تأمّلوا- خطرٌ لا فرحٌ، لأنّه مع كل عيد ميلادٍ -كما يسمّونه- خسر مِن عمره سنةً لن تعود، فنحتفل بالإنجازات كالنّجاح وحفظ القرآن، لا بمضيّ الأعمار، وبداية العطلة الصّيفيّة تكون نتائج المدارس، فليفرح أبناؤنا بنجاحهم لا بذكرى ميلادهم:
إنَّا لنفرح بالأيَّام نقطعها وكلُّ يومٍ مضى مِن عُدَّة الأجلِ
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا فإنَّما الرِّبح والخسران في العملِ
في العطلة الصّيفيّة فراغٌ، فماذا أمر الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يعمل إذا فرغ؟ {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشّرح: 7-8].
وهذا زادنا يوم نلقى الله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. [آل عمران: 185].