قوَّتنا.. في اعتصامِنا بحَبل ربِّنا
1- تضحيات الأبطال
2- الاجتماع قوَّةٌ والتَّفرُّق هلَكةٌ
مقدمة:
لقد شرع الله سبحانه الجهاد في الإسلام، وجعله فريضةً مِن أقدس فرائضه، وركنًا مِن أقوم أركانه، مَن أنكره فقد كفر، ومَن تخلّف عنه بدون عذرٍ شرعيٍّ فقد نافق، ومَن فرّ مِن ساحته فقد باء بغضبٍ مِن الله، ومأواه جهنّم وبئس المصير، وإذا كان عقاب المقصّرين في الجهاد عظيمًا، فدرجة المجاهدين عند الله أعظم الدّرجات، وفوزهم ما وراءه فوزٌ، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التّوبة: 20].
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (وأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ).
فالجهاد في سبيل الله أكرم العبادات منزلةً، وأكثرها بذلًا وتضحيةً، وأخلدها ذكرًا وثناءً، ولقد شرعه الله لِحكَمٍ جليلةٍ، ومنافع كثيرةٍ، حيث إنّه يشدّ بنيان الإسلام، ويُعزّ أمّته، ويحقّق أهدافه، ويرهب منه الأعداء، وإنّه علاجٌ لكلّ ظلمٍ وشرٍّ، ودواءٌ لكلّ فسادٍ وطغيانٍ، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحجّ: 40].
ولقد جعل الله الجنّة تحت ظلال السّيوف، وإنّ أفضل الجهاد اليوم جهاد الرّوافض والمجوس، والنّظام الفاجر ومَن سانده مِن إيران والرّوس، الّذين جمعوا جموعهم، وحشدوا قواهم على أرضنا، فانتهكوا الحرمات والمقدّسات، وسفكوا الدّماء، وسلبوا الخيرات، فانبرى لهم المجاهدون الأبطال، والأشاوس الأحرار، بكلّ شجاعةٍ وإقدامٍ، باذلين الأموال والأرواح، لصدّ عدوانهم، والقضاء عليهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وهذا يتطلّب منّا ثباتًا ومرابطةً، وصبرًا وعزيمةٍ، واجتماعًا واتّحادًا، ونبذًا للخلافات و النّزاعات، حتّى يتحقّق النّصر المبين، والفتح القريب.
1- تضحيات الأبطال
إنّ مِن أعظم البراهين الّتي يقدّمها المؤمن على صدق إيمانه، أن يؤثر ما يرضي الله عز وجل على حظوظ النّفس ومشتهياتها، فلقد برهن سلف هذه الأمّة على ذلك بأفعالهم وتضحياتهم، أُوذوا في سبيل الله فما لانوا، وأُخرجوا مِن ديارهم بغير حقٍّ فما وهنوا، وساومهم المشركون على أن يتركوا دينهم، أو أن ينخلعوا مِن أهليهم وأولادهم فانخلعوا فرارًا بدينهم، حتّى لو فقدوا في سبيله كلّ عزيزٍ مِن الأهل والولد، ولو اغتربوا بسببه عن الدّيار والبلد، ويتجلّى ذلك في هجرتهم مِن مكّة إلى المدينة، وفي جوابهم للنّبيّ صلى الله عليه وسلم لما استشارهم في التّعرّض لعير قريش، واحتمال الوصول إلى الحرب والقتال، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، "أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ رضي الله عنه فَأَعْرَضَ عنه، فقام سعد بن عُبَادَةَ رضي الله عنه فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ: لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا، قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا".
ما أجملها مِن عزيمةٍ على التّضحية والفداء، ومنازلة الكفّار وأهله! مهما كلّف الأمر! فالثّمن جنّةٌ عرضها السّماوات والأرض، ولمّا تقابل الجمعان، والتحم الصّفّان، صدّق الصّحابة أقوالهم بالأفعال، فقوّة إيمانهم ويقينهم بما أُعدّ لهم في الجنّة، جعل بعضهم يستطيل حياته الباقية، وإن لم يبق منها إلّا لحظاتٌ يسيرةٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: (مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟) قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا)، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِل.
إنّه إيمانٌ عجيبٌ، ومسابقةٌ إلى موعود الله بالجنّة على وجه السّرعة، فلا تأمّل ولا تلكؤ، ولا نظر إلى الدّنيا وزينتها، ولا تفكير في الأهل والعشيرة، فليس في قلوبهم إلّا الله والدّار الآخرة، ولقد رأينا في ثورتنا المباركة -مِن صغارنا وشبابنا، ورجالنا ونسائنا- مَن اقتفى أثر أولئك الأبطال، فقاموا يسطّرون أروع البطولات والتّضحيات، في جهاد النّظام النّصيري المجرم، ومَن والاه مِن روسيا وإيران، وقسد وحزب الشّيطان، فإنّهم منذ انطلاقة الثّورة المباركة، وحتّى هذه اللّحظات، وأحرارنا -مِن أقصى الشّمال إلى أقصى الجنوب- يقفون صفًّا واحدًا في وجه محاولات التّقسيم لبلدنا الحرّ الأبيّ، يرفعون صوتهم عاليًا، رفضًا للظّلم والطّغيان والإجرام.
2- الاجتماع قوَّةٌ والتَّفرُّق هلَكةٌ
لقد كان النّاس قبل الإسلام في جاهليّةٍ جهلاء، وضلالةٍ عمياء، يسفكون الدّماء، ويقطعون الطّريق، ويأكلون الميتة، ويسيؤون الجوار، ويعتدي القويّ على الضّعيف، وكانوا جماعاتٍ متفرّقةً متناحرةً، حتّى جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغدوا متحابّين متآلفين بفضل الله، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
وإنّ هذا التآلف مِن أهمّ مقوّمات النّصر على الأعداء، بأن يكون المؤمنون معتصمين بحبل الله جميعّا، متواصين بالحقّ والعدل، مجانبين معاول الهدم والشّرّ، فقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ).
وإنّ الفرقة والاختلاف داءان وبيلان، يسبّبان للأمم الهدم والفساد، وقد يؤدّيان إلى الاقتتال، كما رأينا في الآونة الأخيرة، حينما سلّط بعض أبناء الشّام سلاحهم في وجه البعض الآخر، متّبعين أهواءهم، تاركين عدوّهم الحقيقيّ المجرم، وإنّ هذا الأمر جِدّ خطيرٌ، فما أُصيب بنو إسرائيل بالنّقص والخذلان، وحاق بهم الذّل والهوان -رغم أنّ النّبوّة كانت فيهم وقد فُضّلوا على العالمين- إلّا بسبب اتّباع أهوائهم الّتي أوصلتهم إلى الفرقة والعداوة فيما بينهم، قال تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64].
وما قصّ الله علينا ما وقعوا مِن الفرقة والاختلاف إلّا لنحذر مسلكهم، فنعتصم بحبل الله جميعًا ولا نتفرّق، ولذلك نهانا ربّنا أن نكون كما كانوا، لئلّا نضلّ كما ضلّوا، قال عز وجل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
ومع هذا التّحذير العظيم مِن التّفرّق والاختلاف الّذي أبدأ فيه القرآن وأعاد، فإنّ أمّة الإسلام ليست معصومةً مِن الاختلاف فيما بينها، الّذي سببه اتّباع الهوى والغرور بالدّنيا وزخرفها، وقد يبلغ التّفرق بالأمّة مبلغ الاقتتال فيفني بعضهم بعضًا، ويقتلون أنفسهم ويتركون أعداءهم كما وقع ذلك فيما مضى، وإذا كان التّفرّق والاختلاف واقعًا في هذه الأمّة لا محالة، فليس معنى ذلك أن نستسلم له فنهْلكْ، قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
فالفرقة شرٌّ وعذابٌ، وهي سبب الوهن والاضمحلال، ورفع الأمن، وحلول الخوف والدّمار.
خاتمةٌ:
الجهاد فرض عينٍ على كلّ مسلمٍ قادرٍ، إذا داهم العدوّ أرض المسلمين، أو انتهك حرمتهم، وتعدّى على كرامتهم، وها هو ذا العدوّ المجرم جاثمٌ على أرضنا، يفتك بالأبرياء، ويسفك الدّماء، ويشرّد الآمنين، ولا يرعى فينا إلًّا ولا ذمّةً، فيجب علينا أن نتسلّح بالإيمان الخالص كما تسلّح به رعيلنا الأوّل، وأن نُعدّ العدّة، ونحمل السّلاح، ونستمسك بديننا، ونعتصم بحبله، ونخوضها معركةً فاصلةً، فإمّا حياة العزّة والكرامة، وإمّا الموت في سبيل الله والشّهادة، وإنّ هذا الأمر يتطلّب منّا توحيد الصّفّ، واجتماع الكلمة، ونبذ الخلافات، وبذل الجهود المادّية والمعنويّة، للوقوف في وجهه صفًّا واحدًا متراصًّا، ولصدّه وردّه على أعقابه خاسئًا مندحرًا، فاجتماع الكلمة على التّقوى والمحبّة، وتوحيد القوى على مجابهة العدوّ المشترك، هو أساس كلّ سعادةٍ وسيادةٍ، وعماد كلّ تقدّمٍ ورقيٍّ، بل إنّ الخير كلّه في اجتماع الكلمة، وفي توحيد الصّفوف، وفي التّضحية والفداء، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصّفّ: 10-12].
فمَن أدرك ذلك حقّ الإدراك، دَانَ لله بلزوم الجماعة، وحذِر مِن مفارقة المسلمين، وشقّ عصاهم، والشّذوذ عنهم، وممالأة أعدائهم عليهم.